محمد القصبجي… سابق عصره ومُجدّد الموسيقى العربية
ملهم خلف
ولد الفنان محمد القصبجي في القاهرة في 15 نيسان 1892، نشأ في بيئة موسيقية فنية حيث كان والده أحمد القصبجي العازف المبدع ـ الحلبي الأصل ـ يدرّس آلة العود ويلحن للمطربين، فأحب الموسيقى ومال إليها منذ الصغر، وكبرت هوايته معه. منذ أوائل طفولته تمكّن القصبجي من أصول العزف والتلحين وساعدته ثقافته العامة في طرق هذا المجال باقتدار وبدأ يعمل بالفن فقط.
وكانت الأغنية الأولى له من نظمه وتلحينه ومطلعها «ما ليش مليك في القلب غيرك»، وحينما طلبت منه شركة أسطوانات تسجيل هذا اللحن للمطرب زكي مراد والد الفنانة ليلى مراد، وكان أحد مشاهير المطربين، بدأت رحلة المستقبل كما وصفها القصبجي المليء بالأماني الكثيرة والألحان الساحرة، فأصبح يقرأ الأشعار وكتب الزجل ويقوم بتلحينها على رغم عدم إذاعتها، ويعرض إنتاجه على المنتجين، ومما كتب ولحن أغنية «يا قلبي ليه سرك تذيعه للعيون والحب له في الناس أحكام».
عام 1927 كوّن محمد القصبجي فرقته الموسيقية التي ضمت أبرع العازفين مثل محمد العقاد للقانون وأمير الكمان سامي الشوا وكان هو عازف العود في الفرقة، وبهذا الشكل كان له التخت الشرقي الخاص به، لكنه لم يتوقف عند الشكل التقليدي فأضاف إلى فرقته آلة التشيلو وآلة الكونترباص وهما آلتان غربيتان. تنبّهت إلى عبقريته شركات الأسطوانات فأقبلت على ألحانه لتسجيلها، كما طلبها كبار المطربين والمطربات. وعندما طلبت منه منيرة المهدية التلحين لها، لحن لها بعض الأغاني والأوبريتات المسرحية، وشجع ذلك الكثيرين غيرها على الغناء له، فغنى له زكي مراد والشيخ سيد الصفتي وصالح عبد الحي.
أهم محور في حياة القصبجي هو تعرفه على أم كلثوم، ولا شك في أنه كان في أشد لحظات السعادة بهذا اللقاء، إذ إنه أحس بأن صوت أم كلثوم يمكن أن يقدمه إلى الجمهور في أبهى صورة. وكان طموح القصبجي الفني يجعله يبحث عن أفضل الأصوات التي يمكنها أداء ما يريده من تجديدات وإضافات إلى أساليب التلحين والغناء الشرقي، وقد بدأ تعارف القصبجي وأم كلثوم عن طريق شركة أوديون التي كانت قد اشترت منه أغنية «قال حلف ما يكلمنيش»، فطلبت منه تسجيلها بصوت أم كلثوم، وبدأ القصبجي تدريب أم كلثوم على اللحن ولا شك في أن أم كلثوم أيضاً سعدت بشدة للقاء القصبجي، فقد أحست، وصرحت له بشعورها، بأنها قد عثرت على كنز، وبدأت بينهما صداقة فنية متميزة، وكان لها ليس فقط ملحناً، بل أستاذاً ومعلماً. وبعد أول أغنية غنت له «إن حالي في هواها عجب»، مقام عجم . ثم بدأت سلسلة من ألحان القصبجي لأم كلثوم بلغت حوالى 70 لحناً كان آخرها «رق الحبيب» من شعر أحمد رامي. يعتبر محمد القصبجي من الملحنين ذوي الإنتاج الغزير فقد تجاوزت ألحانه الألف لحن، نال معظمها الشهرة والانتشار، وغنى له أساطين الغناء مثل منيرة المهدية وصالح عبد الحي ونجاة علي، مروراً بليلى مراد وأسمهان وانتهاء بكوكب الشرق أم كلثوم، التي عشق العزف على آلة العود في فرقتها ليظل بجوارها، حتى أنه عندما مات في نهاية الستينات ظلت «سومة» محتفظة بمقعده خالياً خلفها على المسرح تقديراً لدوره ومشواره معها.
صاحب محمد القصبجي في رحلته الفنية الشاعر أحمد رامي، وكوّن الاثنان معاً ثنائياً فنياً نادر الوجود، وقد امتزجت ألحانه الحالمة بكلمات رامي الرقيقة فأطلقا أعذب الأغاني التي رقت لها الأسماع والمشاعر، وأكمل صوت أم كلثوم الثالوث الفني الذي ترك رصيداً من الإبداعات أصبحت من كنوز الشرق.
قدم الموسيقار محمد القصبجي أعمالاً سابقة لعصرها في الأسلوب والتكنيك، وأضاف إلى الموسيقى الشرقية ألواناً من الإيقاعات الجديدة والألحان سريعة الحركة والجمل اللحنية المنضبطة البعيدة من الارتجال، والتي تتطلب عازفين مهرة على دراية بأسرار العلوم الموسيقية، وأضاف بعض الآلات الغربية إلى التخت الشرقي. كل هذا أدى إلى ارتفاع مستوى الموسيقى والموسيقيين أيضاً، وإضافة إلى الأجواء الرومانسية الحالمة التي أجاد التحليق فيها اكتسبت ألحانه شهرة واسعة وجمهوراً عريضاً، ويمكن القول بأنها حملت أم كلثوم إلى القمة.
كانت أصوات أم كلثوم وفتحية أحمد وأسمهان بالنسبة إليه وسائط جيدة قدم من خلالها ما أراد للجمهور، وقد ساهم هو في صنع تلك الأسماء بلا شك.
أما موسيقاه التي لم تقترن بأصوات كمقدمات الأغاني وما تخللها من مقاطع أو كمقطوعات موسيقية فقد جسدت مثالاً لما يطمح إليه من تطوير وقد برع في تقديم أفكار موسيقية جديدة فتحت الباب للتنويع والابتكار. وللقصبجى أسلوب فريد اتسم بالشاعرية وقد اختار لألحانه أفضل الكلمات وأرقاها، واجتذب على الأخص جمهور المثقفين والطبقة المتوسطة التي كانت آخذة في النمو في ذلك الوقت.
كان محمد القصبجي صاحب مدرسة خاصة في التلحين والغناء ولم يقلد أحداً في ألحانه، إذ صنع فيها نسيجاً متجانساً بين أصالة الشرق والأساليب الغربية المتطورة فكان بذلك مجدداً ارتقى بالموسيقى الشرقية نحو عالم جديد، واهتم كثيراً بالعنصر الموسيقى إلى جانب العنصر الغنائي في أعماله.
وقد كان أستاذاً ليس فقط لكثير من الفنانين بل أستاذاً للرواد. من تلاميذه من الأسماء الكبيرة: من الملحنين: محمد عبد الوهاب، رياض السنباطى، فريد الأطرش. ومن المطربين: أم كلثوم، ليلى مراد، أسمهان.
قد لا يسمع الكثيرون عن محمد القصبجي، لكن نستطيع التعرف إلى فنّه من خلال صوت أم كلثوم، فهو المكتشف الحقيقي لهذا الصوت المعجزة، وهو الذي فتح لها أبواب الشهرة والمجد منذ بدأ التلحين لها عام 1924 بما قدمه لها من ألحان متطوّرة جذبت آذان الناس وتطلعت معه إلى عالم جديد من الفن الراقي، ويكفينا أن نستمع إلى لحنه الرائع بصوت أم كلثوم «رق الحبيب» لنعرف كيف سبقت أنغام هذا الفنان عصرها، وكيف نهل من نبع فنّه العديد من الملحنين.
جمع الموسيقار محمد القصبجي بين الحداثة والرومانسية في نسيج جديد على الموسيقى العربية، وما أدخله من تطوير على فنون الموسيقى العربية جعله يقف بجدارة في مصاف الرواد.
ولم يفت القصبجي أن يحتك بعلوم الموسيقى الغربية، لا سيما في مجال الأوبرا وفنونها. وخير دليل على ذلك التماهي مع الموسيقية الغربية، أغنية «يا طيور» التي سمعها الجمهور بصوت أسمهان عام 1941، وتبدو مقدمتها الموسيقية كأنها مكتوبة بطابع سيمفوني، لكنها ظلّت متمسكة بطابعها الموسيقي العربي في الوقت ذاته.
يعترف الموسيقار محمد عبد الوهاب بأنّ القصبجي كان سبّاقاً في استخدام الهارموني والبوليفوني، بأسلوب علمي صحيح كما يعترف بأنه تأثر بما أنجزه القصبجي في مجال المونولوج، ومنه جاءت أعماله «اللي يحب الجمال» و«الليل يطوّل عليّ» و«بلبل حيران» وغيرها.
جال القصبجي في جميع أنواع الموسيقى فلحن 4 مسرحيات غنائية من بينها «المظلومة»، و«نجمة الصباح»، كما لحن 13 دوراً و182 طقطوقة و43 مونولوجاً إلى جانب 91 أغنية تغنى بها عدد من المطربين في ما قدموه من أفلام بلغ عددها 38 فيلماً.
أهم أعماله الغنائية
«رق الحبيب» و«انتي فكراني» و«ليه تلاوعيني» و«إن حالي في هواه عجب» و«ما دام تحب بتنكر ليه» و«مش ممكن أقدر أصالحك» و«يا صباح الخير يللي معانا» لأم كلثوم.
«إمتى ها تعرف» و«يا طيور» لأسمهان، «أنا قلبي دليلي» و«بتبص لي كده ليه» و«اضحك كركر» و»انت سعيدة» و»أنا اللي استاهل كل اللي يجرى لي» لليلى مراد.
ألحان مسرحية
رواية «نجمة الصبح» لفرقة نجيب الريحاني، و«المظلومة» و«يا حرم المفتش» و«حياة النفوس» لمنيرة المهدية وكيد النساء.
ألحان الأفلام
أغاني فيلم وداد وأغاني فيلم نشيد الأمل. ولحن الفصل الأول من «أوبرا عايدة» الذي غنته أم كلثوم في فيلمها «عايدة».
توفي محمد القصبجي في 26 آذار 1966 بعدما أثرى الموسيقى العربية في هدوء وبلا أية ضجة، تاركاً وراءه تراثاً يخلد اسمه وفنّه بعد أن وهب حياته للفن فقط من دون زواج ولا أبناء.