حزب الله وحركة أمل… أكبر من تحالف! مبرّرات العلاقة وأهدافها
صادق النابلسي
يجب أن أؤكد اليوم وبعد تجربة هذا العام والعام الماضي بين حزب الله وحركة أمل والأسئلة الكثيرة التي تُثار إعلامياً أو قد يوشوش بها بعض الناس في آذان شباب من حركة أمل أو شباب من حزب الله ويوجه إلينا السؤال وإليهم السؤال؟ مَن الاول ومَن الثاني؟ مَن التابع ومَن المتبوع؟ مَن اللاحق ومَن الملحوق؟ مَن يأخذ مكان مَن؟ ومَن يشطب مَن؟ ومَن يحذف من؟ بعدما قاله دولة الرئيس الأستاذ نبيه بري قبل أيام. أودّ أن أقول لكم في مدينة الإمام الصدر بين حزب الله وحركة أمل كان هناك تحالف ولم يعد هناك تحالف، لأنّ حزب الله وحركة أمل باتوا روحاً واحدة وجسداً واحداً وإرادة واحدة وموقفاً واحداً يمشون معاً ويقفون معاً ويجلسون معاً ويواصلون الطريق معاً ويدافعون عن لبنان ووحدته الوطنية وعيشه الأهلي وعن سلمه وأمنه واستقراره وهويته وعروبته ومع كلّ الشرفاء في هذا العالم . الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله 25/5/2006 .
«يحاولون الدخول بين أمل و حزب الله، بين فكي الكماشة المتمثل بالجنوب والبقاع، بين العشائر والعائلات، بين الطوائف والمذاهب، وأحياناً بين أمل وأمل… نسوا أننا أنهينا العصر الإسرائيلي. إن ّأمل وحزب الله عينان ورئتان في قفص لبنان الصدري ينبعان من البقاع ويصبان في الجنوب». الرئيس نبيه بري 31/8/2018 .
لم تمرّ حقبة في تاريخ العلاقات بين حركة أمل وحزب الله أسوأ وأشدّ قتامة من المرحلة التي شهدت اقتتالاً عنيفاً بين القوتين الشيعيتين أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وانتهت باتفاق في دمشق برعاية سورية إيرانية في كانون الثاني من العام 1989. الاتفاق ركّز على تنظيم الخلافات وتحديد التموضعات السياسية وتثبيت التوازنات الميدانية، والأهمّ أنّه أبعد شبح الوهم عند قيادة أمل حول وجود خطر وتهديد وشرّ نابع من جهة حزب الله، أو اعتبار الصراع هو العلاقة الطبيعية والحتمية، أو بكون صعود حزب الله وتنامي قوته يستدعي حكماً سقوط أمل !
هكذا نما صراع، عكس حالة عميقة من سوء الفهم وانعدام الثقة والمخاوف المتبادلة، استُحضرت له مادة وفيرة من التراث والأيديولوجيا كادت أن تطيح أساسات الجماعة الشيعية وتشتتها، وهي آنذاك تقف أمام ضروب شتى من التحديات، ولا تجد سبيلاً آمناً إلى انتزاع حقها من أيدي الطوائف الأخرى، ولا ضمان وجودها أمام عدوانية «إسرائيل» ومصالح أميركا الجوهرية في لبنان ومحاولاتها لجرّه إلى مدار هيمنتها، لكن استمرار الصراع كان أمراً لا يمكن عملياً قبوله شيعيّاً، لأنّه يدمّر نسيج المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل الطائفة، وإيرانيّاً لأنّه يعكس عجزاً في فعالية الجماعة التي تتولاها بالدعم لدور تضلع به في مجرى النزاعات والتحوّلات المحلية والإقليمية، وسوريّاً لأنّه يوسّع الشرخ مع الحليف الإيراني من جهة، ويهدّد شكل العملية السياسية والأمنية التي ترعاها الحكومة السورية بعد التوقيع على اتفاقية الطائف لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية. فكان المطلوب إعادة ترتيب نطاق التنازع وتخفيض التصعيد بانسحاب كلّ فريق إلى حدود اطمئنان الآخر، وذلك بإيجاد صيغة تتساكن فيها حركة أمل مع أفضلية استحواذ حزب الله على إدارة العملية القتالية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، مقابل تساكن حزب الله مع أفضلية لحركة أمل في استحواذها على إدارة العملية السياسية الداخلية في أنساقها المؤسساتية والخدماتية وفي علاقات الطائفة الشيعية مع الدولة والطوائف الأخرى وما تتيحه دواعي التواصل والمخاطبة مع الخارج. وهكذا تمّ التفاهم في إطار نموذج من العلاقات يحرص فيه الراعيان الإقليميان الإيراني والسوري على الحفاظ على هذا التفاوت في المهام والأدوار لحليفيهما المحليين، ففازت حركة أمل بشروط المعادلة الداخلية، وفي مقابل ذلك انخرط حزب الله في بناء معادلة القوة الاستراتيجية ولكن ليس في إطار خطوط فصل ثابتة ونهائية ومطلقة. وأهمية ذلك، أنّ اتفاق دمشق وتطبيقاته في ما بعد سمحت لكلّ طرف بهامش مقبول من الحركة في ساحات العمليات التكتيكية والاستراتيجية، ومرونة مأمونة في مساحات المناورة السياسية والعسكرية حال تعرّضهما وتعرّض البلد لتأثيرات الداخل وضغوط الخارج. كانت سورية مهتمة بدرجة أساسية في تثبيت مقاربتها للتسوية بإدخال حلفائها اللبنانيين ومنهم حليفها الشيعي حركة أمل في معادلة السلطة، وكانت إيران مهتمة بتثبيت مقاربتها الإسلامية الثورية للصراع مع الكيان الصهيوني وتعزيز حضور حليفها حزب الله في معادلة المقاومة. انتهى الأمر بتوازنات مرضية لكلّ من إيران وسورية ومنافسات مضبوطة ومنظّمة بين أمل وحزب الله.
كانت حرب أمل حزب الله أقصى إهانة يمكن تصوّرها في تاريخ شيعة لبنان، وكان يمكن لمس عواقبها ونتائجها الكارثية في ذهن وخيال كلّ شيعي. ومعالجة الموقف وقتذاك تطلّب قدراً عالياً من التسامح والغفران، وحرباً على المخاوف، وجرأة في تفكيك التعقيدات النفسية والسياسية. لاحقاً سعت القيادتان بجهد حثيث للحدّ من الاستفزازات بين المحازبين والمناصرين، وعمدت إلى تطويق أيّ إشكال على نحو عاجل، بل ومنعت تسرّب الذكريات الأليمة إلى وسائل الإعلام وتحويلها إلى مادة لسجال عائلي أو سياسي. شيئاً فشيئاً بدأت أعراض التغيير كردّ فعل قوي ومذهل على مرحلة عميقة بجراحاتها والتباساتها وتناقضاتها. البيئة الشيعية تقبّلت التفاهمات والإجراءات التنظيمية بقبول حسن، بل شجعت الطرفين على الاستمرار في تمتين العلاقات لإرواء الساحة الشيعية المتعطشة للاستقرار الروحي والاجتماعي. المهمّ أنّ حركة أمل وحزب الله أدركا أنّ الاقتتال كان سيضع حداً لوجودهما ودورهما، ولن تسعفهما غريزة البقاء إنْ لم يتصدّيا معاً للخوف وسوء الظنّ المتبادل، وأنّ المهمة الأساسية تكمن في تجاوز معضلة التنافر التاريخي العميق، نحو عهد جديد من التعايش الواعي. وفعلاً جاء اختبار الاستحقاق الانتخابي لعام 1992 ليؤكد الحقائق الأخلاقية على الأرض ويعكس الطبيعة المريحة للتوازنات السياسية، وبعكس ما يمكن أن يُحدثه التنافس الحزبي عادة من تعقيدات وتجاذبات، فإنّ التحالف بين حركة أمل وحزب الله لم يشهد بعد أن دخل مرحلة الاستقرار معوقات وتعارضات وحساسيات يمكن أن تسبّب أزمة ثقة بين الجانبين بل كانت السياسات والإجراءات والجهود متسقة ومنسجمة مع استراتيجية بناء شراكة ثابتة ومستدامة. كذلك شكّل «الاحتلال الإسرائيلي» لجنوب لبنان والبقاع الغربي مادة التأييد الشيعي العام لمسارات التفاهم، وليوفّر من جهة ثانية أساساً متماسكاً للتواصل والتعاون لمواجهة تهديداته، وقد انعكس ذلك بنحو جلي خلال العدوان الإسرائيلي عام 1993 حرب الأيام السبعة وعام 1996 حرب نيسان ، فظهر التنسيق السياسي والعسكري أوسع أفقاً وأصلب عوداً. لا شك أنّ الأحداث الخطيرة في تلك الفترة التي شهدت ضغوطاً داخلية وخارجية غير مسبوقة على الطائفة الشيعية متزامنة مع مجموعة من التحوّلات المرتبطة بتصفية القضية الفلسطينية، عزّزت الخيارات الأخلاقية والسياسية والجغرافية للشيعة، وسرّعت من خطوات الانفتاح والتكامل والتوفيق بين مصالح الطرفين.
على هذا الأساس، فإنّ سمات المرحلة بين عامي 1992 وحتى تحرير جنوب لبنان وبقاعه الغربي عام 2000 تأسّست وفق الآتي:
1 ـ التعامل مع قضية تحرير الأرض اللبنانية المحتلة من أيدي الصهاينة باعتبارها قضية أولى بالنسبة لشيعة لبنان، ولو لم يحصل تعاطف أو أيّ من أنواع الدعم والمساندة مع هذه القضية من بقية الطوائف الأخرى أو من مؤسسات الدولة الرسمية.
2 ـ اعتبار المقاومة الخيار الوحيد لتحرير الأرض في ظلّ تخلي أو عجز الدولة عن القيام بواجباتها على هذا الصعيد والتأكيد على كونها الضمانة في مواجهة التهديدات «الإسرائيلية»، وليس ما تقدّمه القوى الكبرى من وعود ومبادرات بنحو مباشر أو عبر الأمم المتحدة ومؤسساتها.
3 ـ الوعي بضرورة الحفاظ على السلم الأهلي على المستوى الشيعي وكذلك الوطني، وإكسابه بعداً أخلاقياً وكيانياً واستراتيجياً.
4 ـ تقوية ارتباط الشيعة بالدولة من خلال تعزيز حضورهم في مؤسساتها المدنية والعسكرية.
5 ـ إعادة ترميم وتأهيل البناء الاجتماعي، لجعل المجتمع الشيعي متجانساً متحابّاً موحداً استناداً إلى الحديث النبوي القائل: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». فمِن دون الامتداد عبر الآخر، أيّ حركة أمل عبر حزب الله، وحزب الله عبر حركة أمل، ومهما كانت الصيغة السياسية للتفاهم متقنة، فإنها لن تثمر تثبيتاً للسلام في نسيج المجتمع واستقراراً في أوضاعه، لذلك كان المطلوب أن يُشكّل أحدهما الآخر ويتداخلا معاً مكونين وحدة في المصير والتطلعات!
6 ـ توسيع دائرة المصالح المشتركة بهدف الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية والمصالح العامة للجماعة الشيعية من خلال تكثيف اللقاءات التنسيقية بين قيادات الحزبين، إقامة المناسبات الدينية والاجتماعية والسياسية المشتركة، تنظيم احتفالات عاشوراء بتجاوز الملابسات التنافسية، تعزيز الروابط والعلاقات الشخصية إلخ… في محاولة لخلق الإحساس عند جمهور الطرفين بأنّ شيئاً ما يجري عمله يصبّ في مصلحة أبناء الطائفة جميعاً.
نجاح حزام الأمان الشيعي
مع اكتمال التحرير بدا جمهور أمل وحزب الله مقيّداً بالتمام بعجلة المنطق الذي فرضته القيادتان، محمولاً بالحرص الشديد على أطر التضامن، خصوصاً أنّ السلام الداخلي لا يزال رهيناً لتوازنات دقيقة كلّفته تضحيات جسيمة، ولم يكن يصحّ منه الاطمئنان لنوازع عميقة عند قوى محلية وأخرى خارجية تضغط على المقاومة وسلاحها وتضع البلاد عند احتمال انشطار جديد، تخالج نتائجه مسار التسوية في المنطقة وعملية تصفية القوى المناوئة للمشروع «الإسرائيلي» الأميركي. فأمام خريطة العصبيات الطائفية والمذهبية وضغوط القوى الإقليمية والدولية، فإنّ مطلب الوحدة بات أولوية لمواجهة غدر الزمان، فهو ذريعة بقائه ومبرّر أمنه وسلامه وخروجه من حلقة الحرمان والتهميش.
بعد الهزيمة المذلة للجيش الإسرائيلي وخروجه من الأراضي اللبنانية المحتلة عام 2000 تركزت الجهود العدائية لتستهدف حزب الله وسلاحه وتحوّلها إلى أزمة داخلية وإقليمية. حركة أمل اعتبرت أنّ استهداف الحزب وسلاحه تدشين لمرحلة ولعبة اسراتيجية جديدة. موقف رئيسها نبيه بري أقام سدّاً منيعاً في وجه أيّ إجراء يمسّ بسلاح المقاومة. تمتع الرجل ببصيرة استراتيجية ورؤية سياسية من شأنها ألا تسمح باستغلال «إسرائيل» والقوى الخارجية لتصفية الحساب مع المقاومة. المخطط الذي كان يمضي داخل متاهة زمنية وأمنية بالغة التعقيد، تعلّقَ بحسم وضعية حزب الله وحسم وجوده نهائياً. فمن تفجير برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك عام 2001، إلى مبادرة الملك السعودي عبد الله من بيروت لتسوية الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» عام 2002، إلى احتلال العراق عام 2003، إلى تسميم ثم وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004، وصدور القرار الدولي رقم 1559 القاضي بانسحاب القوات الأجنبية السورية من لبنان وحلّ جميع المليشيات اللبنانية حزب الله ونزع سلاحها، إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، كلها مسارات ومصالح ورؤى وترتيبات تجمّعت ملامحها لتملي أفضل ظروف الحرب للقضاء على حزب الله. وعندما نشبت حرب عام 2006 بكلّ أوارها وقساوتها نجح حزام الأمان الشيعي في إفشال وصدّ أهداف العدو الإسرائيلي. فقد أتقن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والرئيس نبيه بري لعبة توزيع الأدوار وصياغة توازن مدهش في إدارة التجاذبات المحلية والخارجية.
في الحرب وأثنائها وبعدها انعقد نصر وثّق عرى الروابط والعلاقات بين مناصري ومحازبي الطرفين بصورة صرفت من جهة، ما كان يتسرّب من أسى تاريخي، وبدّلت ملابسات القسمة إلى مناشئ جديدة للتعاون والتفاعل الإيجابيين، فيما سبّبت من جهة مقابلة، لعنة ملازمة لـ «إسرائيل» التي كانت تراهن على انشطار أبدي ونهاية دراماتيكية لجماعة تكابر على فعل المقاومة!
لكن خسارة «إسرائيل» الحرب دفع أميركا وحلفاءها الأوربيين والعرب إلى صياغة استراتيجية أوسع أفقاً، والتوجه نحو أنماط من الحرب الناعمة تستهدف فكّ العُلقة بين أمل وحزب الله وجعل مؤيديهما لديهم قابلية للاستغلال والاستلاب والتوجيه عبر حزمة من القيم والأفكار القادرة على التلاعب بمشاعرهم وعقولهم. لذلك انصبّ العمل بعد العام 2006 لجعل البيئة الشيعية غنية بأسباب التشاحن، ومشبعة بالمشاكل الخلافية، كي تفرض نفسها عنوة على اهتمامات القيادتين رغما عنهما. الحرب ونتائجها عززت مكانة الشيعة بما يتعدّى قضية الحفاظ على الوجود والأمان إلى ملء الفراغ الذي تركته سورية بعد انسحابها من لبنان عام 2005 وشكل حينها خللاً عميقاً في التوازنات الداخلية لصالح قوى 14 آذار المناوئة لسورية والمقاومة. بدا الشيعة ممثلين بحركة أمل وحزب الله في تفاهم سياسي على القضايا الداخلية سمح لحزب الله في لحظة زمانية دقيقة المشاركة في السلطة لمواجهة سيل التحديات والتوترات التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري. سيولة التطورات منح العلاقة بين أمل وحزب الله بعداً مؤسّسيّاً راسخاً، فحيث تكون أمل يكون حزب الله، وحيث يكون حزب الله تكون أمل، هذه الصيغة كرّست حضوراً استثنائياً للشيعة في الجهود المبذولة لاستقرار لبنان ورسم معالم مستقبله، وقد استوى ذلك في المبادرات السياسية التي طرحها و هندسها الرئيس نبيه بري وجمع حولها معظم الأفرقاء السياسيين تخفف من غلواء الصراعات السياسية، أو عبر معادلات الردع التي برع في وضع تصميماتها النهائية الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وحالت دون قدرة كيان العدو على شنّ عدوان جديد.
في المحصلة يمكن رصد مؤشرات العلاقة بين حركة أمل وحزب الله بعد العام 2006 ضمن النقاط التالية:
1 ـ رغبة جامعة لدى القيادتين وجمهورهما في تمتين بنيان الوحدة الشيعية.
2 ـ استثمار العلاقة في تكبير وزنهما في المعادلة الداخلية وتحسين موقعهما في النظام.
3 ـ ربط المصالح الشيعية بالمصالح الوطنية لتقليص مخاطر التهديدات المحلية والخارجية.
4 ـ تنظيم العلاقة لدعم وإدارة الأداء الجماعي وتسخير كلّ الجهد والخبرة الشخصية والجماعية من أجل تحقيق قفزة تنموية لإعادة بناء ما دمّره العدو «الإسرائيلي».
5 ـ العمل معاً على فحص الخيارات السياسية المتاحة لضمان الاستقرار العام بعد خروج القوات السورية وتعزيز شبكة التحالفات الداخلية لمنع إشغال الساحة الشيعية بمعارك استنزاف مذهبي.
سيل جديد من الأخطار
مع بداية ما يسمّى الربيع العربي أواخر العام 2010 كان على الطرفين الشيعيين مواجهة سيل جديد من الأخطار. في الداخل كانت المناخات المشحونة بالتطرف المذهبي قريبة جداً من انفجار حرب أهلية، وفي سورية تهديد وجودي للنظام الحليف للمقاومة واستعدادات من قبل الجماعات الإرهابية على تخوم الحدود الشرقية لوصل الجغرافيا اللبنانية مع دوائر جغرافيّة في المحيط السوري الخاضعة لتنظيم داعش وتنظيمات أخرى معادية عقائدياً وسياسياً للشيعة بشكل عام ولحزب الله بشكل خاص. هجمة بكامل همجيتها ووحشيتها كانت تستهدف الوجود الشيعي المقاوم في لبنان. كانت الصورة أشبه بوصف للروائي الفرنسي ميلان كونديرا «إنّ محيط حياتنا غارق في الضباب، لا في ظلمة كاملة، حيث لا نرى شيئاً ونعجز عن الحركة، ففي الضباب يكون المرء حراً ولكنها حرية في ضباب». كان المطلوب تأسيس منظومة الأسباب للانقضاض على حالة المقاومة بكلّ تعبيراتها وأذرعها، وأن يستحكم الخوف على القيادتين فتذهبا للاستسلام والرضوخ للمتغيّرات تحت وطأة الإحساس بالخطر والفناء، تماماً كما حصل في الأيام الأولى لعدوان تموز 2006. بيد أنّ التطورات على جسامتها لم تمنع الرؤية تماماً ولا شلّت الحركة. التقى الطرفان أمل وحزب الله على تحويل الخطر إلى فرصة جديدة. كانت لديهما إرادة على مواصلة السير حتى النصر. الرئيس بري تفرّغ لامتصاص الحراك السياسي والمذهبي المتصاعد وتفكيك أحابيله ومراوغات قادته، والسيد نصر الله أخذ قرار الهجوم واستخدام القوة لإبطال المشروع والتأثير في مجرى الأحداث وليس فقط التعامل معها.
خلال هذه المرحلة جرت العلاقة بين أمل وحزب الله في إطار المحددات التالية:
1 ـ التعامل مع الربيع العربي و الأزمة السورية على نحو خاص بأعلى مستوى من الاستنفار والحذر.
2 ـ التوافق على أنّ المشكلات التي ستفرزها الحرب على سوريا ستنتقل حتماً إلى لبنان، وستنتقل معها القيم والأفكار وأساليبب القتل والانتقام ما يعرّض أمن لبنان والشيعة إلى مخاطر وجودية فادحة. بناء عليه، فإنّ المعادلة التي يجب تفحصها بعناية هي التالي: أينما حلّت المشكلات الإقليمية فإنها تستقرّ باعتبارها مشكلات محلية .
3 ـ التحسّب إلى كون الصراع في سورية غير محدود زمنياً وبالتالي يجب تهيئة الجمهور الشيعي إلى ما يحمله من مخاطر وأعباء.
4 ـ الحفاظ على وحدة الشيعة في وجه الضغوط والشائعات والحملات الإعلامية، واستئصال ذلك الإبهام المتبادل المتعلق بموقف قيادتهم سواء من جهة أمل الذي أخذ طابعاً انكفائياً سكونياً بعيداً عن التورّط المباشر، أو من جهة حزب الله المندفع إلى حمّى المعارك الميدانية والذي مثّل عند بعض الشيعة المرتابين إشكالية عميقة ومخاطرة كبرى في تداعياتها والتباساتها!
5 ـ العمل معاً على تحويل أيّ نتيجة سياسية أو عسكرية إلى غاية تقيم أحوالاً وأوضاعاً جديدة. أو بمعنى آخر استثمار النصر بقواعد وعلاقات وموازين مختلفة عن السابق.
أخيراً، ومع اقتراب الأزمة السورية على الانتهاء وهزيمة القوى الوكيلة والأصيلة في الحرب اتجهت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها وعلى رأسهم الكيان الصهيوني والسعودية إلى مستوى جديد من الضغوط لتحطيم العلاقة بين أمل وحزب الله. فمع إعلان موعد الانتخابات النيابية في السادس من أيار عام 2018 شرعت استراتيجية التحريض والدعاية لتُبرِز إلى السطح فشل تحالف أمل حزب الله في تأمين متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين الشيعة وضرورة انتخاب قوى جديدة بديلة ترفع «الحرمان» وتعيد للمناطق التي يقطنون فيها الألق والنماء والإزدهار. ومهما يكن من أمر الشعارات المرفوعة واللوائح المشكلّة المقابلة للوائح حركة أمل وحزب الله، فإنّ هدف الدعاية كان التالي:
1 ـ إبعاد القوتين الرئيسيتين عن بعضهما البعض ما يؤدّي إلى إضعاف القوة الشيعية في المعادلة الداخلية والإقليمية.
2 ـ تشويه صورة إحداهما عند الأخرى وبث الشكوك المتبادلة لتيئيس الناس من هاتين القوتين اللتين لا تفعلان الكثير من أجل تحسين الأوضاع المعيشية وإصلاح مشكلاتهم الأساسية من النفايات إلى الكهرباء والماء إلخ…
3 ـ تحميل حركة أمل وحزب الله أزمات البلد الداخلية والإقليمية. فأمل موغلة في «الفساد الطائفي المنظم» وحزب الله موغل في «الصراعات الإقليمية» بما لا يتحمّله الشيعة ولبنان بسبب مضاعفاته التي تستنزف كلّ شيعي داخل لبنان وفي بلاد الاغتراب.
4 ـ بث الشائعات المتصلة بقياديين في أمل وحزب الله وتسليط الضوء على فسادهم أو قلة كفاءتهم في إدارة مسؤوليات عامة وسوء اختيارهم الاستنسابية، فقدان المعايير، المحسوبية وإلخ… وإبراز حالة النفور العامة عند الجمهور الشيعي بسبب سياسات التحالف وإخفاقه في تحقيق مطالب الشيعة بدولة عادلة وإنماء متوازن.
5 ـ التهويل بالعقوبات الأميركية والغربية والعربية بحق أشخاص ومؤسسات شيعية لو لم يتمّ الابتعاد عن هذا التحالف واختيار قوى بديلة قادرة على التفاعل مع البرامج والمشروعات الغربية «لإنقاذ لبنان اقتصادياً قبل الانهيار المالي وخراب البلد».
6 ـ تضييق أفق الحاجات والمطالب الشيعية بقضايا خدمية محدودة، وحجب الإنجازات التي حققها التحالف الثنائي في قضايا الأمن والسيادة ودحر الاحتلال «الإسرائيلي» والإرهاب التكفيري والتعتيم حتى على مشاريع قام بها التحالف في مجالات إنمائية متعدّدة وإسقاطها عمداً بطريقة مكشوفة الأهداف والأبعاد.
هذه الحملة دفعت بالأمين العام لحزب الله لتكثيف خطاباته على نحو غير مسبوق ووصل الأمر إلى حدّ عزمه لزيارة القرى والمدن في البقاع «مهما كانت الأثمان ولو تعرّضتُ للخطر» حسب قوله.
صحيح أنّ الطريقة التقليدية التي كان ينتهجها كلّ من حزب الله وحركة أمل في القضايا المطلبية ومتابعة قضايا الناس لم تعد موائمة للمرحلة، لكن ما كان بالإمكان أن تُترك ظاهرة النقمة التي سرت في أوساط الجمهور الشيعي على اختلاف مستوياته من دون تعليق أو تفسير. انبرى الأمين العام لحزب الله في مهمة صعبة لمواجهة الظرف المعادي الذي كان يستدعي من قبل الجمهور الشيعي «استيعاباً ثقافياً»، وفهماً لخريطة التحديات، وتحديداً ووعياً دقيقاً للأولويات، وشرحاً وافياً لكلّ المراحل التاريخية التي مرّ بها الشيعة، وأهمية هذا التحالف الفذّ في حالة النهوض العام، وضرورة استمراره وتأمينه وسلامته من المخاطر.
الاستهداف لم يتوقف
الاستهداف لم يتوقف من لحظة هذا الاقتران قبل العام 2000 وبعد انتصار عام 2006 وحتى هذه اللحظة التي يُراد منها عودة الشيعة إلى حالة التمزّق النفسي والاجتماعي والسياسي. لا شكّ أنّ الثنائي نجح في بناء شبكة أمان مؤسّسيّة للبنان والشيعة في لحظة تمور فيها المنطقة بالأزمات والمخاوف واللايقين، وفي ظلّ بحث مسعور للجماعات العرقية والطائفية عن الأمن. لم يعد لبنان كما كان في السابق، ولم يعد الشيعة حالة هامشية ومهمّشة. لقد تغيّرت موازين القوى الداخلية بما سمح للثنائي لعب دور مؤثر في كثير من الاستحقاقات التي وفّرت كلّ هذا السياق التاريخي الحافل بالإنجازات والانتصارات. أعداء الثنائي لم يتوقفوا عن نشر مطاعنهم ولكن التحدي الأبرز هو في نجاح الثنائي نفسه في بثّ سياسات تبعث على الأمل والثقة والجدة وتُعجز الأعداء من اختراق الجدران وتهشيم كلّ أشكال الالتزام والتكافل والتضامن الاجتماعي الذي دفع ويدفع المخلصون ثمنه دماً وولاء وصبراً جميلاً. يقول المثل: «عندما تكونان في قارب مشترك أعبرا النهر معاً في سلام» وهذا ما تفعله حركة أمل وما يعمل عليه حزب الله.