في عيد المعلّم تحية للمعلم بطرس البستاني
البروفسور فريد البستاني
لا نخصّ المعلم بطرس البستاني بهذه التحية بقدر ما نتخذه نموذجاً للمعلم الذي تحتاج إليه دولتنا ويفتقده مجتمعنا، ويحق لمعلمينا أن يتخذوه قدوة، ويجب على دولتنا إتاحة الفرص ووضع البرامج ورصد الإمكانات ليصير بمستطاع المعلم في دولتنا ومؤسساتنا التربوية بلوغه، فإذا أردنا الجمع بين الصفات والمهن والخبرات والإنجازات التي حققها المعلم بطرس البستاني، لوجدنا صحة ما اختاره له أقرانه بإطلاق لقب المعلم عليه تمييزاً للفرادة وجمعاً للصفات، فهو المؤرخ وله في التاريخ كتب تستوفي شروط العلم الصعب والشائك، وقد حقق في تاريخ الحروب وتاريخ الأدب ما لم يسبقه إليه سواه، وهو اللغوي وقد أنجز من القواميس ما صار مرجعاً لا يُستغنى عنه، وهو الموسوعي وقد كان الأول الذي فتح هذا الباب العلمي الكبير للغة العربية، ولا تزال دائرة المعارف التي بدأها، الأثر العربي الأهم في هذا المجال، وهو فوق كل ذلك المترجم المحترف والمحترم من اللغات القديمة والحديثة التي بلغت ست لغات هي السريانية واللاتينية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية إضافة لمرتبته الرفيعة في التبحّر في اللغة العربية، وهو المتمكّن من علوم الحساب والخطابة والصوتيات وعلم الاجتماع والعمران والفلسفة والمنطق والجغرافية واللاهوت، لكنه حوّلها جميعها إلى أبعاد ومضامين تعليمية، يتولى تدريسها سواء بتحويلها إلى مواد لكتب أعدّها لغرض التعليم، أو يتولى شخصياً تدريسها في المدرسة الوطنية، التي شكلت قلب مشروعه للنهضة الإنسانية والوطنية والاجتماعية والثقافية والعلمية، وبناها على أسس أرادها مصنعاً لإنتاج جيل متعدد طائفياً ومناطقياً وطبقياً توحّده الوطنية، يقوده رعيل من المعلمين حرص المعلم البستاني على تدريبهم وتعليمهم، ومن ثم التدقيق والتحقق من تمكّنهم من العلوم والآداب وتجذرهم في الوطنية وابتعادهم عن كل عصبية.
في عيد المعلم نحتاج لاستعادة هذا النوع من المعلمين الذين نجد الكثير منهم، خصوصاً في الجيل الأول من أساتذة التعليم الرسمي، الذي نرغب بإطلاق تسمية التعليم الوطني عليه، لتكون المدرسة الرسمية تحمل اسم المدرسة الوطنية، التي اختار تسميتها المعلم بطرس البستاني بهذا الاسم للتعبير عن الرسالة التي توجد المدرسة الوطنية لأجلها. هؤلاء المعلمون الذين نذروا أنفسهم لرسالتهم واشتغلوا على معارفهم لتنميتها وتوسيع آفاقها فشملت اللغة والأدب والفنون والعلوم، وابتعدوا عن كل تمييز طائفي ومذهبي بين تلامذتهم، واهتموا بتعليم الإناث والذكور، وربما ركزوا كما فعل المعلم بطرس البستاني على أهمية استثنائية لتعليم الإناث، لأنهم رأوا ما رآه من كون الأم المتمدنة طريقاً لتمدّن الأمة، والبحث عن هؤلاء المعلمين وتكريمهم هو واجب نستذكره ونذكّر المسؤولين به في عيد المعلم، أجيالهم القديمة والحديثة على السواء.
لعله من المفهوم أن تتسبّب الأوضاع المادية ومشاغل المعيشة الصعبة سبباً لتراجع نسبة هذا الصنف من المعلمين، ومتطلّبات الحياة تحول دونهم والرغبة بتحقيق هذا المراد، فيلهثون وراء لقمة العيش وتربية أولادهم وتعليمهم، وتضيق بحاجاتهم الموارد الضئيلة التي تشكلها رواتبهم، كما أنه من المفهوم أيضاً أن تنمو المدارس الخاصة على حساب المدارس الوطنية بقياس المقدرات المرصودة للأساتذة في كل منهما، وبقياس الفوارق في المقدرات التي ترصد للمعلمين تتغير نسبة الجودة في التعليم، لكن الالتفات للمناهج التعليمية لا يقل شأناً عن وضع المعلم، فالابتعاد عن الحشو وعن المواد التعليمية التي لا تلبي حاجات العصر المتجددة، وتنقية المناهج الدراسية من خصوصيات تتبدّل من مدرسة إلى أخرى، لجهة علاقتها بالتربية الوطنية، التي يجب أن تكون موحّدة ومحور مواد رئيسية في التعليم، من الأدب والتاريخ إلى الهوية، مثلها مثل التركيز على تطوير مناهج التفكير والتحليل والاستنتاج بدلاً من مناهج الحفظ، ضرورات للتقدم بمجتمعاتنا، التي يشكل الاستثمار في الإنسان جوهر قوتها واقتدارها، ومحور وحدتها ونهضتها.
في عيد المعلم تحية لكل معلمي لبنان، ومعها دعوة مفتوحة لكل المسؤولين لمناقشة جدية ومنهجية لواقع التعليم ورسم لأهداف وتحديد لأدوات، لم يعد جائزاً لنا ونحن في القرن الحادي والعشرين أن تنحسر لغيابها وتراجعها، عما كانت عليه قبل مئتي سنة في زمن المعلم بطرس البستاني.
نائب الشوف في مجلس النواب اللبناني