الفنان التشكيليّ حسن جوني: الثقافة العالميّة مهدّدة.. والفنّ مسؤول
حاورته: رنا صادق
«اختصر زيارتك، إنه وقت عمل، العمر كلّه غير كافٍ لإنجاز لوحة»، استوقفتني هذه العبارة وغيرها من العبارات التي خطّها الفنان التشكيلي «حسن جوني» على باب محترفه الكائن في منطقة رأس بيروت. هي عبارة تختصر «حسن جوني» بأنانيّته اللامتناهية للعمل التشكيلي، كما تعطي فكرة عامة عن انتظامه وجدّيته. هذا الفنان الذي أفنى حياة لوحته في ترجمة حال الإنسان الكادح، والفقراء هو ظاهرة روحية ومزيج من الإنسانية والانتماء.
هو الكادح على ضفاف اللوحة، المتأرجح بين كثافة ألوانها وتعابيرها ورموزها، المتأثر بشظاياها الخفيّة والمؤثر عليها بعاطفته. هو فنانٌ روحيٌّ، يعبر المسافات ويختصرها ويختزلها عبر ذلك المفهوم الحسّي ويترجمها أشكالاً تعبيرية لا زخرفة على ورق.
الزخرفة، هي المادة غير الثابتة التي لا تتقيّد بحدود، هوية أو معتقد، تنفرد على بياض الورق بحرية وانسيابية لكنها تضيع في غياهب الوجود، لكن «حسن جوني» يكرّم اللوحة بإعطائها هوية خاصة، تثبت فيها كل معايير الفنّ التشكيلي ودهاليزه.
الثقافة العالمية للفنون بخطر، تدخل في فخّ المهزلة والسرعة لمجاراة العصر، فباتت الفنون تتأثر بدرجة عالية بهذا الانحطاط لأن الفنون هي تعبير واضح عن الحضارات كما هي تحفظ الثقافة وتترك بصمتها للتاريخ.
في محترفه الخاص التقته «البناء» للحديث عن مسيرته الفنية التي بدأت في مدريد وعن هذه الثقافة العالمية للفنون المهدّدة بتشويه الهوية والانتماء. ننقل إليكم تفاصيل اللقاء.
مدريد… واللون
ولد «حسن جوني» في عائلة غير ميسورة، أشعرته بالحاجة إلى لغة ثانية يريد التعبير من خلالها، لم يجد فسحة كالتي تعطيها اللوحة، اتجه إلى الرسم عن عمر سبع سنوات.
ويقول: خربشاتي الأولى كانت طفولية. تأثّرت بأختي الكبيرة التي كانت تعمل بتطريز العطارة، الأمر الذي أعطاني دفعاً نحو الرسم وبدأت هذه اللغة تأخذ حيزاً من انتباهي اليومي، حتى عندما كنتُ تلميذاً. تأثرت بوالدي ذاك الرجل الكادح. كان يعمل قبل طلوع الفجر وبعد غروب الشمس، عاش بتعب. تعبه الذي حثّني على البوح، وولّد لديّ شعوراً بالتحريض النفسي لرسم الإنسان. الإنسان، برأيي هو العمود الفقري للحياة.
من هنا، كانت رسومه الأولى عن الأناس الكادحين، العمّال، أو أولئك المسحوقين من المجتمع، الذين سُلبت منهم إيراداتهم، غذاؤهم، حتى صوتهم.
مسيرته لم تتعثر بمطبّات كثيرة، فقد أكمل دراسته بمنحة من الدولة اللبنانية في مدريد، خلال هذه الفترة واجه بعض عراقيل مادية، لكنها لم تقف في وجه مشروع طموحه.
الإنسان، المكان والزمان
لوحته لها نكهة تعبيريّة اجتماعية ورمزية، فكل الرموز التي يستخدمها تصبّ في خدمة هدف واحد وهو الإنسان، إذ اعتمد أن الإنسان ركيزة الإحساس والشعور في العالم. بروحيّة فلسفيّة وسامية يعبّر «حسن جوني» عن مكنونات الإنسان الكادح، المظلوم، حتى اليوم لم يختلف هذا المفهوم لديه، فهو يرسّخ برسمه الطبيعة، أو الأماكن والمدن الإنسان ومسيرته. ففي القرية على سبيل المثال، يرسمها بخوائها اليوم من الإنسان مع التغيرات الديمغرافية. هذه المادة الموجودة حسيّاً يمزجها مع إدراكه وما خزّنه عن المكان ويترجمه.
يُعتبر «حسن جوني» أن عين الرسام عين لاقطة، قادرة أن تربط بين ما تلتقطه والمخيلة مع الهدف المنوط لنسج لوحة تتجسّد بالتعبير الرمزي المدرك حسياً وروحياً. فهذا المثلث بين الالتقاط والمخيلة والتعبير هو ما يميّز الرسّام عن سواه.
تأمّل فلسفي وإدراك عميق
التغلغل بالصورة بنمط تعبيريّ تأتي من المهام الأساسيّة للفنان إضافة إلى ثقافته الإدراكيّة والتشكيليّة ليعكسه في عمل فنيّ. إذ يؤكد «حسن جوني» أن أدوات الإعلام المزروعة في كل بلاد العالم تجهد على جعل هذا الفنّ غير الهادف هو الفن الحاضر، وإقناع الناس أن اللوحة هي عمل زُخرفي ليس عملاً أخلاقياً تثقيفياً.
زخّ الألوان في رسومه يعود إلى كثافة العواطف لديه، خصوصاً أن لكل لون مدلول شعوريّ معين، كأي فنّ، كما في المعزوفات الموسيقيّة للأوركسترا أو تعدّد المشاهد في المسرحية أو كثرة التفاصيل في المنحوتة. حيث يقول: «هذا الحشد في المشاعر الموجود في أي فنّ يعطيه ميزة فريدة وهوية».
يخلط في تعبيره بين التجريد الشكلي والتعبير الرمزي في تلخيص لوحته، فهو يعدو إلى أن يكون مترجماً ينقل الصورة كما هي، بل يعمد إلى أكثر من ذلك في تحقيق كادر للوحة تشكّل كل قطعة منه لوحة خاصة، حيث يعتمد في ذلك على طريقة مزج الألوان ببعضها البعض. فالتلوين هو مجموعة عواطف في اللوحة.
الثقافة العالميّة اليوم
بات الكثيرون يلجأون إلى الفنّ الرقمي خصيصاً الشباب باعتباره فنّ العصر، ويقابل ذلك أن رأياً مخالفاً على أن ذلك تشويه للفنّ وماهيّته التقليدية، حيث يوافق «حسن جوني» على أنه تشويه للرسم، باعتبار أن الرسم عملية حسابية يتعلّم الفرد الرسم من خلالها، لكن التلوين يمكن للجميع تطبيقه. فعند استخدام المدّ التلوينيّ على لوحات الكمبيوتر يخرج ذلك من نطاق النقد حيث لا قاعدة تتحكم به.
ويقول: جماعة الرأي يقولون إن اللوحة الرقمية تخرّب العمل التشكيلي لأنها من دون هوية أو هدف. ولا تعبّر عن المثلث الذهبي القائمة عليه اللوحة الحسيّة الإنسان، المكان والزمان الذي يجب أن يشكل بصمته على الحياة عموماً واللوحة خصوصاً، فحين يقوم برسمة خالية من هذه العناصر الثلاثة يدخلها في غياهب الضياع.
االتشكيل لم يعد ذا مذهب موحّد
وحول إقامة المعارض التشكيلية، يقول: «لستُ مع المعارض بعد الآن، أحبّذ إقامة محترفات خاصة تشكيلية، تتيح إمكانية التفرّد في العرض لسنوات طويلة وتسمح للفنان بإعطاء أنموذج كامل عن طبيعة أعماله حسيّاً وبطريقة عفوية. لذا أشجّع زملائي وأصدقائي من الفنانين إلى فتح محترفاتهم الخاصة تستقبل الزوّار المتلقين. من هنا أقول، المحترف هو معرض الفنان الدائم، وغايته الأساسية».
نشهد اليوم تفاوتاً في الأعمال التشكيلية خصوصاً والفنية عموماً، حيث تطرأ عليه تغيّرات إيديولوجية ومفاهيم جديدة الأمر الذي يعطي لكل عصر فنّه الخاص، لكن «حسن جوني» يرى أن ما من شيء يُدعى فنّ اليوم. ويقول: أنا اليوم موجود، لكنني أرسم بإحساس تعبيريّ واقعيّ رمزيّ. وفي الوقت عينه جاري الرسّام في الحي المقابل يرسم عملاً تجريدياً محضاً مع قناعة بأن هذا العمل التجريديّ سيصل إلى جميع الناس. وهنا تجب الإشارة إلى أن الفنّ التشكيلي في العالم لم يعدْ مذهباً موحّداً، إنما ما زالت بصورة عامة اللوحة الرامزة تستحوذ على مزاج المتلقي، لأنها تفتح معه حواراً منطلقاً، غير محكوم وتسمح له استنباط ماذا يعتمل في نفس الفنان لحظة رسمها.
ثمّة جماعات تهتمّ بنشر فنّ أكثر من فنّ آخر، يقول «حسن جوني»، يعود ذلك لأسباب سياسيّة، تثقيفيّة أو أيديولوجيّة. ذلك على اعتبار الثقافة سلاحاً أكثر فتكاً وتدميراً لجهة قدرة تأثيره على الفكر العام السائد.
ويضيف: عندما يقوم الفنان برسم لوحة فارغة من الحوار الذي تحدثنا عنه سابقاً ، هو يُسهم في تهديم الذائقة العامة للإنسان. فالفنّ مسؤول بالدرجة الأولى أخلاقياً وملتزم بتقديم فنّ هادف جميل وراقٍ، كي يحقّق أسمى أهداف الفنون.
حسن جوني في أسطر
توالت معارض الفنّان التّشكيلي «حسن جوني»، تجاوزت الثّلاثين معرضًا فرديّا، وأكثر من أربعين معرضًا جماعيّا، بمشاركات خارج لبنان الوطن، توزّعت ما بين فرديّة ومساهمة كتب فيها جوني حكاية الأرض والوطن والمعاناة في المكان والزّمان.
رافقه مفهوم الإنسان والإنسانية حتى دخوله إلى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة عام 1962، وتركها في ما بعد حائزاً على منحة من الدولة اللبنانية للتخصص في الخارج، تحديداً مدريد. أنهى دراسته في الأكاديمية الملكية العليا للفنون الجميلة سان فرنندو ، وهي من أكبر أكاديميات الفنون في أوروبا والعالم، من طلابها بيكاسو ودالي، ومن أساتذتها كان غويا.
نال «حسن جوني» العديد من الجوائز والأوسمة وأبرزها الميدالية الذهبيّة الأولى للرسم، بينال الفنون الجميلة – اللاذقية العام 1997.
وتقديراً لفنه المميّز والراقي، دخل الرسّام «حسن جوني» القاموس العالمي «بينيزيت» BENEZIT العام 2002 وأدرج اسمه بين الرسامين العالميّين المبدعين. كما أن لوحاته معروضة في أهم متاحف العالم مثل المتحف الحديث في ساو باولو – البرازيل، صالة الفنانين في الكويت، المتحف العسكري في سورية، متحف الفنون البلاستيكيّة في عمان – الأردن، ومتحف سرسق في لبنان.