النظام السياسي يواصلُ العيش اصطناعياً لغياب البديل!
د. وفيق إبراهيم
يرتكز النظام السياسي على علاقات بين طوائف وَوَفرٍ اقتصادي ريعي مع تغطية خارجية من الاقليم وبعض القوى الغربية.
هذه المعادلة انتجت نظاماً طائفياً وصل الى درجة التحاصص الكامل على المال العام والوظائف وكامل مقدرات الدولة، وارتكزت على قليل من الهبات وكثير من الدين معظمه داخلي لكن الدولة الطائفية تُسجل الآن عجزاً عن سداد حتى فوائده، فتغرقُ بالمزيد من الديون والوعود وتذهب الى حدود اقتراح خفض رواتب الموظفين في القطاع العام ورفع الضرائب غير المباشرة على السلع tva الى حدود 15 في المئة واضافة 5 آلاف ليرة دفعة واحدة على صفيحة البنزين والآلاف على مجمل سلع استهلاك الطبقة الشعبية الخبز والارز والسكر والبرغل مثلاً .
هذه المشاريع حظيت بموافقة كامل القوى السياسية اللبنانية التي تشكل فعلياً معادلة النظام الطائفي، لكن كل فريق منها كان يعتمد على الآخر لاعلان القرارات الجائرة بحق الطبقات الشعبية والقطاع العام.
الدولة اذاً في مرحلة ما قبل اعلان الإفلاس الكامل، وتُواصلُ رفض المساس بالمصارف والاملاك البحرية والعامة المسروقة والجمارك المنهوبة من «اداراتها المسيسة» والطبقة المرتبطة بالسياسة في القطاع العام من المنخفضة الى اعلاه، وهما فئتان تنهبان الدولة، من دون اي فائدة يرتجى منها فالتوظيف العشوائي الذي تحول زبائنية سياسية، وفر للاحزاب الطائفية عشرات آلاف الموظفين الوهميين الذين يتقاضون رواتب من دون عمل فعلي وقد لا يداومون في مقار اعمالهم وهم يحظون بتغطية سياسية الى جانب الآلاف من الطبقة العليا من موظفين يكلفون الدولة رواتب بالمليارات، وينتظمون في لجان وهمية اضافية ينالون منها رواتب نظامية كما ان الحدود البرية برعاية موظفين مسيسين يحولونها مسرحاً لاختلاساتهم.
لذلك يقترح اقطاب النظام الداخلي خفضاً للرواتب بمعدل 15 على الذين يتقاضون أكثر من ثلاثة ملايين، لماذا؟ لأن الموظفين العشوائيين الذين أدخلوهم الى الدولة ولا يداومون الا في «مراكز احزابهم» هؤلاء يتقاضون اقل من مليون ليرة شهرياً فلا يتعرضون بالتالي لأي خفض محتمل.
أما اصحاب الرواتب من فوق 20 مليوناً، فهؤلاء ملأوا حقائبهم من المال المسروق ولم يعودوا بحاجة اليه، فيبقى الموظفون الفعليون بين 3 وعشرة ملايين الذين يخدمون الدولة بأمانة واستقامة وجدية، هؤلاء هم المستهدفون الحقيقيون من ألعاب الطبقة السياسية الطائفية.
لكن ما تسبّب بصدامات في وجهات نظر قوى النظام السياسي هي حالة الغليان الشعبية التي لا تزال في بدايات حراكها في الشارع وأثارت ذعر الأحزاب الطائفية.
فابتدأت قواها بالتراجع وسط تحوّل المزاج الشعبي من تمحور حول الطائفة الى الدفاع عن الطبقة الاجتماعية، وهذا أمر يثير ذعر احزاب الطوائف، لأنها تجد نفسها مضطرة الى البحث عن مصادر اخرى لسد العجز في الموازنة وخفضها بين 9,11 في المئة، حسب ما يشترطه مؤتمر سيدر الفرنسي الذي يرفض دفع ديونه ومعوناته قبل ادراك الخفض في الموازنة.
هذا ما أدّى الى رفض الرئيس ميشال عون ايّ مساس برواتب نحو 300 الف موظف يحتاجون الى رواتب أكلافها أعلى من حجم الجبايات 110 الى 120 في المئة وتأمين 52 في المئة من الموازنة على خدمة الدين العام فقط، فماذا عن الحاجات الأخرى؟
وكيف يستدين لبنان مبالغ إضافية على ديون قديمة متواصلة يعجز عن سداد فوائدها؟ وكيف ينمو لبنان اقتصادياً فيما تجارته وسياحته شبه مشلولة؟
أسباب هذا الانهيار واضحة، فقطاع الخدمات متوقف لأسباب تتعلق برفض الانفتاح على سورية بقرار اميركي خليجي ما يؤدي الى خسارة خطوط النقل بين لبنان وسورية والاردن والخليج وخط لبنان سورية العراق.
فيصبح لبنان الشعبي والاقتصادي ضحية الحريرية السياسية وحلفائها المستسلمين لآل سعود والأميركيين والمعروف تاريخياً انّ نصف لبنان على علاقة مباشرة بقطاع الخدمات ونصفه الآخر بأشكال غير مباشرة، هذا إضافة الى السياحة المتراجعة التي يقول رئيس الحكومة سعد الحريري إنها قابلة للازدهار في الأيام المقبلة، وهذه وعود تكيل مثلها الحريرية السياسية منذ وصولها الى السلطة في 1992، فماذا كانت النتيجة؟ غياب الكهرباء والماء وتكدّس النفايات وارتفاع البطالة وتراجع قطاع الخدمات وهناك معلومات عن اتجاه أسعار العملة الوطنية نحو الانخفاض أمام الدولار، وهذا يؤدّي حكماً الى ارتفاع قياسي في أسعار سلع مستوردة بالدولار من الخارج.
اقتصادياً، لبنان اليوم في قلب إفلاس متكامل تبذل طبقته الطائفية الحاكمة جهوداً للبحث عن حلول ترقيعية، بالمزيد من الدين لمداواة مريض بالسرطان.
وهذا ما يجعلها حريصة على ايجاد حلول سريعة تحافظ فيها على الانقسامات الطائفية من جهة وتمنع الذهاب الى التشكلات الطبقية المؤدية الى مسار وحيد: تدمير النظام الطائفي؟
الظروف الموضوعية لتغيير سياسي كبير في بنية النظام نحو مدنيته متوافرة، لكن البديل المدني لا يزال غائباً، ولم يظهر بعد، لأن دور الاحزاب الوطنية تراجع منذ الاجتياح الاسرائيلي في 1982 بمعونة قوى الإقليم. وهذه القوى لا تزال تزوّد قوى الطوائف بحاجتها من التغطيات السياسية.
المشكلة اذاً، لم تعد في قدرة النظام الطائفي على الصمود، بقدر ما تتعلق بغياب البديل، الذي يخشى من مغامرات قد ترتب تراجعات اقوى او تنعكس بالضرر على تحالفاتها مع قوى اقليمية معينة؟
لكن لبنان يتجه بسرعة نحو انفجارات اجتماعية كبيرة انما بشكل تدريجي لأنّ الدين الخارجي يؤدّي دائماً الى مزيد من الاسترهان للخارج وتوفير الظروف المثالية للتغيّرات السياسية العميقة.