إفادتي في وجه إفادة مروان حمادة/3
ناصر قنديل
كان الرئيس رفيق الحريري عندما حدثني عن موقف النائب السابق فارس سعيد، يريد أن يقدم لي نموذجاً عن فهم هذا الفريق للعلاقة بالمسلمين والعروبة، بمعزل عن الموقف من شكل ومضمون الإدارة للعلاقة اللبنانية ـ السورية، ويضيف تقديم خلافه مع النائب وليد جنبلاط حول التمييز بين المسألتين، فيشير إلى أنه أرسل من يشارك رمزياً في ما عُرف حينها بلقاء البريستول كرسالة لسورية تقول لا تتركوني أتحالف مع من لا أرغب بهم حلفاء، مضيفاً: أنا كمن يقف على حافة وينتظر من صديق أن يمسك بيده ويمنعه من الانزلاق، لا أن يتركه، فكيف إنْ شعر أنه يسهّل له تسريع الاندفاع، وللرئيس الحريري روايته المختلفة عن رواية مروان حمادة الحالية، وهي كما بيّنا غير روايته في حينه للموقفين الجنبلاطي والحريري، فقد كان حمادة أقرب إلى موقف الحريري في السعي إلى ردم الهوة بين جنبلاط وسورية، مع أمل حمادة بذلك ويأس الحريري من المحاولة.
عشية الانتخابات النيابية وفي مرحلة التحضير لها، كان الانسحاب «الإسرائيلي» قد ولّد مناخاً دولياً يريد ملاقاة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي كانت حبلى ذلك العام بمشروع المحافظين الجدد، وكان المدخل المتوقع فتح ملف العلاقات اللبنانية السورية والوجود السوري في لبنان، وكان الرئيس الحريري يبني معادلته على الإيحاء لسورية بصدق تحالفه معها لتعزيز وضعه في المواجهة مع الرئيس إميل لحود، بعد سنتين من حكم لحود وبقاء الحريري خارج السلطة، ورهان الحريري على الدعم السوري والفوز الانتخابي للعودة إلى الحكم بالمشاركة من موقع مختلف مع لحود، لكن الحريري ذهب إلى أبعد الحدود الممكنة في تأكيد أنّ صراعه مع لحود ليس صراعاً مع سورية بل قدر الاستطاعة إظهار علاقة متينة بسورية بالحدود التي ترتضيها سورية من دون تعريض علاقتها بالرئيس لحود للإحراج، علماً أنّ بين المسؤولين السوريين من كان يقف صراحة مع الرئيس لحود في هذا الصراع ومنهم من كان لا يحرجه أن يجاهر بالوقوف مع الرئيس الحريري.
خلافاً لكلّ الكلام عن فرض سوري على الحريري لمرشحي لائحته من قبل سورية، أستطيع التحدث عن لقاء الرئيس الحريري باللواء غازي كنعان في دارة الوزير عبد الرحيم مراد في البقاع وكلام الرئيس الحريري عن رغبته بلائحة توحي بأنّ من يقف في وجه اللائحة الحريرية يقف في وجه سورية، كما أستطيع القول من تجربتي الشخصية عن أدلة وشواهد لا تحصى عن أنّ الحريري كان يبذل كلّ جهد ممكن باستثمار علاقته مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام واللواء غازي كنعان لجلب أكبر عدد من الأسماء التي توحي بعلاقة قوية بينه وبين سورية ليكونوا في صدارة اللائحة الانتخابية، لطمأنة الناخب البيروتي أولاً أن لا مشكلة بينه وبين سورية بسبب خلافه مع لحود، وليقينه ثانياً أنّ فوزه النيابي لن يتحقق ولن يكون إذا تحقق كافياً للعودة إلى رئاسة الحكومة، ما لم يحظ الحريري برضا سورية واطمئنانها. وطبعاً عادت المعادلة ذاتها لمقاربة الانتخابات بعد التمديد على رغم رسائل الانزعاج، مثل المشاركة بلقاء البريستول، كما وصفها الرئيس الحريري لي لاحقاً في لقاء الرابع من شباط 2005، وعلى رغم عدم فاعلية أصدقائه السوريين الذين كان الملف اللبناني في عهدتهم سابقاً. وأنا شخصياً أعلم أنّ اللواء كنعان فاتحني في شهر شباط عام 2000 بالتساؤل عن إمكانية ترشيحي للانتخابات وقلت له إنني أفضل البقاء رئيساً للمجلس الوطني للإعلام لحساسية الدور وأحاديته بينما يمكن المجيء بالعشرات غيري إلى البرلمان من الأصدقاء والناشطين، واتفقنا على تأجيل الأمر إلى ما بعد استكشاف إمكانية انسحاب «إسرائيلي» في صيف العام لنقرّر الأفضل. ولم يخف كنعان أنّ الحريري فاتحه برغبته أن أكون على لائحته، مضيفاً أن المقعد الشيعي في بيروت يتمّ بالمقايضة مع الرئيس نبيه بري على مقعد النائب بهية الحريري، وأنّ نيابتي في حال موافقتي لن تكون منة حريرية بل ترتيب شيعي داخلي، وأنه إذا وافقت فإنّ كنعان سيفاتح بري الراغب بالتخلص من نيابة النائب محمد يوسف بيضون وبالتحالف مع الحريري في بيروت.
لاحقاً عندما حسم الأمر بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد ووفاء لما بدا أنها رغبته كما قال لي كنعان، رغبت بمنح الأفضلية لأكون على لائحة الرئيس الحص، وبعد التشاور مع الرئيس بري، رتب لي العميد رستم غزالة موعداً مع الرئيس الحص، وذهبت محاولاً إقناعه وهو يفترض أنني مرشح من سورية لأفرض عليه، كما قدم روايته اللاحقة للقاء، فأبدى تمسكاً بالنائب محمد يوسف بيضون، فقلت إذا كان مسموحاً للرئيس سليم الحص في الانتخابات الاجتهاد في السياسة فإذن لا ضير من وجودي على لائحة الرئيس الحريري، فقال طبعاً الانتخابات انتخابات، وشعرت أنّ ما جرى في قضية سابقة بيني وبين الرئيس الحص وموضوعها الرئيس الحريري وتلفزيون المستقبل أشعره أنني جئت لرفع العتب، ولم يعلم الرئيس الحص بالرواية الحقيقية المخالفة لما كتبه ونشره إلا بعد سنوات.
في خلفية اللقاء مع الرئيس الحص، كما في نظرة الرئيس الحريري نحوي، كانت تحضر حادثة تتصل بتلفزيون المستقبل، يوم كانت رغبة حكومة الرئيس الحص معاقبة التلفزيون على أدائه التشهيري بالحكومة ورفضت كرئيس لمجلس الإعلام التجاوب مع هذه الرغبة، مصراً على أن تتولى الحكومة ذلك إنْ رغبت، ولها الصلاحية الكاملة، وإلا فلتمنح أدوات الرقابة القانونية لمجلس الإعلام، وتقبل تقديره للعقوبات على المخالفين من الموالين والمعارضين، وكانت حادثة استضافة قناة «أل بي سي» لحوار مع ديفيد كمحي أمين عام الخارجية «الإسرائيلية»، قد رتبت اقتراح مجلس الإعلام بمعاقبتها، والقناة تعتبر حكومة الرئيس الحص داعمة وموالية. وأرسل الرئيس الحريري يشكرني سراً، فقمت بزيارته علناً وذلك في صيف عام 1999، وكان قصره فارغاً من الزوار عكس أيامه في الحكم، وقلت له أتذكر يا دولة الرئيس يوم اشتبكنا على تراخيص تيلي لوميير وإذاعة النور وإذاعة الغد وصلاحيات مجلس الإعلام، هذا ما أريده للمجلس أن يخالفك وأنت في السلطة وأن يحميك وأنت في المعارضة، ولأنّ الرئيس الحص كان في السلطة قلت له الكلام نفسه يوم رفضي معاقبة تلفزيون المستقبل. ولذلك توترت علاقتي بكليهما وهما حاكمان، وأظنهما أحباني فقط عندما كانا خارج الحكم.
بعد هذا اللقاء مع الرئيس الحص تلقيت اتصال عتب من اللواء كنعان الذي نقل لي أنّ الرئيس الحريري حاسم ومتحمّس لوجودي على لائحته ومتضايق من اتصالي بالرئيس الحص كأنه تشكيك بصدقه مع سورية، والأمر لم يكن إلا محض حسابي الشخصي، لكن جواب الرئيس الحص صبّ الماء في طاحونة ترشيحي على لائحة الرئيس الحريري كما كان يرغب، وهنا كانت نقطة جنبلاطية كاشفة لتباين المفهومين الحريري والجنبلاطي في النظر إلى المحطة الانتخابية والعلاقة مع سورية، فقد قرّر جنبلاط أن يستثمر مناسبة حوار له على صفحات جريدة «النهار» عشية انتخابات بيروت، ليشن حملة على ترشيحي على لائحة الحريري، مشيداً بالنائب محمد يوسف بيضون ويقول لو كانت لي أصوات ولائحة في بيروت لدعمته. ولأنّ الوزير غازي العريضي شريك في اللائحة التي يترأسها الرئيس الحريري وتضمّنا معاً، ونحن عشية الانتخابات فقد أبلغت الرئيس الحريري أنني سأطلب من الناخبين علناً شطب اسم غازي العريضي طالما جنبلاط دعا بطريقة لا تحتاج إلى تفسير من يتبعون رأيه إلى شطبي، ودارت وساطات شارك فيها العريضي صادقاً لترتيب الأمور وبذل الحريري جهداً، فتمخضت عن دعوتي إلى فطور على مائدة جنبلاط صباح اليوم التالي للمصالحة وإعلان موقف، وتهرّبت صباحاً من هذه الدعوة، وقبلت الكلام العلني الذي صدر عن جنبلاط وحزبه بدعوة الناخبين لتأييد لائحة الرئيس الحريري في بيروت كاملة، لشعوري أن اللقاء مع جنبلاط سيكون عليّ قيداً بلا مبرّر، لأنّ جنبلاط كان تموضع على ضفة فتح الاشتباك مع سورية وحسم أمره استعداداً للمرحلة المقبلة.
لم تكد الانتخابات النيابية تنتهي ويدخل البرلمان الجديد مهامه الأولى، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة الحريري بدعم سوري كبير، ويعرف حمادة الدور الذي تولاه الوزير غازي العريضي للتنسيق بين الرئيس الحريري وبين اللواء جميل السيد في إدارة كلّ الملفات الحكومية. وجاءت جلسة الثقة النيابية ومناقشة البيان الوزاري، الذي طرزه الحريري بعبارة الموقت والشرعي عن الوجود السوري، حتى كانت الكلمة الجنبلاطية أول غيث التحوّل، ما كاد جنبلاط ينهي كلمته حتى صعدت إلى منصة الرئاسة وسجلت طلب دور بين المتكلمين، واتفقت مع الرئيس نبيه بري أن تكون كلمتي لليوم التالي، وما عدت إلى مقعدي حتى جاء الرئيس الحريري من منصة الحكومة، ليجلس بقربي سائلاً ما إذا كنت سأردّ على جنبلاط قائلاً، إنّ كلام جنبلاط تجاوز المقبول ولا بدّ من الردّ متمنياً الأخذ في الاعتبار أنه في كتلتنا من يمثله وأنه حليفه وإلا فسيضطر للسماح للوزير العريضي بالردّ بمؤتمر صحافي هو والوزير حمادة إذا رغبا، فقلت فليكن هذا هو الحلّ الأنسب لأنني لن أمرّر هذا الكلام. وتوجهت للرئيس الحريري بالقول: أنت تعرفني جيداً بعد تجاربنا معاً في ملف الإعلام، أنا لا أسأل ولا أشاور، ولا أظن أنّ أحداً يعلم سلفاً ما كان سيقوله جنبلاط، وها أنا هنا وبعفوية كاملة أقرّر أن أردّ، فقال أعلم وأحترم وسأحمي حقك بالخصوصية قدر استطاعتي، ولا بدّ من شهادة أمينة هنا أنّ علاقتنا بقيت على هذه القاعدة طيلة ولايتي النيابية.
كانت كلمتي في اليوم التالي، ويعرف الجميع أنهم اكتشفوا أن القيادة السورية تفاجأت مثلهم بكلامي، لكنها قدّرته وثمنته عالياً، وبنت عليه، ولا أنسى أنّ الرئيس بري تفاجأ لما علم أنّ سبب طلبي أن تكون كلمتي لليوم الذي يلي يوم كلمة جنبلاط كان لحسابات محض إعلامية، تتصل بترك اليوم الأول للحدث الجنبلاطي لاحتلال اليوم الثاني إعلامياً، وليس للتشاور مع القيادة السورية، ومعلوم أنّ جنبلاط الذي سابق التطورات التي تعدّ ضدّ سورية يومها، عاد وشعر أنه تسرّع وأن وقت الانتظار طويل فتراجع وتصالح، وكان لي بإصرار من الرئيس بشار الأسد نصيب من هذه المصالحة لكن مع يقين، أننا عائدون، لأنّ ما أعدّ لم يظهر ولن يظهر إلا بعد الحرب على العراق وهذا ما كان.
النظرة الحريرية كانت التمسك بالعلاقة بسورية وتأكيد علانية التمسك، لمواجهة ما كان يراه خطراً داخلياً على دوره يمثله الرئيس إميل لحود، وللمفهوم العام الذي قدمه للطائف في مقارنة الملجأ والصالون، بينما جنبلاط كان يرى الحاجة إلى ضبط إيقاع توقيته على ساعة الحريري لحصر المواجهة مع لحود على رغم تموضعه في ساحة الاشتباك مع سورية، وعلى رغم قراره كما وصفه الحريري بالخروج من الصالون.
مروان يعرف جيداً صدق ما أقول وسواه ممن لا أريد إحراجهم بذكر أسمائهم، وكلامهم التأكيدي معي لهذه الحقيقة حتى بعد اغتيال الرئيس الحريري، ومنهم من أوفده جنبلاط يوم استعداد الحريري للمصالحة مع سورية، طالباً تدخلي بالوساطة لترتيب مصالحة مشابهة، وممن ذكرت أسماءهم الأغلب أحياء ولم أتحدث عن كيف كانوا يفكرون في سرهم، فإفادتي شهودها أحياء على كلام قيل ووقائع حصلت، أما إفادة مروان حمادة فشهودها في ذمة الله ومضمونها عما كانوا يفكرون في سرّهم، لذلك أقول لا يا مروان بيكفي، منبر لاهاي لا يمنح مصداقية لكلام يحتاجها فهو كمنبر بحاجة لمن يمنحه هذه المصداقية.
غداً الانتخابات الرئاسية عام 2004 وحواراتي مع الحريري والتمديد…