الفراتيُّ يفيض مشاعر في «خربشات»
نايا يونس
«خربشات خلف القماشة»، كتاب للكاتب السّوري الفراتي جمعة النّاشف المتخرّج في معهد «الفنون الجميلة» في الرّقّة، وعضو اتّحاد «التّشكيليّين السّوريّين». نحّات، شاعر، ورسّام، نال الجائزة الثّالثة لمهرجان «بصرى» عام 1985 في مجال النّحت، وشارك في العديد من المعارض وفتح معارضه الفرديّة في بلده وخارجها ومعظمها في لبنان.
هذا الكتاب هو إصداره الذي تزامن مع إطلاق معرضه التّشكيلي الثّالث عشر مع دار «الفرات للنّشر والتّوزيع»، والذي أهداه الى روح ابنته الشهيدة فاطمة. كتاب «خربشات» قائم على قصائد، تُقابل كلّ منها لوحة من لوحات الفراتي المرسومة بالحبر الصّيني وحروف اللّغة العربيّة والتي تُعبّر عن مضمون النّصّ.
قُسّم كتابه إلى قسمين: الأوّل تعددت فيه القصائد باللّغة الفصحى، والثّاني بلغته الفراتية الخاصة. لكن ما يجمع بين القسمين، هو أنّ النّصوص لا يمكن لها أن تُصنّف في خانة الشّعر لافتقارها قواعده، وبذلك يكون عنوانه خير دليل عنه ويُناسبه تماماً.
كتاب يجذبك في بداياته، كلمات سهلة وأسلوب واضح ومعاني تأسرك، لكن الفراتيّات تُبعدك بعض الشّيء، فكلماته ثقيلة ومكتوبة باللّغة العامّيّة، فكان من الأفضل لو عزلها في كتاب فراتيّات وحده بعيدًا عن «خربشات».
يجذبك الغلاف، تمسك الكتاب وتتمعّن في صورته، ترى الصّورة موضوعة في إطار أسود عريض، كأنّ الرّسّام يحاول تقييد ما بداخله ووضع حدود له. تُلاحظ وجهاً داخل الكادر، مغلق العينين، تعابيره حزينة، خلفيّته سوداء وأمامه ألوان فاتحة، كأنّه خارج من الظّلمة الى النّور، من الحزن واليأس الى السّعادة. صاحب هذه اللّوحة هو الكاتب جمعة النّاشف، إن أصبت بتحليل هذه اللّوحة، فستتكهّن مواضيع الكتاب وستتعرّف الى واقع شخصيّة الكاتب الحزينة، فهو من بلدٍ أنهكته الحرب وما من مواطن عربيّ إلّا أن تأثّر بما يدور حوله، فكيف إن كان شاعرًا يعبق بالأحاسيس؟
تفتح الصّفحات الأولى، تقرأ أولى قصائده «فراتي أنا»، فتتعرّف الى البيئة الثّقافيّة والخلفيّة الأدبيّة التي ينحدر منها جمعة النّاشف، يتنقّل في قصيدته من قامةٍ الى أخرى والى أساطير وموسيقى وطبيعة وفيروزيّات:
«أنام بين أحلامي
وأصحو بفيروزيّات الأرز
هكذا موج أيّامي وشراع قامتي
أسافر بغرامي وترانيم فراتي»
وخير دليل على ثقافته هي أولى لوحاته في الكتاب ص 7 ، حيث جسّد الإنسان الذي يحمل عدداً من الكتب تعلو فوق رأسه، وكان بعضها على الأرض لكثرتها وعدم قدرته على حملها.
بعد هذه القصيدة، يَظهر الفراتي في خربشاته كإنسانٍ كسرته الحياة ولوّعت فؤاده. فنّان جسّد بيئته ومحيطه فيما كتب، تنوّعت قصائده بين الانكسارات والألم «يا وجعي، متعبٌ أنا، أتعبه المسير…» وبين الحنين للأفراد والوطن «اشتياق، غربة، صباح الخير يا يمّه…» وبين عشق المرأة الذي حاز على أكبر نسبة من القصائد «نبض غرامي، نبض اللّيالي، عيناك، عشتار، ليل وعشق…».
تُظهر خربشات الكتاب أنّ عشق الفراتي مميّز، فليس له بعد الآن سوى قلب ينبض للعشق، عشقه سرمديّ ويتمثّل بعشتار إلهة الحبّ ويمزج حبّه مع لوحاته، فيفيض بغزله ذي الطّابع الفنّي. يعصف الحبّ في داخله، فبنظره، «أيقونة الغرام» ليس سوى رجل مات لكنّه باقٍ في نفوس العشّاق، لكن موت هذا العاشق يُعلن بعد حينٍ من العشق. كما أنّ الفراتي لا يستغلّ الحبّ، بل يأخذه ليقدّم مقابله قلبه لمحبوبته قرباناً:
«فأنا ليس لديّ
سوى قلبي
أقدّمه قرباناً
لحبّكي أنتي!!».
كما أنّ تعبه مميّز، أتعبته هذه الحياة التي هو ليس إلّا عابر سبيل فيها، أدّى مُهمّته وفجّر مواهبه الفنّيّة ومشاعره وأحاسيسه على القماشات، وجسّد البركان الثائر داخله، لكن جُلّ ما ناله هو لكمات تلو أخرى أسقطته أرضاً وفازت بجميع الجولات، فكانت كثيرة لمجرّد عابر سبيل على الحلبة:
«عابر سبيل.. ضلّله التّعب
لكمات تلو اللّكمات
وأنا عابر سبيل.. لا أكثر».
أمّا لوحاته فصوّرت حزنه، معظمها وجوه بعضها تفتّت في الهواء شيئًا فشيئًا، وبعضها الآخر ذات عيون حزينة خسرت معنى الحياة، فمن النّادر أن تجد وجوهاً باسمة، لعلّك تجد ثلاثاً لا أكثر بين العشرات. كما هناك لوحات يطغى عليها السّواد، فكانت ريشته ترسم ذهاباً وإيّاباً بهدف عدم ترك أيّ فراغٍ أبيض إلّا لترسيم الحدود. وبالطّبع، كان للمرأة حصّتها في اللّوحات، فرسم بعض النّساء العاريات، وعزف فيها موسيقى أنوثة حبيبته وكان يطرقها بإزميله ليحوّلها الى سمفونيّته وديوانه.
فراتيٌّ فاضت مشاعره كالفرات، أتحفنا بلوحاتٍ معبّرة وخربشاتٍ اخترقت أعماقنا، نقل لنا بعض انكسارات المواطن العربيّ وأدخلنا في خربشات الحياة، لعلّنا نتقبّلها بطريقة فنّيّة لنهوّن على أنفسنا. فهلّا كسرنا حاجز الانكسارات والوجع؟