لتسريد مستقبل دوما العميقة
د. قصي الحسين
جمعية فتاة الوطن الدومانية، «واحة سلام»، 1920-2017 ، للدكتور إسكندر بشير، ليس إلا تسريداً روائياً جديداً لتلك البلدة الجبلية التي يقدّمها، أولاً كظاهرة بنيانية – اجتماعية وعمرانية – جبلية في عمق الريف اللبناني من إقليم البترون في شمال لبنان، وتالياً كفكرة عامة، انشغل بها الكتاب والمؤرّخون والسياسيون والمقيمون والمهاجرون، منذ أكثر من قرن ونصف القرن. وهي مدة ليست بالقصيرة، ولكنها تثير هواجس أجيالها المتعاقبة، على نحو متصاعد، خصوصاً في السنوات الأخيرة.
فهذة البلدة المتسيّدة في الجبل، والذي يضرب بها المثل، ظلت تشحذ أخيلة الناس موضوعياً وعمرانياً. فانصرف جمع غفير منهم، لتصديرها في الآفاق، أكثر من مدينة جبلية داخلية، وأقلّ من عاصمة لأهلها والجوار، في كتب ومدوّنات وكتابات وروايات وحكايات، عمدت إلى صناعة ذاكرة للمستقبل، بجعله حاضراً في البرهة الراهنة، برهة وقوف د. إسكندر بشير عليها، في مدوّنته، وتسريدها حدثاً ماضياً، تجري استعادته في تداخل زمني، يذيب الفواصل، ويعيد بناءها من جديد.
ولا غرو، فهو أحد أبنائها الدومانيين الكبار، الذين توطنوا بعد دوما، الحاضرات والأكاديميات، وظلّ في نفسه شيء من دوما.
لا نروم في هذا السياق، رصد بدايات الجنوح لدى عائلات دوما، وخصوصاً عائلة بشير الدومانية العريقة، إلى تسريد المستقبل في المدوّنات والروايات، غير أننا نقرأ محاولة د. إسكندر بشير الأخيرة في كتابه عن دوما، كمحاولة للخروج بسمات، تميّز هذا النوع من المدن والبلدات، المستطلع إلى ما وراء الحجب والمستقبليات.
وإذا كانت الحضارة اليوم تنظر إلى العالم كتاريخ، تمييزاً عن العالم كطبيعة، فإنّ د. إسكندر بشير في مؤلفه، جعل لبلدة دوما، إحساساً بمنطق الزمن، إلى جانب الإحساس بمنطق المكان، وعياً من المؤلف، للاستمرارية التاريخية، التي يتميّز بها الإنسان المنتمي إلى حضارة.
فكلّ شيء في دوما، إذ يتخذ مظهر تاريخ في نظره، إنما يجعله يتبدّى تقريباً، كتسلسل منطقي للأحداث والمواقف والأعمال، على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعلمية. وهذا لما شكل الباعث الأساس، على تشييد عوالم سردية قائمة على التوقع، في عمله المكوّن لدوما، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فالماضي والحاضر، هما من ضرورات المستقبل ومتطلباته. إذ يرى د. إسكندر، أنّ حاضر دوما، نتيجة مستقبلها، لا العكس. وهذا هو مسوغ عمله الذي ينشط له.
يشتغل كتاب: جمعية فتاة الوطن الدومانية 1920-2017 ، كما أراد مؤلفه د. بشير بهاجس مستقبل دوما، ويعمل على تسريده بأكثر من مستوى في فصوله المتنوعة والموثقة: 1- جمعية الإتحاد الوطني الدومانية آب 1909 – أيلول 1912 .
2- نشأة جمعية فتاة الوطن الدومانية 1920 .
3- إنطلاقة أعمال الجمعية ومجرياتها 1920- 1995
4- تطوير الأنشطة وفاعلية الإدارة 1952-1987
5- إستكمال بناء الجمعية وتحويله بيتاً للمسنين 1988-2016 .
وهو إلى ذلك، جعله يشتمل على الملاحق المتعددة التي تضفي على الكتاب طابع العمل الوثائقي والأكاديمي الرصين. ولا غرو، وهو الذي يقول في خواتيم كتابه:
«إنّ نجاح مؤسسة ما لا تقاس فقط بما حققته من إنجازات، بل أيضاً في ما تصبو إلى تحقيقه مما يضمن لها الحياة والنماء. وخير دليل على ذلك، ما شهدنا من تجربة «جمعية فتاة الوطن الدومانية»، خلال مئويتها الأولى. فعسى المئوية الثانية، وفي ضوء رؤية وخطة استراتيجية توضع تحقق مزيداً من النجاح والديمومة.
إنّ التسريد عند د. إسكندر بشير لبرهة دوما العميقة، إنما يواجه حتماً بقاعدة ميلان كونديرا: «كسر قاعدة القواعد». فهو لا يريد، أن يظلّ السرد ذكرى. بل يريد أن يقرأ أحداثاً منصرمة ويعيدها إلى الزمن الحاضر الذي افتقده. وشرط ذلك الكتابة والتدوين. وشرطهما أيضاً النشر والإعلان والتصدير والتوزيع.
وبرأيه، إنّ سحر دوما، الذي قام من خلال «جمعية فتاة الوطن الدومانية»، على الإستحضار البصري والصوتي، إنما غدت فيه، محاكاة الواقع «قاعدة القواعد»، وهي النشر والتوزيع، الشرط اللازم، حتى يصدق المرء ما يراه.
أستاذ في الجامعة اللبنانية