لماذا الإفراج عن الحكومة الآن؟
د. وفيق إبراهيم
باتت تشكيلة رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري قريبة من الصدور لا ينقصها إلا بعض الرتوش التقليدي لإزالة تشنّجات بين القوى السياسية تراكمت في مراحل تعطيل التشكيل مع بعض اللقاءات التصالحية والبروتوكولية للزوم المناسبة الدستورية.
لذلك فهذه هي مرحلة العودة الفولكلورية الى اتفاق معراب وعودة الدروز الى عباءة التاريخ الجنبلاطي اليزبكي، وفرملة الشيعة لبعض مطالب حلفائهم.
ما الذي استجدّ اذاً حتى تبخرت العقبات؟
البناء الحكومي في لبنان له رأس إقليمي دولي وجسد داخلي، والاثنان يؤثران على بعضهما بعضاً ويتفاعلان مع الأحداث الاقليمية بشكل يحاولان فيه تحقيق مصالح داخلية لهما، على أساس تأمين الانتصار والقرار اللبناني لولائهما الخارجي، هذا هو لبنان منذ القرن التاسع عشر.
انّ الأحداث الطارئة على العلاقات الأميركية السعودية منذ إصرار الرئيس الاميركي ترامب على «تدفيع» السعودية أموالاً لأنه يحميها ويحمي آل سعود، نالت من هيبة المملكة وأثرت نسبياً على مكانتها خصوصاً أنها انهمكت بمعالجة هذا «الانقلاب الأميركي» عليها ما جعلها تنكفئ نسبياً عن الكثير من مداخلاتها الإقليمية. وهذا ما أربك الموالين لها في لبنان فأصيبوا بجمود في حركتهم السياسية محاولين تعبئتها بالكثير من السفرات والخطابات والوعود العرقوبية.
لكن ما جعل التشكيل مسموحاً سعودياً فمرجعه إلى اغتيال الإعلامي المعارض جمال الخاشقجي في قنصلية بلاده السعودية في اسطنبول التركية، فهذه الجريمة تسبّبت بتدهور العلاقات بين تركيا البلد الذي حدثت على أراضيه الجريمة والولايات المتحدة الأميركية، التي لجأ اليها الخاشقجي بعد مغادرته الرياض منذ عام، منظماً من خلال وسائلها الإعلامية حملة على ولي العهد محمد بن سلمان.
إنّ انكشاف الجريمة على المستوى العالمي جعل محمد بن سلمان وفريقه في موقف صعب. فالأتراك يريدون اقتناص الفرصة لتحسين أوضاعهم في الإقليم من قطر إلى سورية والعراق، وذلك بجذب تأييد سعودي لهم كان أقرب الى العداء منهم قبل وقوع الجريمة. وأدّى التصعيد التركي في الأسبوع الأول من الجريمة المستند الى إثباتات بقتل السعوديين للخاشقجي الى حشر ولي العهد في زاوية ضيقة جداً قطعت حبال علاقاته مع الإقليم، حتى انه أوحى الى إعلاميين موالين له الإعلامي الدخيل بالتهديد برحيل السعودية استراتيجياً وسياسياً، وبالتالي اقتصادياً نحو إيران وسورية وحزب الله وروسيا والصين.
هناك عناصر إضافية لن تتخلى عن الإدانة الإعلامية والسياسية للسعودية مهما ساومت واشنطن وأنقرة ومعظم الأنظمة الأوروبية. وهي قوى سياسية من داخل هذه الأنظمة، وبعضها ينتمي الى خطوط المعارضات في مجالس الشيوخ والنواب في العالم الغربي عموماً ومعهم وسائل إعلامهم ومنظمات حقوق الإنسان والمرجعيات الإعلامية والكثير من المنظمات. هذه لن تتراجع عن اتهام ابن سلمان وتكشف في الوقت نفسه تورّط الغرب وتركيا في تغطيته مقابل صفقات اقتصادية واستراتيجية بالنسبة لأردوغان.
أدّت هذه التراجعات في الدور السعودي الى استنهاض دور كبير للفرنسيين الحالمين بالعودة الى الشرق من بوابة لبنان، وذلك للوصول الى منابع الطاقة وأسواق الاستهلاك.
استفاد ماكرون من الانكفاء النسبي السعودي على المستوى السياسي متمكّناً من نيل ما يشبه الموافقة السعودية على دوره اللبناني الجديد ومستفيداً أيضاً من التراجع الاقتصادي اللبناني بتقديم مؤتمر «سيدر» للدولة الداعمة برعاية بلاده على أنه الحلّ للاقتصاد اللبناني المتدهور، للإشارة فإنّ حساب الدولة اللبنانية في المصرف يكشف بأنه لا تحوز إلا على مصاريف لثلاثة أشهر وها هو «سيدر» يقدّم لها قروضاً ميسّرة ومساعدة بنمو 11.2 مليار دولار واستفادت فرنسا من شروط «سيدر» التي تنص على حكومة لبنانية جديدة ترعى إنفاق أموال «سيدر» على قطاعات أساسية وبرعاية أوروبية فرنسية تمنع الفساد المعمّم في لبنان.
هذا يوضح كيف استفاد الفرنسيون من اغتيال الخاشقجي والتدهور في الاقتصاد اللبناني وكانوا بحاجة لـ «ثالثة الأثافي» أي الركن الثالث للموقد البدائي القديم، وكانت قرارات الكونغرس الأميركي الأخيرة التي وضعت حزب الله ضمن خمس قوى عالمية تعمل على الإرهاب الدولي العابر وبعض هذه القوى عصابات فعلية تتاجر بالأفيون والكوكايين والاغتيال على طريقة المافيا.
وفي محاولة «لنشل» الموقف وتشكيل الحكومة قبل تحوّل قرار الكونغرس من حزب الله قراراً رئاسياً أميركياً قابلاً للتطبيق وصالحاً لعرقلة تشكيل حكومة لبنانية بحجة أنّ قسماً من وزرائها ينتمي الى «تنظيم إرهابي معولم».
اتفق الرئيس الفرنسي ماكرون مع نظيره اللبناني عون في لقاءاتهما الأخيرة على هامش القمة الفرنكوفونية في أرمينيا على الإسراع بتشكيل الحكومة على قاعدة التنازلات المتبادلة وتمرير مطالب تريدها السعودية وخصوصاً بإعطاء القوات أربع حقائب بما فيها نيابة رئاسة الحكومة.
ويبدو أنّ حلفاء الوزير طلال أرسلان أقنعوه بأن يكون الوزير الدرزي الثالث حيادياً وبينه وبين الوزير جنبلاط برعاية رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري.
أما لجهة الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لا يشكل جزءاً من البناءات المذهبية اللبنانية، فإنّ نوابه ينتمون الى مذاهب مسيحية وحقه الطبيعي أن تتمثل كتلته النيابية بمقعد وزاري بعيداً عن منطق التحاصص الطائفي والمذهبي. وهذا يُعدّ من الخطوات التاريخية التي تدفع نحو نهايات نظام طائفي لا يزال يمنع الوحدة بين اللبنانيين مؤسّساً على الأرض لولايات مذهبية متناحرة يتفق ممثلوها في النظام السياسي على الناس والاقتصاد فقط…
لكن دقة الظروف الإقليمية المتقاطعة مع تهديدات «إسرائيلية» للبنان وغزة تجعل من أمر تشكيل الحكومة مسألة شديدة الإلحاح حتى ولو لم تتمكن المقاومة من نيل ما يعادل حجمها النيابي الفعلي، وذلك في سبيل إنقاذ لبنان من أنواع التآمر الداخلي والخارجي المتقاطع مع دلع سياسي تمارسه قوى داخلية تنام في «طربوش الإقليم» منذ مئتي عام وأكثر.