«فستق عبيد»… تنقيبٌ في حفرات الذاكرة

طلال مرتضى

في عجالةِ القراءة، ثمةَ إقرارُ لا بد منه.. بدايةً، ألا وهو التعامل مع نصٍ إشكاليٍ قائم في الحضورِ الواعي وفي المتخيّلِ معاً. فالواعي هو ما نتلمسَه علانيةً كسبرٍ لواقعٍ حاضرٍ بكل مقارباتِه، وفي المتخيلِ، أشي بأن الكاتب هنا، قد ذهب نحو تعميةِ تجانسية، بمعنى أنه ذهب بكلِ ممكناتِه الكتابية إلى عدمِ تركِ خيطٍ واحدٍ ينهجُ القارئُ من خلالِه نحو قصةِ الوصولِ إلى تأصيلهِ..

وهذا لم يتأتَ من فراغِ الحكاية، فالكاتبُ أيضاً تخففَ من حضوره في سلطة الكتابة الممنوحة له وأسقط عن حالهِ وظائفية الشخصية الواصلة ، وهي التي عرَّفها النقدُ بأنها الجسر الرابط بين قطبي العملية التواصلية أي «علامات حضور المؤلف والقارئ أو من ينوبُ عنه في النصِ».

في روايةِ «فستق عبيد» لكاتبتِها الأردنية سميحة خريس الصادرة عن دار «الآن ناشرون وموزعون للطباعة والنشر والتوزيع» والتي وُشِمَتْ بجائزةِ الروايةِ العربية «كتارا» للعام المنصرم 2017، التي تدور أحداثها بين قارتين من أفريقيا وأوروبا، ما بين دارفور والبرتغال، يروي الجدّ «كامونقة» لأحفاده ومن بينهم «رحمة» عن معاناة العبوديّة حين أُخذ عبدًا لتاجر اسمه «التيجاني» ليأخذه في رحلةٍ على الجمالِ مسافةَ 800 كلم قاطعين الفيافي والقفار، ثم تتشظى الأحداثُ والشخصيات.

يمكن لأي قارئٍ التوقفَ عند أي مفصلٍ منها ليسأل بحريةٍ عمن دوَّن أو كتب وأين يقف الآن، من بابِ أن الكاتبَ هو شريكٌ فعلي حاضرٌ في نصّه. وهذا ما يجعلني أن أردَّ غيابه إلى أمرين اثنين الأول، أن الكاتبة هنا، عملت على لعبةِ الأصوات في العمليةِ الروائية، فلم ترِد لذاتها أن تكون شريكاً فعلياً أو على الأقلْ أن يكون لها حضور شاهد على سيرِ العمليةِ البنائية للنص، لهذا تنَحَّت جانباً من دونِ أن نسمعَ صوتَها. وأما التالي فقد جاء من بابِ التجريب الإبداعي أي حنكةِ الكاتب الذي يقوم ببناء نصٍ فنيٍ قائمٍ على مربعاتٍ لكلٍ منها خواصٌ ذاتية قد لا نجدُها في بِناءِ نصٍ آخر، وعلى سبيلِ التوضيح أقول.. يمكن، كقارئ وبسهولة، إلغاء أو إضافة أي مربعٍ دون أن يتأثرَ معمارُ النص الأساسي ومن دونِ أن يُربكَ هذا التعديلُ عمليةَ السردِ أو أن يخلَّ بالسياق، من بابِ أن الكاتبَ الفعلي غائب. هنا، قد يتبادر للبعضِ أن ذلك قد يُحسب فعاليةً إيجابية للكاتبة، فهي ولربما أرادت التنصلَ من ذاتيتِها لِيكون النصُ مستقلاً عن مدارِها، في محاولةٍ للخروجِ بنصٍ مائزٍ.. بعيداً عن المؤثرات، فخروج الكاتب من هذا الباب لا يعني بأنه صار خارجاً، بل سيدخل عبر بابٍ آخر تمَّ اجتراعه عمداً، ليتلمّس القارئ – عن كثبٍ معرفي واصطلاحي.. ولكون الشخصية في الرواية هي المرآة العاكسة للأحداث داخل الإطار النصي والتي عرفها «رولان بارت بأنها نتاج عمل تأليفي، بعيداً عما نوه إليها «مورتن برنس» بقوله: «هي مجموع الاستعدادات والميول المكتسبة»، بالمقاربة مع تسمية الناقد حسن بحراوي، على أنها ليست سوى مجموعة من الكلمات لا أقل ولا أكثر يستعملها الروائي عندما يخلق شخصية ويكسبها قدرة إيحائية كبيرة بهذا القدر أو ذاك». فأجد أن غياب خريس في الشخصية «الواصلة» كان مفتعلاً وقد بدا هذا جلياً من خلالِ اشتغالها على دينامو الرواية الأساسي في الشخصيتين المحورية والثانوية.

وهنا لا بدّ من التعريف بهما هامشياً، كي يلتقط القارئ العادي مرامي القول، فالشخصيةُ المحورية هي من تبتدئ الأحداث، وبها تُحَلُ العقدة المطروحة، ووظيفتها أساسية حيث يرتكزُ عليها بناء القصة، لكونها «بؤرة الحدث وجسم العمل ومحرّك الوقائع في النص»، أما الشخصية الثانوية فهي تتميز بالوضوح والبساطة وتعتبر المتلازمة الفعلية للشخصية المحورية مهمتها تمهيد وتوازن سير الأحداث، هذا من حيث إنها تقوم بإضاءة «الجوانب الخفية أو المجهولة للشخصية الرئيسية أو تكون أمينة سِرِها فتبوحُ لها بالأسرار التي يطلع عليها القارئ» وكثيراً ما تكون متواطئة أيضاً مع القارئ لكونها النافذة التي تسمح له من خلالها خلع الستار تدريجياً للتعرف والتطلّع على أحداثِ ومجرياتِ النصّ.

من عند هذا التفصيل، نلقي القبضَ على الكاتبةِ خريس متلبّسة بوزرِ تقديم الشخصية الثانوية على حسابِ الشخصيةِ المحوريةِ الرئيسية.. عندما تركت «كامونقه» المصدر الأول في مرويتها ومنبع الحدث. تلك الشخصيةُ الثانوية الإشكالية التي عبَّدت وبسلاسة متناهية كل الدروب الممكنة لدخولِ الشخصية المحورية «رحمة» فـ»كامونقه» الجَد هذا، ومن خلال استرجاعاته، أصل في ذهنية القارئ حضور «رحمة» التي قادت دفة الرواية كما هو مناط إليها منذ ارتكابها الحدث الأول إلى أن تم حل عقدة الرواية «الخاتمة» بغضِ النظرِ عن باقي الشخصيات التي اتكأت عليها الكاتبة خلال مسيرةِ الروي مثل الشخصية المسطحة والتي أعني بها التاجر اليهودي والشخصية المتكررة التي تمثّلت بالتاجر التيجاني، وعوداً على ذي بدء للإشارة التي مررتها في المطالع حول تعميةِ الكاتبة لهويةِ نصِها وهو ما نطلق عليه «المجانسة» والتي نُحيل من خلالها مرد النص. هذا ما جعلني أتوقف ملياً في بابِ الحيرة لتبيانِ انتمائهِ وتصنيفه.

الحدث، السرد… واللغة

وفي ما وجدت أنه أقرب إلى يومياتٍ متصلة منفصلة لأشخاصٍ مروا خلال السياقاتِ واستبطانِ لتواريخَ عابرة وأبعد ما يكون رواية، لكون أننا كثيراً ما نجد تلك اليوميات تتجه إلى السيرة الذاتية، والتي انسلّ من تحت عباءتها العديد من صنوف الكتابة، فهي كثيراً ما تتحدث عن شخصيات حاضرة أو غائبة، لكنها موجودة حفظاً في الذاكرةِ الاسترجاعية أو حتى المعاصرة. وهذا ما حدا بي لتصنيفِ «فستق عبيد» تحت عتبةِ السيرةِ بفاعليةِ شخوصِها الحاضرين أيضاً بمعطى المكانِ والزمان معاً، ومما لا شك فيه هو أن الكاتبة قد قدّمت نصاً مكتملاً من حيث تحقيق شروط وقيامة العمل الروائي والذي يتكئ على قوائمٍ ثلاثْ: الحدث، السرد، واللغة، هذا ما يكفل بأن يمايزه عن غيرِهِ من الطقوسِ الروائية والتي ومن دون منازعٍ نجدها واقفة على عارضٍ واحدٍ من تلك القوائم السالفة.

عدا عن ذلك فقد ذهبت الكاتبةُ هذه المرة، بمعطى عملِها الأدبي، إلى غير مكانٍ وزمان، حينما تناوَلتْ موضوعاً مغايراً لم يزل كوسمِ عارٍ على جبينِ الإنسانية، أي الرِقّْ والعبودية حيث كان الإنسانُ يسبى ويباع ويُعَامَلُ أقل من البهائمِ.

ففي البداية، عمِلتْ الكاتبة على تأصيلِ شخوص مرويّتها ليكونوا حاضرين في ذهنيةِ القارئ، من بابِ أن أياً منهم سيحملُ لاحقاً أكثر من اسمٍ على مدِ السياقات والأحداث ويعودُ هذا إلى ما يطلق عليه العوام «حرفنة» الكاتب القارئ لذهنيةِ قارئِه ودراستها قبل الولوجِ في بناءِ النص المروي، وهذا ما جعلنا نعاينُ نصاً روائياً على الورقِ من خلالِ الإشارةِ إلى كثيرٍ من التفصيلاتِ الصغيرة والتي يتوقفُ عندها قارئ حشري، فتلك التفصيلات الصغيرة تركتها الكاتبة عمداً مثل نقاط علام يعودها القارئ حين يتوه في مفصلٍ من مفاصلِ النص، عندما استعملتْ الجغرافيةَ والعلامات الفارغة للشخوصِ ذاتهم.

كقارئٍ، كنت مُقبلاً على وجبةٍ قرائيةٍ دسمةْ وأعزو ذلك لعدمِ معرفتي بالتفصيلاتِ الدقيقةِ لموضوعِ الرقِ والعبودية إلا من خلالِ معنوناتِه العالية والتي يُرادُ من وراءِ تبيانِها الحضورُ والحظوةُ لكثيرٍ من المنظماتِ، لم «يتوافق حساب القرايا مع حسابات السرايا» كما قال المثل، فالكاتبةُ نهجت دربَ من سبقَها تماماً، فتطرقت لقضية «الزنوجة» وكأني بها قصةٌ عابرة لشخوصٍ بعينهم، وقت اتخذت من هؤلاءِ الشخوص إسقاطاً على حالِ الجمعِ الذي كان حاضراً في النصِ وتم إقصاؤه لتلحق بأبطالِها إلى القصي من كرةِ الأرض. فعملية إخراج الحكاية من فضائِها بدَّدَ دوال خيوطها، لو أنها بقيت من ألفِها إلى يائِها في دارفور السودانية نقطة ارتكازها الأولى حيث الوجع والموت من دون أن يتم تجييرها لأشخاصٍ بعينهم، فإنها كانت لتنادد العالم كله لتبين له فداحةَ ووقاحة ما حدث.

أحلام وانكسارات

وبإصرار أقول، لقد كان ابتعادها عن نقطةِ ضوءِ الحدث «كسراً فادحاً للرواية»، وذلك ليس لشيء إنما للحنقِ الشديد الذي انتابني عندما ذهبتُ دون كسل أو ملل في متابعةِ البطلة بكلِ أسمائها المتعددة «رحمة، رفمة، تركية» ومن دارفور إلى البرتغال وأنا مستمتع بما نسجته الكاتبة عن أحلامِ البطلة وانكساراتِها، لأجد أن الكاتبة قد مررت بسطرٍ يتيم أو بجملتينِ مقتضبتين بفاعليتي السردِ أو الحوار، لقصصِ رمي مجاميعِ العبيد المكبلين في قعرِ السفينةِ وسطَ البحر خوفاً من سلطاتِ البحار أو بسبب موت هؤلاء العبيد حرقاً أو مرضاً في مكانٍ ما…

لم تكن شهيتي مفتوحةً أبداً لمراقبةِ كيف منحت «رحمة» جسدها المكتنز لذلك النخاس الكهل بقدر ما كنتُ بحاجة ماسة لنزول الكاتبة إلى قعر السفينة ومعاينة وجوه هؤلاء قبل رمِيهِم في لجةِ الماءِ أو قبل تفشي الوباء بأجسادِهِم. هذا من منظورٍ عام لكون الذهنية مبرمجة على حدثِ القصة والتي تتحدث عن الأبيض الذي يستعبد الأسود، ولكن كي أكون منصفاً لي وليس للكاتبة أجدها قد تطرّقت لموضوع عبودية الأسود للأسود وهو مفصل مثير ويحتاج إلى دراسة فلسفية عميقة لتبيان سيكلوجية الحالة، فالخليفة كان أسود ولديه من العبيد وسطوته عليهم كانت من باب أنه القادم والمتحكم بأمرٍ من الخالق، وكذلك وقت فارقتُ الحكاية أيضاً بطريقةٍ مغايرة حين أقرَّ «كامونقه» مسترجعاً قصته مع «التيجاني» بقولِه: «مقارنةً بسواي كنت عبداً محظوظاً لرفقتي مالكي المهاب الطيب، لا أغلال بيننا ولا سوطٌ ينظم تعامُلُنا، لا يخطئ أحدنا في فهمِ الآخر، محسودان في التناغم».

في المتنِ الداخلي لم تُعَتِّب الكاتبة مُنجزها لا فصولاً ولا أبواباً أو حتى بعناوين أو ما نطلق عليه عتبات داخلية واطئة، بل تركت فواصل أو نجمات طباعية بين نص وآخر وبين ورقة وأختها وهو ما يؤكد صحةَ تصنيفي لها كسيرةٍ ذاتيةٍ لأبطالها..

وفي مدخلٍ آخر وعلى الرغمِ من المدِ الزمني الطويل الذي عبَرته السيرة أستطيعُ القول إن الكاتبةَ استطاعت التملصَ من عاملِ الزمن برشاقةٍ مع العلمِ أن البداية بدت ثقيلة الخطوات وبالتحديد عندما استنطقت بطلها «كامونقه»، لكنها و»بالتواتر» سارعت عجلة الزمن من بابِ أن الحدث هو الآخر ركب درب السفر. ونهجت خريس مسيرتَها في «فستق عبيد» خطاً مستقيماً كَدربٍ جلي لمرويتِها وهي خاصية قلة من الكتاب يجترعونها.

حينما خرجت الكاتبة بنا كقراءْ من دارفورِ السودانية عبوراً ببحارِ ومحيطات العالمِ الواسعِ لتعيدنا من جديدٍ إلى تلك النقطة بعدما قدمت لنا نصاً مستوفي الدوال. فالحدثُ قائمٌ واللغةُ حاضرة والسردُ يقف على مشجبِ الحياد، يتحرى الوسطية وهذه ليست بمثلبة على مقدرتِها الإبداعية إنما هو كنهُ السيرة الذي يتوسل الواقعَ وليس المتخيل.

الشخصية المسطحة: وهي التي تظهر في القصة دون أن يحدث في تكوينها أي تغيير وإنما يحدث التغير في علاقتها بالشخصيات الأخرى.

الشخصية المتكررة: وهي ذات وظيفة تنظيمية لاحمة أساساً، أي أنها علامات مقوية لذاكرة القارئ.

كاتب عربي/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى