«اللويا جيرغا» اللبنانية…
نضال القادري
عائد إلى بيروت، ربما لن أعود. لا زلت هناك بالعقل أنمو، وأستعير الأمل من انشطار أحدثته هجرة المثقفين والشباب في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، ولا زالت قوافلها تنتظر اكتمال آخر جيناتنا الخرافية حتى تتوقف. كما يبدو، لن أستبدل أيّ شيء هنا بالموت أو بفقدان الأمل والتسليم بالهزيمة. نصف الهزيمة انتصار، ونصف الأمل انتصار. ها أنذا لا أريد لنفسي أن تستبدل العناد بموت الأمل. أنا مثل الكثيرين من مجانين هذه الأرض، أتغاصن نعامة في عاصفة من رمال، وأنمو في كلّ زاروب مثل ذلك القط الذي يحرس اللبن. مناماته فئران ناصعة. أهمل كلّ صناديق القمامة، وأوحى فراغ الليل له أنّ كلّ شيء صار مباحاً دلال الأجانب، سجاد السفارات الأحمر، صوف الملائكة الرخيم، وجنات النعيم الفاخرة. هات لي حباً لأشتري به وطني، أو لأدفعه دفعة مؤجلة من موتي، علّ العناد يتقدّم نضالاً ومقاومة، وسأترك لكم أيّ حقيقة آخرة!
البارحة، وأنا أستذكر لقائي سفيراً أفغانياً لدى إحدى دول العالم «الثالث» أو للحقيقة دول «العالم الثلاثين». كان سعادته يشبه «حارس اللبن»، ويبدي انبهاره أمامي جراء تخلف «الجمهورية» اللبنانية الدين العام الذي يفقس كمسابقات ملكات الجمال، هدر فرص الاستثمار النفطي، وضمور التجارة الخارجية، وفتح البلد ليكون مكباً صناعياً لكلّ رخيص، واستفحال التلوّث البيئي، وتوحش المصارف، وزحف السفارات وتكالبها، وتردّي سلالات «البهائم السياسية»، ونقص رجال «الدين»، وتكاثر الكافرين بالمؤمنين، وسماع شخير أديولوجيات معمّرة، وتوحل دروب القضاء، وأشياء أخرى من دائرة الجحيم ذاته. الحديث كله كان بعيد دوي انفجار مشحرة داخلية أليمة في تاريخ لبنان، بدأت مع استشهاد رئيس الحكومة رفيق الحريري، ولا زالت الحفرة عميقة وكاتمة لأصوات المنقسمين حولها، بعضهم يرفس بعضاً حول جثته في زرائب متشابهة دون أن يسمع رنين المحافر أيّ عاقل في الخارج – هذا مؤكد بشهادة كلّ التعساء والشعراء والتجار ولاعقي الأحذية.
ها حوارنا الثنائي، أنا وسعادته، ينقطع بالانكليزية بعد ساعتين ونصف الساعة. تناوبنا أطرافه على مائدة صديق مشترك في بيروت. ولعمري، ولكثرة انتقاده وتطرّفه خلال مقاربة وتقييم أزمة «الجمهورية»، اغتالتني أمنية مفادها: ألا ليت البركة الإلهية تسقط ماطرة وتنتهي موعظة هذا الأجنبي! شعرت خلال حديثه بشيء من «الإهانة الوطنية» وببعض «الدونية الوطنية». كانت المائدة كفيلة بأن نتبادل أطراف حديثنا بالتساوي. تصالحنا متوافقين على أنّ صحن «التبولة» وأيضاً «الكبة» يليقان بالمائدة، وكذلك بضيافة بلاد الأرز. لأعود بعدها واسترجع بعض نقص المناعة الذي سقط في موحلة الحديث عن لبنان واللبنانيين.
أنا فخور ببلادي. ولكن، حبّذا لو يأخذ الإله بيدنا بعض الشيء. الإنسان قيمة، والأخلاق سمة ترفع، والمواطن جائزة كاملة إذا ما رزقه الله ببلد بترولي! يا للهول، وكلّ الويل لمن رذله الله وإرادات الحكام في أكثر من وطن، وجعل له من بين الطوائف معلفاً يعتاش منه، ويتغذّى من مجارير قبائله السارية، ويشتم كراهية مذاهبه الجاهلة، ويستقرئ من مواجع إخوته في الغبن على أنها قدر الله الذي أنزل على ذات الجارية! لا فرق في كلّ ذلك يا بلدي، وأسأل: أيّ إله ذاك الذي سأمنح له شارة التنحي باسم القبائل الحائرة؟ أيّ جاهلية تسكننا، ها سقوف الأمل قد أصبحت عارية، وأسماء الله الحسنى خوت، وبطش الأرذال يتوسّع كمثل بقعة الزيت النازفة، وميتة جثة البلاد موتاً كثيراً كثيفاً، فمن أفتى لكلّ هذا البغاء ولأولاد الحرام اغتصاب جسد الجارية؟
بالمناسبة، في بلاد «القط واللبن» يتبادل الأفغان وقبائلهم من الباشتون عبارة «اللويا» وتعني «الجامع، الكبير، الموسع»، وعبارة «جيرغا» وتعني «اجتماع الصلح، مجلس المصالحة». أيّ مجلس المصالحة الموسع. تقليد «اللويا – جيرغا» قبلي بامتياز، مكانته عريقة في التاريخ الأفغاني، يجتمع رؤساء القبائل ووجهاؤها السياسيون والدينيون والاجتماعيون للتشاور في حلّ مشاكلهم المتعلقة بشؤون السياسة والمجتمع وأمور الشأن العام. تستمرّ الشورى إلى حين التوصل إلى قرار يتخذونه بالتفاهم والإجماع، دون تصويت رسمي.
اجتماعهم لا تنهيه عطل، ولا توقفه عاصفة، ولا تعيقه هطول أمطار، أو «تويتة» من «المختارة»، وحمامة زاجلة من «بيت الوسط»، أو فتنة «روبوت سياسي» راجلة لا تحمل «فيزا» من منطقة مجاورة أختامها بيد زعامات خائرة!
في بلاد «القط واللبن» تشير التجارب السياسية والتاريخية بكلّ مفاصلها إلى أنّ «اللويا – جيرغا» الأفغاني لا يفقد دوره، وما زال الأقرب الذي يفهم عمق ونمط المجتمع القبلي. إنّ أعضاءه يحسنون التعامل معه بطريقة أكفأ من البنى الديمقراطية لشيء اسمه «الجمهوريات اللبنانية».
على الهامش، أغلبية ساحقة من أعضاء «اللويا جيرغا» هم من غير المتعلمين، ومحدودي الثقافة، وكلّ ما يملكونه من سلطان أنهم فقط أعيان في قبيلة. تعالوا، يا إخوتي، لنصبح شيئاً من قبيلة، لنصبح أيّ شيء لا يقبل القسمة والبهدلة والتشحد. أما جدير بنا أن نكون قبضة واحدة، مواطنة كاملة؟ وبئسنا إن بقينا على عاهاتنا الهيولى: «بيت بمنازل كثيرة».
وبعدها، إن همتم إلى الصلاة فلتكن معاً على جثث الجمهوريات القاتلة.