الحرب الالكترونية جارية… وتصاعد مخاوف اميركية من خسارتها
من خصائص السياسة الأميركية في المرحلة الراهنة استمراءها اللعب على حافة الهاوية وتصعيد حالات الاستقطاب والاستعداء، تعبيراً عن نفوذها وسيطرتها على مقدرات العالم مدعومة بشكل شبه مطلق من المجمع الصناعي العسكري والمالي الذي يرسم ملامح وتوجهات استراتيجياتها الكونية منذ الحرب الباردة.
من بين جدول الأولويات والتحديات الأميركية برزت مسألة القرصنة الالكترونية، كوسيلة حرب «كانت» واشنطن تتفوّق تقنياً على كافة خصومها لزمن ليس ببعيد، مما أثار قلق الخبراء والأخصائيين الأميركيين في شؤون الأمن الالكتروني، معربين عن خشيتهم من «تراجع مكانة الولايات المتحدة في هذا المضمار وخسارتها الشق الدفاعي من الحرب الالكترونية»…
في هذا الصدد، حثت مؤسسة راند، الذراع الفكري لمجمع الصناعات العسكرية، في أحدث دراسة لها، مراكز القرار الأميركي على تصعيد مرتبة «الحرب الالكترونية في الفضاء الإلكتروني» إلى نظرية و «مبدأ عسكري»، يستدعي موازنات وطواقم خاصة ومختصة. وأوضحت المؤسسة أنه يتعيّن على «.. حلف الناتو الإبقاء على جهوزيته للتعامل مع التهديدات الالكترونية التي مصدرها أيّ مكان في العالم والعمل على تثقيف أعضاء الحلف حول شنّ عمليات في الفضاء الخارجي، التخطيط العملياتي للحرب الالكترونية، برامج التدريب، وإجراء تجارب لإنشاء «ذاكرة عضلية» ضرورية». حزيران 2019 .
بجملة واحدة، انها دعوة للقوات المسلحة الأميركية للاستمرار في تنفيذ عمليات الكترونية متعدّدة ضدّ الدول الأخرى، والتي حذر منها أحد أبرز خبراء الأمن الالكتروني الأميركي، الأستاذ بجامعة كولومبيا، جيسون هيلي، معرباً عن قلقه من «انزلاق» بلاده نحو شنّ حرب الكترونية مستدامة دشنتها البنتاغون باعتماد استراتيجية الفضاء الالكتروني، 2018، عمادها مبدأ «الدفاع المتقدّم».
بالتوازي مع مأسَسة واشنطن للقرصنة الالكترونية، جاء في تقرير لأسبوعية «دير شبيغل» الألمانية، منتصف آب 2018، أنّ وزيرة الدفاع الألمانية، اورسولا فان دير لاين، أعلنت عن تأسيس «جيش الكتروني لحماية نظم الأسلحة وتكنولوجيا المعلومات» للقوات الألمانية للحصول على أسلحة الكترونية بالغة التطور. تسلّمت فان دير لاين منذ بضعة أيام رئاسة الاتحاد الاوروبي بدعم أميركي.
في منتصف عام 2010 أعلنت ألمانيا أنّها كانت ضحية عمليات تجسّس بالغة التعقيد من قبل الصين وروسيا استهدفت القطاعات الصناعية والبنى التحتية الحساسة من بينها شبكة الكهرباء.
تعرّضت شبكة الكهرباء في مركز المال العالمي بنيويورك إلى عطل الأسبوع الماضي شلّ كافة مناحي الحركة التجارية، من بين الأسباب المحتملة تعرّضها لإجراءات قرصنة وصادف التاريخ ما خبرته المدينة عام 1977 من انقطاع تامّ للتيار الكهربائي لفترة زمنية غير قصيرة.
إجراءات التحصين وحماية شبكات الطاقة الأميركية في حالة لا تسرّ صديق، وفق تصريحات الخبراء المعنيين، إذ أنّ أحد أهمّ الأسباب يكمن في الملكية الخاصة لتلك المرافق، سواء طاقة كهربائية أو شبكات توزيع المياه، وغياب العناية اللازمة من قبل الشركات الكبرى لتطبيق إجراءات الحماية كونها تعدّ إنفاقاً وهدراً للميزانية.
مستشار البنتاغون للأمن الالكتروني في سلاح البحرية، مايكل باير، شكل صورة قاتمة بالقول «أعتقد أننا بصدد حرب الكترونية معلنة تستهدف مجمل أركان المجتمع والدولة. أعتقد بأننا نخسر تلك الحرب».
شهادة المستشار المذكور جاءت في أعقاب «اكتشاف» السلطات الأميركية قرصنة واسعة قامت بها الصين عام 2018 لعديد من أجهزة وشبكات الكمبيوتر الخاصة بمجموعة من كبار المتعاقدين والشركات لدى البنتاغون، احتوت على معلومات سرية دقيقة تتعلق بالصواريخ المضادة للسفن، ومدى المعلومات الأميركية المتوفرة الخاصة بقدرات الصين البحرية.
وكشفت إجراءات التحقيق في الحادث عن «تعرّض نظم أسلحة رئيسة لقرصنة الكترونية بعضها كان نتيجة عدم التقيّد بإجراءات الحماية واستخدام التشفير.. أو لعدم إغلاق خوادم الكمبيوتر». وأضافت لجنة التحقيق أنّ الأعمال اللوجستية للقوات العسكرية بمجملها معرّضة للتدخل الخارجي، لا سيما في توزيع المياه والغذاء والذخيرة ومصادر الطاقة، أو على أقلّ تعديل تأجيل تسلّمها في المواعيد المقرّرة وحتى تحويلها إلى وجهة أخرى عبر برامج كمبيوتر ضارة.
اخصائيو الأمن الالكتروني في المعهد الدولي للأمن السيبيري أعربوا عن اعتقادهم بوجود رابط بين الحادثة الأخيرة في نيويورك وتصاعد التوتر بين واشنطن وطهران في مجالات عدة، أبرزها القرصنة الالكترونية. وعزز الاعتقاد ما نشرته يومية «نيويورك تايمز» مؤخراً تؤكد فيه «قيام الولايات المتحدة بزرع برامج الكترونية ضارّة في شبكة توزيع التيار الكهربائي في روسيا» وبأنّ واشنطن ماضية في مراقبة نظم الطاقة الروسية منذ عام 2012. 18 حزيران الماضي .
يُشار في هذا الصدد إلى التفويض الرئاسي الصادر عن البيت الأبيض عام 2018، يسمح بموجبه لطواقم الحرب الالكترونية الأميركيين القيام «بنشاط عسكري سري» دون العودة للحصول على إذن مسبق بذلك، ناقضاً القيود التي وضعها سلفه الرئيس أوباما ملزماً القرار لمجموعة من الأجهزة الاستخباراتية والأمنية.
وصرّح مستشار الرئيس ترامب لشؤون الأمن القومي، جون بولتون، مزهواً بعد صدور القرار الرئاسي بأنّ «السياسة الرئاسية منذ اللحظة تسير بعكس القيود السابقة.. وايّ دولة لديها نشاطات الكترونية تستهدف الولايات المتحدة، عليها أن تتوقع ردّنا هجومياً ودفاعياً».
تغاضى بولتون عن حقيقة بنود صرف ميزانية الدفاع التي تذهب بمعظمها إلى نظم تسليح وموارد ملموسة، كالطائرات والسفن بأنواعها، وما تتضمّنه الميزانية السنوية «المعلنة» من موارد مالية للصرف على الحرب الالكترونية لا يتعدّى 2 من المجموع العام.
أعرب عن ذلك بوضوح تامّ رئيس اللجنة الفرعية للقوات المسلحة للاستخبارات والتهديدات المقبلة في مجلس النواب، جيم لانغفين، بقوله «نحن بحاجة لمزيد من القاذفات والمقاتلات والصواريخ كي نضمن الدفاع عن بلادنا في نزاع تقليدي، بيد أنه ينبغي علينا مواجهة الحقيقة والنزاعات الرمادية الدائرة الآن والتي ستستمر في المدى المنظور».
أشدّ ما يقلق الرئيس الأميركي تعرّض الولايات المتحدة لهجوم الكتروني دون توفر سلاح مضاد فعّال باستثناء الأسلحة النووية.
القيادات العسكرية المتعدّدة أدركت حجم الثغرات في استراتيجيتها التسليحية بفرط اعتمادها على نظام تحديد المواقع، جي بي أس، والتحكم بتوجيه الأسلحة المختلفة عبر الأقمار الاصطناعية. أهمّ مثالبها تعرّض نظم جي بي اس لقرصنة الكترونية مما قد يشلّ الحركة بكاملها.
الأمر الذي سيفرض على قادة القطع البحرية إتقان معرفة الإبحار بالأجهزة الفلكية، والتي كانت أحد المواد المقرّر اجتيازها بنجاح قبل ثلاثة عقود سابقة.
توصيات الخبراء الأميركيين في الشقين العسكري والسياسي ترجح استخدام الحرب الالكترونية كسلاح هجومي مفضل للقرن الحادي والعشرين، وتراجع أهمية الحسم بالأسلحة النووية.
الظروف الدولية الراهنة تؤشر بوضوح تامّ إلى بدء «حرب باردة» الكترونية تتسابق فيها معظم الدول، وهي على درجة عالية من التعقيد لا تنطوي على وسائل دفاعية مضادة أو ثوابت كابحة كما هو الأمر في الحروب العادية بالأسلحة التقليدية ومن هنا خطورتها على العالم قاطبة والحياة البشرية كما نعرفها.
مركز الدراسات الأميركية والعربية