الفساد.. قضية قديمة متجدّدة
د. إيمان مرداس
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الفساد نتيجة اتساع دائرته وتشابك حلقاته، والصعوبات التي تكتنف محاربته واستئصاله من نسيج المجتمعات، لكونه لا يقتصر على شعب دون آخر أو دولة دون أخرى، فهو منظومة مرتبطة بالبناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقضائي للدولة، وبسلوك الأفراد والمؤسسات.
والفساد ظاهرة عالمية إقليمية محلية، إنسانية ومجتمعية، قديمة ومتجدّدة، طالت مجالات الحياة بكل تفاصيلها، وعلى الرغم من أنها ظاهرة قديمة وملازمة للمجتمعات البشرية، لا يوجد إجماع على تعريف موحّد ومحدّد يحظى بموافقة الباحثين يطال أبعاد الفساد. وإن كان التعريف الأكثر رواجًا هو انتهاك مبدأ النزاهة والانحراف عن القيم والمبادئ والأخلاق، كما أنه من الصعب تحديد نقطة انطلاق هذه الظاهرة، ولكن يُمكننا القول إنها ارتبطت بوجود الإنسان على الأرض عندما شرَّع لنفسه ارتكاب سلوكيات فاسدة مدفوعة بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية.
وتؤكد الشواهد التاريخية أن الحضارات القديمة عانت من هذه الآفة، حيث أُشير إلى جرائم الفساد في قوانين عشتار وأورنامو وآيشنونا وحمورابي في بلاد الرافدين، وكشفت بعض البرديات القديمة عن تشريعات وقوانين المصريين القدماء، أهمها تشريع الفرعون «حور محب». وفي الحضارة اليونانية عكف علماؤها على تشخيص هذه الآفة وسُبل معالجتها، ولعل أشهر قوانينهم قانون «داركون» وقانون «صولون»، وكذلك قانون الألواح الاثني عشر عند الرومان، ولم تغفل قوانين زرادشت وكونفوشيوس عن هذه المسألة. وتبين الوثائق انتشار محاكم التفتيش لمراقبة الموظفين ومحاسبة الفاسدين، وأن عقوبة جرائم استغلال النفوذ والرشوة وإنكار العدالة كانت تصل حد الإعدام. كما شنّت الأديان السماوية حربًا لا هوادة فيها على الاستغلال والاستعباد والتعدي، واتفقت على تحريم هذا السلوك مهما كانت أسبابه وأشكاله ودوافعه، لكونه يُعَدّ مانعًا أخلاقيًا، ووباءً فتاكًا يؤثر على مجالات التنمية، ويهدد أمن المجتمع.
أما في عالمنا المعاصر، وأمام تضخم هذه الظاهرة، وتطوّر أساليبها، وتشعّب اتجاهاتها، وتعدد أصنافها بدءًا من الفساد السياسي، مرورًا بالفساد الاقتصادي والقانوني والثقافي، وصولًا إلى الفساد الأخلاقي، هبّت عناصر المجتمع الإنساني، وتدخّلت الهيئات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية لاتخاذ الإجراءات الضرورية والتدابير الوقائية والردعية الفعالة ضد الفساد. وتؤكد الدراسات أن أغلبية الدول وحكوماتها عاجزة عن إيجاد حلول سريعة وآليات متطورة في إرساء دعائم الشفافية والنزاهة، بحيث لم يعُد الحديث عن الفساد كظاهرة، بل أصبحت سلوكًا ونهجًا، طالت كافة الدول بغض النظر عن نظامها السياسي وقدرتها الاقتصادية، فما بالك بدولة صغيرة مثل لبنان نهش الفساد المتراكم النسيج الاجتماعي فيها، وتحكّم بمعظم مرافق الإدارات العامة، في ظلّ غياب رؤية واضحة وشاملة لمكافحته.
احتلّ لبنان درجة متقدّمة وفق التصنيف الدولي للبلدان التي يضربها الفساد، لكون جذوره عميقة وأبعاده واسعة ومتداخلة. وانتقل مفهوم هذه الظاهرة من ممارسات سلوكية لا تخضع إلى ضوابط أو معايير معينة إلى ثقافة وقاعدة عمل يومية، كما أنها لم تعد شأنًا داخليًا بل أصبحت مشكلة عابرة للحدود أمام التطوّر التكنولوجي وتقدّم الاتصالات الحديثة، فالعالم أجمع يتحدّث عن ملفات الفساد التي طالت حقوق المواطنين الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم والرشوة والوساطة والمحسوبية، وآخرها بيع شهادات جامعية لعسكريين اشتروها لنيل الترقيات. والجدير ذكره أن هذه القضية لا تقتصر على لبنان وحده، بل موجودة في دول عديدة. السوق مفتوح والدعاية مكثفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت لجامعات ومعاهد تمنح شهادات مزوّرة للمستويات كافة ومختلف التخصصات.
وكنتيجة حتمية فقد اختلت المنظومة التعليمية وجنحت عن مسارها الحقيقي، بحيث لم يعد يُنظر إلى التعليم بأنه مفتاح المستقبل والضمان الأول للنهضة، ولم يعُد يُقاس رقي الشعوب بنوعية تربيتها ومضامين تعليمها وفعالية تكوينها. والأمر الأكثر خطورة وجود بيئة حاضنة اجتماعية وسياسية تركت العنان لهذا الداء أن يستشري وينطلق كالنار في الهشيم، وسمحت للفاسدين قيادة الشأن العام، والتوغل في إدارات الدولة، والتحكم في تشريعاتها وقوانينها، بحيث أصبحت مبادئ النزاهة والشفافية عملة نادرة.
السكوت عن الفساد خيانة للوطن، وكافة المبادرات والقوانين المحاربة للفساد ستظل حبرًا على ورق إذ لم يتم خلق إرادة مجتمعية مبنية على قواعد وأسس سليمة تحاكي الضمير والوجدان الإنساني.