شعر الومضة: لا يحقّ للشّاعر ما يحقّ لغيره
باسل بديع الزّين
يتطلّب تدبّر القول الشّعريّ مراسًا وفكرًا وثقافة وعمقًا فلسفيًّا وأبعادًا وجوديّة وإنسانيّة، إذ لا يُمكن الرّسوف عند القول السّائد ومعانقة الصّور التّقليديّة واجترار التّجارب نفسها والأقاويل عينها. ومن جملة ما ينبغي الخروج عليه، برأينا، هي مسألة التَّجوُّز، ونعني تحديدًا مسألة يحقّ للشّاعر ما لا يحقّ لغيره.
تاريخيًّا، ارتبطت هذه المسألة بجملة قواعد نحويّة وعروضيّة أبرزها: جواز إبدال همزة القطع بالوصل أو العكس حسب الضّرورة التي يقتضيها الوزن، وجواز حذف الياء من اسم إنّ، وتخفيف الحرف المشدّد، والجزم بإذًا حملًا على معنى متى، وتسكين الهاء في «وهو/ وهي»، إلخ… وعروضيًّا، تسمّى التّفعيلات البديلة جوازات، أي إمكانات مغايرة للوقع الموسيقيّ تصبّ في هدف الضّرورة التي يقتضيها الوزن كي يستقيم. وما بين التّجوّز النّحويّ والتّجوّز العروضيّ نتساءل: هل يجوز الافتئات على اللغة من أجل تسويغ إمكان القول الشّعريّ الموزون؟ وكيف انسحب هذا الافتئات على جملة القصائد التي لا تتّبع بحور الشّعر العربيّ؟ وأين يتموضع شعر الومضة من كلّ هذا؟
لا يخفى على أحد أنّ اللغة كائن حيّ ينمو ويتطوّر، فهي تارّة تُكرّس أخطاء شائعة، وطورًا تعمل على تعديل بعض قواعد الصّرف والنّحو بما تقتضيه ضرورة التّجديد لغويًّا، شاهدنا في ذلك استخدام جبران فعل تحمّم بدلًا من فعل استحمّ… بيد أنّ قطب الرّحى في مقاربتنا هذه ينصبّ على الإجابة عن سؤال محدّد: هل يجوز الافتئات على اللّغة لمصلحة القول الشّعريّ الموزون؟ حقيقة الأمر، أن هذا الأمر مرفوض ليس من أجل اللّغة كلغة وإنّما من أجل العنجهيّة العروضيّة التي ترى أنّه بِمِكنَتِها تطويع جزء لا يُستهان به من المنظومة النّحويّة تلبية لرغبة الشّاعر في ضبط أبياته وفق المنظومة العروضيّة. فهل يستحقّ النّظم كلّ هذا التّدوير الكلاميّ؟ وبتعبير أوضح، هل تجوز التّضحية بالقواعد اللغويّة كرمى لمقتضيات الوزن؟ وإن التمسنا الدّقّة لقلنا: ألا يُشكّل الافتئات على اللغة مؤشّرًا على أزمة عروضيّة كي لا نقول أزمة الشّاعر العروضيّ؟ وكيف بالإمكان تكريس توتاليتاريّة القول الموزون المقفّى على حساب التّضحيّة بجوهر التّعبير عن هذا القول، ونعني اللّغة؟ وهل غدا المقام الأوّل للتّفعيلات مهما كان حجم التّضحيات اللّغويّة؟ ألا يشي مثل هذا السّلوك التّعبيريّ بأزمة عروضيّة جرى التّغاضي عنها تبجيلًا لقواعد اختطّها شاعر ما في حقبة زمنيّة كانت لها خصوصيّتها وفرادتها؟
وعلى المقلب الآخر، نجد أنّ جملة من شعراء العصر الحديث، سواء من كتّاب قصيدة التّفعيلة، أو من كتّاب قصيدة النّثر أو الشّعر المنثور، يعمدون إلى آليّات الافتئات اللّغويّ عينه من دون حاجة تُفهم أو مبرّر مقنع. على مستوى قصيدة التّفعيلة، يُمكن أن ينصبّ التّعديل اللّغويّ بما يخدم التّفعيلة المنتقاة، لكن كيف نفهم هذا الأمر على مستوى قصيدة النّثر؟ ولِم يلجأ بعض شعرائها إلى تقنيّات التّسكين والحذف وما لفّ لفّهما؟ الإجابة سهلة ويسيرة: إنّها رحلة البحث عن الإيقاع بحسب تعبير شعرائها.
من هذا المنطلق، تتّضح معضلة الإيقاع، ويبدو جليًّا أنّ المعاناة هي قبل كلّ شيء معاناة تعريف يفصل الشّكل عن المضمون، ويفسد اللّحمة القائمة بين جملة العناصر المكوّنة للنّصّ الشّعريّ. وبتعبير أوضح، إنّ اللحظة الشّعريّة هي لحظة كاملة متكاملة إمّا أن تكون منجزة على نحو تلاحميّ مشدود ورصين أو لا تكون.
وعليه، يأتي التّنظير لشعر الومضة، مقرونًا بنماذج عمليّة وشواهد جليّة، ليطرح فكرة اللّحمة والتّكامل الذي لا فكاك لعناصره بين الشّكل والمضمون. وبتعبير أوضح، عندما يجري استبدال الإيقاع الخارجيّ بالإيقاع الدّاخليّ استنادًا إلى طاقة المفردة وفعاليّة الحرف وتقنيّات التّجاور، فهذا يعني في المقام الأوّل، أنّ عمليّة الاستبدال ليست عمليّة افتراضيّة أو تقنيّة عرضيّة أو قولًا هلاميًّا، بل هي تقنيّة لها مردّها الأصيل الذي تحسّس عمق الأزمة ونهض بسبل تجاوزها.
وبعبارة أخرى، إنّ شعر الومضة بنية متكاملة تتلاحم عناصرها بحيث يغدو الفصل بين التّجربة الشّعريّة والموسيقى الشّعريّة التي تلازمها ضربًا من المحال. فالشّاعر في شعر الومضة لا يُضنيه التّسكين أو الحذف، أو تقضّ مضجعه ضرورة التّرخيم وفكّ الإدغام، وتسكين الواو والياء في المضارع المنصوب، وحذف الفاء من جواب الشّرط الواجب اقترانه بها أو الإشباع ومدّ الصّوت بالقوافي للتّرنّم بحرف علّة يناسب حركة الحرف الأخير من البيت وهلمّ جرًّا… شعر الومضة تجربة متكاملة، إيحاء نابض ينطوي على عمق الرؤيا مصحوبة بموسيقاها الشّعريّة الدّاخليّة من دون اصطناع أو افتئات على اللغة في المقام الأوّل، وعلى قواعدها الدّاخليّة في المقام الثّاني.
ترى كيف تستقيم التّجربة الشّعريّة وهي تُحاول أن تساوم على مندرجات القول الشّعري؟ وأيّ جهد يتوزّع على رصد التّجربة الدّاخليّة بالتّساوق مع ضرورات حتميّة خارجيّة، فيُلفي الشّاعر نفسه موزّعًا بين ضرورة الاستجابة لنداء التّجربة، ومحاولة تطويع الآليات اللغويّة حذفًا وإبدالًا بما يتناسب مع الواقع النّصّيّ. هذه المسألة على بداهتها تطرح مسألة بالغة الأهميّة تتعلّق بطبيعة تكامل التّجربة الشّعريّة.
التّجربة الشّعريّة لُحمة قائمة لا يُمكن الفصل بين عناصرها، فهي كلّ يذوب في الكلّ، تساوق بين المعنى واللّفظ، تكامل عضويّ لا يُفرغ طاقاته في استحضار قوالب جاهزة ومحاولة تدجينها لتناسب فكرة طلقة، مع كلّ ما تستلزمه عمليّة التّدجين هذه من التّجوّز لغويًّا للتّماشي مع المفردة المنتقاة أو مراعاة لوزن بعينه.
التّجربة الشّعريّة لحظة شاهقة وعالية، تظهر من خلال التّجلّي الأنضح لمكنوناتها شكلًا ومضمونًا. وبتعبير آخر، حين يأتي اللفظ مطابقًا للمعنى بحيث يستحيل استبدال مفردة بأخرى أو حرف بآخر، فهذا يعني أنّ جوهر التّجربة قد اكتمل، وهو باكتماله قد نضح عمقًا وإيقاعًا مُتزامنين، ومن دون النّظر إلى أيّ اعتبارات خارجيّة تُنهِك المعنى أو تحدّ من الإيقاع الطّبيعيّ الذي تنطوي عليه اللغة في بنيتها.
خلاصة القول، للغة ما للغة من إيقاعها الكثيف والمُولِّد، والافتئات عليها يعني تضحية بالإيقاع الطّبيعيّ لصالح إيقاع هجين ومبتذل. من هنا يُنادي شعراء الومضة، تجانسًا مع مبادئهم التّنظيريّة التي ترى في هذا النّوع من الكتابة الشّرط الأصعب، يُنادون بألّا يحقّ للشّاعر ما يحقّ لغيره، لأنّ الشّاعر الحقيقيّ لا يحتاج بطاقات دعم أو تجوّزات لغويّة أو استثناءات توتاليتاريّة. فإذا كانت المشكلة قد كشفت عن نفسها في القوالب التّقليديّة فلا يُعقل أن تتمّ التّضحية باللغة حفاظًا على تلك القوالب. تُرى أيّ افتئات في التّجنّي على اللغة كي لا يتمّ المساس بجوهر بنى بائدة؟ الإجابة ببساطة تحتاج إلى جرأة في الاعتراف بأنّ المشكلة لا تعالج بتحويل الأنظار عنها إلى سياقات أخرى.
عضو ملتقى الأدب الوجيز