سياسة الحياة
بعض التجارب قد لا نرتّب مطلقاً لنخوضها في حياتنا إلّا كما يخوضها الجنود العزّل في غير ميادين القتال..
يُحكى أنّ نجاراً اعتاد الوقوف يوميّاً أمام البحر مذ ثلاثة عشر عاماً، وقد كتف يديه خلف ظهره وعيناه على الأمواج، يحدّث البحر بصوت عالٍ، تُعرض عليه المساعدات فيأبى. هذا الرجل غرقت زوجته أمام عينيه منذ ما يربو على عقد، ولأنّه لم يتمكن من إنقاذها، فهو يأتي يومياً ليقف أمام الشاطئ كي يعاقب نفسه بتكتيف يديه خلف ظهره كدليل لعجزه عن إنقاذها…
عندما يُعقد قِران الحِقد والغيرة، بتزكية ومباركة من النفس الشريرة، ماذا ستتوقع يا قارئي أن يُنجبا معاً غير الأخلاق غير المحمودة!؟
يناجي النجار أمواج البحر: أبلغها سلامي وغرامي، ثمّ يعضّ أصابع الندم خنصره، بنصره وإبهامه على أنّه لم يكن يحادثها وهي على قيد الحياة. كانت تريد منّي بسمة فلم أرها سوى التجهّم. أعدها لي يا بحر وأعدك أنّي سأهطل عليها بالبسمات والملاطفات.
كانت تتوق للمسة حنان، فطوّقتها بأساور الغلظة. ردها يا يم وأعاهدك أنّي سأعاملها برحمة. كانت تريد منّي حمايتها، لكنّي كنت عليها لا لها. ردّها يا موج ولسوف أحميها. كانت تحتاج منّي لتقديرها وتقدير نجاحها وقد جرّعتها مرارات التهميش. ردّها يا مالح وأقسم لك أنّي سأذيقها حلو العرفان.
يبدو أنّ قلّة من يجيدون الاستمتاع بمقاربة أحبائهم وهم على قيد الحياة لجهلهم أنّ التداوي بحبوب الشوق لا يعالج أوجاع الفراق بمن هم على قيد المنون.
قلّة مَن تدرك أنّ الإحساس للأحياء أجدى من الترحم على ذكرى رفات الأموات.
ندر من يتذكّر ممارسة الضحك قبل فقدان أسنانه.
أندر منهم من يلوذ بدفء أشعة الشمس قبل زوالها فما بالك بمن نحبّ.
قليل مَن ينتبه لضرورة رفع قيمة المضارع، لكون آمال الأكثرية منصوبة على فتح دفاتر الماضي.
ندر من رأيناه يستمتع بالرحلة استمتاعه بصور ذكرياتها فينسون عيش اللحظة.
قلّة قليلة توقن أنّ التجاهل يحرق العلاقات الإنسانية وأقلّ منهم من يعمل على الحفاظ على دفء العلاقات بالتواصل والتودد قبل فتورها إثر التواصل بجرعات مقنّنة من التهاني في المناسبات. فالإنسان اجتماعي بطبعه، كما نصّت على ذلك سوسيولوجيا العلاّمة العربي عبد الرحمن بن خلدون، فلا مجال لتقبّل وجود الإنسان خارج نطاق حيّز الآخرين. قال ابن القيّم: «إذا كان الاعتذار ثقيلاً على نفسك، فالإساءة ثقيلة على نفوس الآخرين أيضاً».
يجب أن نتعلم فن سياسة الحياة وأولها المحبّة، وأن نراقب خطوات لساننا قبل أن نراقب ردّ الفعل في عيون الآخرين، وأنّ الإخلاص للأحياء أجدى من الإخلاص لرفات الأموات…
صباح برجس العلي