الفنان التشكيلي الفراتي جمعة الناشف: أصالة التشكيل تكمن في مراحله… وصالات العرض تستبيح الأعمال الفنية
رنا صادق
وجوه هنا وتجلّيات هناك، تلاشت معها الأذهان وسبحت فيها العقول في فضاء مسكون مكلّلة بالذاتية والآنية، ناهيك عن حلاوة النفس في نَفَس الإبداع الخاص بمعرض «خربشات خلف القماشة» للفنان الفراتي جمعة الناشف.
شاء الفراتي أن يحكي حكاياته، ما بين العشق وآلام الروح، تأمّل البعيد وانكبّ على نظرات اليوم لينتج عملاً فنياً عميقاً، يمكن القول، لا بل لا بدّ من القول، إنه فنّ شامل أسطوري كامل يلوح في طيف الفرات ووجع الرقة الشهيدة وأسئلة المكان والهوية المضرجة.
أسطورة الفراتي ملحمة في التشكيل، وعالم من الخيال في التصميم، هو المبدع المتألق، والكلمة الصعبة في حقل الفنّ والموهبة، أظهر في كل مرة فرادة وفي كل معرض نكهة، واليوم، كما عوّدنا، كانت نكهته مميزة حين أنساب وجدانه وانبثت ذاته في معرضه الثالث عشر، الذي يقام في دار الندوة الحمرا والذي يستمر لغاية 26 من الشهر الحالي.
لم أعتد النفخ والتطبيل في إبداع لا يستحقّ، وفي تشكيل لا يُحب وفي كلمة لا تُسمع، لذا إن تكلّمت في إبداع ما كان الصدق رديف كلماتي، لذا من صميم صدق الكلمة والإحساس الفنيّ الذي يتوجّب علينا كصحافيين وكتّاب أن نتبعهما أقول للفراتي الفنان التشكيلي، لوناً وشكلاً وكلمة، الحافر جلجلته في رجام عصرنا الأحمر أن يبقى نبضنا الجميل، رغم التحدّيات لأنه فنان شامل وعام، باستمرار مشعّ بثقته في موهبته وصدق إحساسه، ودُم نسغ روحنا الفراتية المخصاب، لأنك في زمن قلّت إنتاجاته الفكرية والفنية والإبداعية لصالح المحسوبيات والفئوية والمصالح.
«البناء» جالت في معرض الفنان التشكيلي الفراتي جمعة الناشف «خربشات خلف القماشة» وكان لها حديث معه حول سبب استخدامه الحبر الصيني في اللوحات ومكنونات العنونة وغيرها. إليكم نص الحوار..
المعرض هو نقلة نوعية للفراتي بحسب قوله، فهذ المعرض كان متنفساً لروحه ولمحبّي فنّه وأعماله، والمعرض له علاقة وطيدة مع نصوصه الشعرية في ديوانه «خربشات خلف القماشة» التي أصدرها بالتزامن مع افتتاح معرضه.
وعن سبب التسمية «خربشات خلف القماشة»، يقول: هذه التسمية جاءت من وحي التجربة ومن عمق المرحلة التي مررت بها حيث إنني أخصّص في كلّ مرحلة وأتوجّه نحو مادة معينة وألوان مختلفة، لذلك مررت سابقاً بتجربة اللون الأخضر حيث طغى في تلك الفترة الاخضرار على لوحاتي، كذلك بالنسبة لتجربتي مع اللون الأزرق.
مرحلة الأبيض الأسود…
الفراتي دائم النشاط، دائم التجدّد والتطور، هو في حالة إنتاج مستمرّ في التشكيل والرسم، انقسم المعرض إلى شطرين، شطر اتسمت لوحات الفراتي بالألوان الكثيرة في اللوحة الواحدة باستخدام الأكريليك، وشطر استخدم فيه الحبر الصيني وتزينت اللوحات بالأبيض والأسود، يبرّر الفراتي ذلك قائلاً: تجربة الحبر الصيني تختلف عن تجربة الألوان، من حيث الوقت والمجهود والروحية، فاللوحات المرسومة بالحبر الصيني لا تستغرق وقتاً طويلاً على عكس اللوحات الملونة.
وعن سبب التوجّه نحو اللونين الأبيض والأسود في هذه الخربشة، قال: هذه الخربشة باستخدام هذين اللونين كانت لهدف النصوص الشعرية في الديوان حيث تتناسب مع الكتاب، أما الألوان الأخرى فلا تتناسب مع وحي الكتاب وفحواه، وأذكر أنني استخدمت تسعاً وأربعين لوحة في الكتاب من لوحات الوجوه المرسومة بالحروف العربية باستخدام الحبر الصيني باللونين الأبيض والأسود.
أكثر الفنان جمعة الناشف من رسم الوجوه، أو بالأحرى رسم الوجوه بوجهات عدّة وزوايا وكوادر، حيث أضاف روحية لهذه الوجوه مع توحيد التعبير في هذه الوجوه والعمل على العدد، ففي لوحات مثلاً رسم حوالي عشرة وجوه وفي بعضها عشرين وجهاً، بتعبير موحّد، وقصة مختلفة. ويقول عن ذلك: الوجه هو المرآة. مرآة لكل ظل إنسان، ومرآة كل ظرف يمرّ به الإنسان، والوجوه تعبّر أكثر للآخرين بطريقة خاصة، حيث إن المتلقي يوحي له الوجه ما يريده، فكل فرد يقرأ هذه اللوحات بطريقة فريدة خاصة به. ويضيف: أنا كفنان تشكيلي لا أعمد التصنّع في لوحاتي، ولا أعمل على التخطيط المسبق للكشف عن فكرة أو محتوى اللوحة، فأبدأ بالخربشة وأنتهي بلوحة، لكنني أضع في حساباتي التوازن والحركة في اللوحة، فأهم هدف بالنسبة إليّ هو التوازن بين الأطر الأربعة للوحة.
«قناع»
ما بين الوجه والقناع آلاف الحكايا، وما بين التشكيل والشعر قيود وخيوط، فكّكها الفراتي بجمالية ومزيج خفيف ومريح، واستخدم في نصّه الشعري «قناع» التوجّه للحبيبة بكلمات معسولة وعتاب، فأطلق نغماته قائلاً:
«تلعبين بالقول
وتبكين
تتخفّين بين الياسمين
بحروفك تلبسين
بأحشائي تمزّقين
تخيّطين الجروح
بزيف السنين
وأنا مبحر بغرامي
لا صلاة فيه
نوافذي مشرّعة
وتقولين أنت النسيم
وأنتِ الحنين
أنتِ المطر ونبيذ الشهوات
أنتِ السحر وعجين المحرّمات
وتقولين
خذني بين ألوانك
بين قماشاتك
بين أحجارك ورخامك
أغرسني حبّا
سواد ليل أكحل
ألبسني حريراً مرمر
فأنا في غربتي
يقتلني الرحيل
يُشقيني
تحييني الكلمات
كانت عشتار…».
الفراتي لا يترك مرحلة لأجل مرحلة أخرى، فهو يفترق عنها قليلاً، لكن لا يفارقها على الدوام، لذلك يعتمد على تجربة جديدة بنكهة خاصة، وبتجارب جديدة. هذه الخربشة اليوم هي إسقاطات لروحية ونفسية الفراتي في وقت ما ومكان ما وظروف معينة، حيث إنه عاش وسط بلبلة المشاعر والأحاسيس كأي فنان تشكيلي، فخربشته هي سلامه واسترخاؤه.
وفي استخدامه الحروف في اللوحات بشكل تعبيري يقول: أعطيت الحرف الشكل التعبيري لا شكله الحقيقي، فهي حروف إن اقترب الزوار على اللوحات اتضحت معالم هذه الحروف وهذه التقنية هي نوع جديد من الاستخدام الإبداعي في حقل التشكيل والفرادة.
حالات انفعالية… وعشق
رسالة الفراتي من هذه الخربشات هي نقل معاناته، حياته اليومية وإعطاؤها روحية جمالية فنية خاصة به. فيقول: رسالتي هي حالاتي الانفعالية، رسالتي هي حياتي، رسالتي هي غرامي وعشقي. بالإضافة إلى نقل معاناة الفنانين التشكيليين المبدعين في هذه الأيام وما يتعرّض له الفنان التشكيلي من صعوبات في التوافق مع صالات العرض الخاصة التي تقوم أبرزها على مبدأ المحسوبيات والمصالح والتجارة لا ترتبط بتقديم الفنّ والإبداع والتقديم.
في معرضه الثالث عشر يقول الفراتي: أنا دائماً إلى الأمام، لن أقف عند حدود الظروف والأحوال. هروبي إلى النصوص الشعرية في ديوان سببه الأساسي هي المعاناة مع صالات العرض… وقريباً سأهرب إلى المسرح.
ومن وحي المعرض اخترنا لكم قصيدة «ريشتي والقماشة»:
أمسك بيدها ترسمني
آهات وآهات
تلوّنني
تخطّ الكحل بالكحل
وتزيّن الشفاه احمرار النبيذ
على عجلة تستبق النهار
على القماشة ترسم المحار
تزخرف قميصي باللؤلؤ والمرجان
أمسك بيدها لترسمني
قبلة من ألف ألف عام
تبعثر ألواني هدي الحمام
فوق أغصاني تلملم الرخام
وتحاول جمعي من بعد الفطام
هي تعرف عطر السلام
هي تعرف بوح الكلام
وأمسك بيدها لترسمني
ملء الليل بحر من غرام
كانت ريشتي في الظلام».
سيرة ذاتية
الفنان الفراتي جمعة الناشف هو من مواليد مدينة الرقة سورية عام 1969، عضو اتحاد التشكيليين السوريين، متخرج من معهد الفنون الجميلة في الرقة 1987.
نال الجائزة الثالثة لـ»مهرجان بصرى» عام 1985 في مجال النحت، شارك العديد من المعارض الجماعية في كل من دمشق، حلب والرقة. شارك في معرض البادية للنحت حماه 1997، معرض كرنفال المحبة والسلام في بيروت عام 2014، معرض مهرجان «من أجلك يا عراق النازحون في قلوبنا» في بغداد 2014،
بالإضافة إلى ثلاثة عشر معرضاً فردياً وهي: «بدايات»، «رخام الحي»، «رقص الرخام»، «نوافذ»، «فنجان قهوتي»، ترانيم فراتية»، تحية إلى زحلة»، «تحية حب ووفاء لسورية الحبيبة»، «النحت المباشر على الرخام والصخر»، «وجه أمي»، «ست الحنان»، و»جلجامش عبر الزمن». كما قام بتنفيذ جميع المجسّمات النحتية «نحت الشعر على الصخر» في ساحة الشاعر المهجرس جودت رستم حيدر في بعلبك عام 2009، وقام بتنفيذ جميع الأعمال النحتية والأيقونات في كنيسة مار جرجس في زحلة.