بين الومضة والحكمة
د. باسل الزين
هل بين شعر الومضة وشعر الحكمة صلة؟ سؤال تردّد على مسامعنا في أكثر من مناسبة، لذا ارتأيت أن أقف على بعض جوانب هذين الشّكلين التّعبيريّين لأدرأ كلّ التباس يُمكن أن يقع في ذهن المتلقي مع العلم أنّ البون بينهما شاسع إذ لا مشروعيّة للحديث عن ومضة حكميّة كما يحلو للبعض تسميتها، لكن، في مطلق الأحوال، تبدو مهمة رصد الفروق الكيفيّة القائمة بينهما ضرورة ملحّة لا بدّ من تسليط الضّوء عليها.
يُعرَّف الشعر الحكمي عادة على أنّه قول موجز مكثّف يخرج على الذاتيّة الضيقة ليروم الإنسانيّة برمّتها، مُتجاوزًا حدود الزمان والمكان، مُتّصفًا بالديمومة والاستمرار.
وعليه، يبدو للوهلة الأولى أنّ التكثيف والإيجاز اللذين ينطوي عليهما الشعر الحكمي بمثابة عنصرين مشتركين وفاعلين في شعر الومضة، الأمر الذي يستند إليه البعضُ لتبرير الحديث عن ومضة حكمية. بيد أنّ التكثيف والإيجاز بما هما خاصيّتان ملازمتان لشعر الومضة لا يُمكن أن يتم تناولهما بمعزل عن السياق المفهومي لهذا النوع الأدبي الجديد بالتمام، وهنا بالتحديد يكمن جوهر الإشكالية التي نحن بصدد الكشف عن مندرجاتها.
حقيقة الأمر، أنّ الشعر الحكمي يتطلب قوّة عقلية كبيرة تتمثل في القدرة على رصد مجريات الواقع المتواتر وصياغته في قالب تجريدي أو صوري حسيّ على شكل استنتاج فجّ أو خلاصات فكرية ناضجة ومعمّقة. وبتعبير أوضح، يُمكن أن نلحظ في الشعر الحكمي بعدين متلازمين:
البعد الأول: ويتمثّل في غياب الجانب التخييلي، ونعني به القدرة على تجاوز الواقع عن طريق ملكة الخيال، وذلكم ما يُفقده عنصر الدهشة، ذلك أنّ الشعر الحكمي لا يروم إحداث قطيعة معرفية سياقية مع أي تراث لغوي أو شعري أو استشرافي إذ جلّ ما يقوم به هو ترسيخ جملة اعتبارات واقعية غدت بحكم التكرار ثباتًا وبحكم الصيرورة تكرارًا وبحكم المعرفة سلوكًا وبحكم الفكر تتويجًا عقليًا.
البُعد الثاني: ويتمثل في براعة التعبير عما يجول في الصدور بشكل تكثيفي وإيجازي فاعل ومؤثر. وبعبارة أوضح، إن الشعر الحكميّ لا يضيف شيئًا على موضوعه، فهو يكتفي بترجمة المعاني المطروحة على الطرقات بحسب تعبير الجاحظ إلى معادلة لغوية كثيفة وموجزة، وهو بتجاوزه إطارَيْ الزمان والمكان لا يُضيف إنجازًا من عندياته بقدر ما يرصد حركة تواتريّة بفعل عقل ثاقب وفكر ناقد ويستنسخها في قالب تعبيريّ لا يُعوزه الجمال ولا القيمة الجمالية الفنية. بعبارة أخرى، الشعر الحكمي يُعيد إنتاج ما يدور على ألسنة الجميع بلغة محكية أو سردية شعرًا. وفي أحسن الأحوال، ينطق بما لا قبل للناس على النطق به، أي بما يحدسونه ولا يعونه أو بما يعرفونه ولا يُحسنون ترجمته قولًا مُحكمًا.
وعلى المقلب الآخر، نجد أنّ شعر الومضة يتمتّع بخصوصيّة تخييلية وفاعلية تصويرية تتناقضان تمامًا مع مفهوم الشّعر الحكمي، على الرغم من اشتراكهما في خاصيتي الإيجاز والتكثيف.
ولمزيد من الوضوح نقول: إنّ الطاقة التخييليّة التي يُنادي بها منظّرو شعر الومضة ترفض الرّسوف عند حدود الواقع المعطى. فشعر الومضة بتعريفه هو نصّ تجاوزي يرصد الواقع فكرًا وعقلًا وتدبرًا، لكنه يتجاوزه عن طريق الخيال. وعليه، لا يُمكن أن يضطلع شعر الومضة بالكشف عن مكنونات الواقع وفضّ حجبه واستنطاق معايير حكمه واستجلاب مكامن ثباته واستكناه صوره التواترية. إنّ مهمة شعر الومضة تكمن بالتحديد في تجاوز هذا الواقع خيالًا، بحيث يكون بمكنة شاعر الومضة أن يفضّ المسكوت عنه في الخطاب المتكرر، فضلًا عن واجبه في تقديم رؤى مغايرة للسائد والمتواتر وذلكم ما نعنيه تحديدًا بعنصر الدهشة أو ما أؤثر تسميته بالاستلاب، أي طي الواقع وتفكيك العلاقات القائمة والتجاورات الحاصلة والعبور بالنص نحو انحراف دلاليّ يُحكم قبضته على الحقيقة البليدة والعنيدة ويستبدلها بتأويل مفارق بيّن ومتعدّد. وعند هذا الحد، يُمكن أن نفهم ضرورة مشاركة المتلقي في إنتاج المعنى وذلك بخلاف الشعر الحكميّ الذي يقتصر فيه دور المتلقي على الإقرار بصحة الاستنتاجات العقلية والتكريسات النظرية.
ولمزيد من الإيضاح، نورد الشاهدين الآتيين:
يقول طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهنّدِ
يعتبر الشّاعر هنا أنّ أشدّ أنواع الظلم والنكران والجحود هو ظلم الأقربين. وبدهيّ القول إنّ هذا البيت على جماليته اللغوية وعمقه الحكمي هو من باب لزوم ما لا يلزم. فمَن منا لا يعلم في قرارة نفسه أن ظلم الأقربين هو أشد وقعًا من ظلم الأغراب؟ ومن منا لا يعلم أنّ هذه الحقيقة موجودة منذ الأزل ومقعّرة في الذات البشرية؟ بيد أنّ قدرة الشاعر على تصوير الحالة النفسية للإنسان على امتداد العصور وباختلاف الأزمنة هو بالضبط ما يمنح البيت فاعليته التأثيرية، لكنها فاعلية آنية تفتقد عنصر الدهشة افتقادًا شديدًا.
وفي سياق مختلف، يقول الشاعر أمين الديب:
همس غرابٌ لعصفورة هجينة
أنا نسر مؤجّل إلى أن تنطلي حبائلُكِ
لا نغالي إذا قلنا إننا أمام ومضة ذات طاقة تخييلية ناهضة وقدرة تجاوزيّة بيّنة. هذه الومضة بقدر ما تحثّنا على التّفكير في أبعادها التعبيرية والتفكرية بقدر ما تحثنا على إعمال الخيال للوقوف على مندرجاتها القولية في تجاوز الواقع واستشراف إمكان آخر للفهم انطلاقًا من عنصر الدهشة الذي يجد تعبيره الأمثل في قول الشاعر «أنا نسرٌ مؤجَّل إلى أن تنطلي حبائلك».
ترى لِمَ همس الغراب ولم لا يجاهر بقوله علانية وبصوت مسموع؟ وأي مسوّغ في استخدام نعت «هجينة» للعصفورة؟ في خلدنا، يُشكّل فعل الهمس تصريحًا مداجيًا أراده الغراب تلفيقًا في أذن العصفورة إذ إنه يعي في عمقه أنّه ليس ما يدّعيه. وهذا ما يتساوق منطقيًا ودلاليًا مع نعت «هجينة»، على اعتبار أن العصفورة لا يُمكن أن ترد في سياق طبيعي وإلا لما انطلى عليها تصريح الغراب. أمّا عن اختيار الغراب، وهو طائر يتميّز بهيبة صوته الذي يجعل الناس تتشاءم من رؤيته أو سماع صوته، فهو اختيار ينصبّ على حقيقة نفسية عميقة مفادها عدم إمكان التمكين إلا في ظل الهجين، أي امتناع التحقيق الوجودي للصورة المتوخاة في قرارة نفسه إلا من خلال التعويل على ردة فعل تأتي من كائن لا يحمل صفات اعتيادية تخوّله فهم الصّورة النمطية لحركية الغراب. بيد أنّ عنصر الدهشة يكمن في الفعل المؤجل، فالقارئ ينتظر من الشاعر قوله: أنا نسرٌ يتلاشى حين تنطلي حبائلك حيث يتبين الرشد من الغيّ، لكنّ الشاعر قلب المنظومة التقويمية من خلال فعل عكسي أرجأ فيه فعل النسر الجانح الكاسر إلى حين وقوعها في الشرك في إشارة إلى أنّ الغراب قد انطلت كذبته عليه وغدا أسيرًا لها.
لقد كرّس الشاعر بما لا يقبل الشك صورة مغايرة للصورة النمطية واستطاع عن طريق الخيال الكثيف أن يتجاوز أطر الواقع ويعبر بنا إلى عوالم تخييليّة لا حدّ لها.
بوجيز العبارة، شعر الومضة يفتح فضاءات القول على جميع إمكانات الفهم والتحليل بخلاف الشعر الحكمي الذي يرسف عند حدود الظن والمعقول والسائد والمحتمل.
عضو ملتقى الأدب الوجيزs