المواصفات للإقليم… والتظهير داخليّ!
د. وفيق ابراهيم
احتاجَ مؤسس ميليشيات «القوات اللبنانية» بشير الجميل إلى اجتياح «إسرائيلي» بلغ العاصمة بيروت في 1982 ليصبح رئيساً للبنان، لكنه اغتيل قبل ممارسته لصلاحياته. فهل يتكرّر المشهد مع خلفه سمير جعجع القائد الحالي لهذه الميليشيات الذي أعلن ترشيحه، مثيراً نقمة حلفائه واشمئزاز القوى المناهضة لتاريخه «الإسرائيلي» والدموي التي اقترفت مجازر في حق المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، وبينهم رئيس الوزراء رشيد كرامي.
لشرح مدى ارتباط هذا الانتخاب بالعامل الخارجي، يجب الإشارة إلى أن لا وجود لموارد اقتصادية في لبنان، ما فرض تأسيس قطاع خدمات يقوم على السياحة والمصارف والترانزيت، فأصبحت سورية بلد المعبر والسعودية بلد المال.
أما في السياسة، فالنظام اللبناني هش وضعيف لأنه يرتكز على محاصصة طائفية تجعل هذه القوى ترتبط بمستندات لها عربياً وإقليمياً، والوجه الآخر للسياسة في لبنان، وجود أحزاب قومية وإسلامية وداخلية ذات بعد وطني، ترتبط مع سورية وإيران بعلاقات لها نتيجتان: إقامة حلف في وجه النفوذ الأميركي، وبناء تحالف في وجه الكيان الغاصب.
لذلك ترتبط القوى اللبنانية على تنوعها بقوى عربية وإقليمية ودولية… تتكئ عليها وتتلقّى منها الدعم بمختلف ألوانه. وتجد نفسها مضطرة إلى الاستماع إلى نصائحها وطلباتها.
وللتاريخ، فإن جميع رؤساء لبنان حتى هذا التاريخ هم منتجات النفوذ المتتالي: الفرنسي، الأميركي ـ المصري اللواء شهاب في عهد عبد الناصر السوري ـ والسعودية، ومرة واحدة نجح الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان في فرض رئيس له في 1928.
بدأت مرحلة النفوذ السوري ـ السعودي بإشراف واشنطن ابتداءً من 1989 الذي رعى اتفاقاً لبنانياً ـ لبنانياً على أرض سعودية هي الطائف وبضغط سوري ورعاية أميركية. وكل ما جرى من انتخابات رئاسية وبرلمانية ونقابية بين 1990 ـ 2005 إنما كان نتيجة للتفاهم السوري ـ السعودي.
لذلك اعتبر الخبراء ترشيح جعجع إحراجاًَ لحلفائه لأنه غير مقبول في أي تسوية. والمعروف أنه خرج من السجن بعفو خاص لا يشير البتة إلى براءته بقدر ما يؤكد على إدانته كقاتل رئيس حكومة، ومفجر كنيسة كان يحاول فيها اتهام المسلمين لإحداث حرب أهلية.
يضاف أن توازن القوى الحالي يكشف بجلاء أن أصحاب النفوذ على الأرض اللبنانية هم سورية أولاً ومعها إيران. وهما اللذان وكلا حليفهما حزب الله حرية المفاوضة على اسم الرئيس المقبل من ضمن عدة قناعات أولها الالتزام بترشيح الحليف الكبير ميشال عون، وإلا فالقبول بأسماء أخرى لا تقل أهمية كالوزير سليمان فرنجية.
والإسم الثاني، في دائرة النفوذ القوي هي السعودية التي تمسك بقرار حركة «14 آذار» اللبنانية الموالية لها. لكن السعودية لم تحسم أمرها، ويرجح الخبراء أنها قد تدفع في اتجاه إحداث فراغ إذا لم تتم تسوية إقليمية كبيرة ترضيها في العراق واليمن وسورية.
أما راعي هذه التوازنات، فهي الولايات المتحدة الأميركية التي تربط بين الوضع اللبناني والوضع الإقليمي، وتريد إرضاء السعودية في لبنان من خلال اختيار رئيس مقبول من الرياض ولا يستفز المحور السوري ـ الإيراني. وعلينا ألا نتجاهل أيضاً جهود الفاتيكان المصرة على انتخابات رئاسية في موعدها 25 أيار المقبل إذ تخشى على الدور السياسي للمسيحيين في لبنان، وهو آخر دور سياسي يؤديه مسيحيون في العالم العربي والإسلامي.
لا يتدخل والفاتيكان في الأسماء، لكنه يبدو منسجماً مع إصرار سورية وحلفائها على إجراء الانتخابات في موعدها 25 أيار مع اختيار رئيس قوي يعكس توق المسيحيين إلى الارتباط بالمشرق العربي حيث الانتماء الأصيل، ويكون على استعداد للدفاع عن الوجود المسيحي ضد قوى التكفير والهرطقة.
من هنا، نرى أن الرياض ليست في موقف تحسد عليه، فلا يستطيع الموالون لها في لبنان أن ينتخبوا وحدهم رئيساً، ولم ينجح مشروعها في إسقاط النظام السوري الذي يدحر التنظيمات الموالية للسعودية وأصدقاء سورية في لبنان يمسكون بكامل الأرض وأصبحوا قوى ذات بعد إقليمي.
لذلك تجد الرياض نفسها أمام واحد من احتمالين، إما أن تسعى إلى رئيس لبناني محايد وتعتمد بذلك على نفوذ أميركي، أو أن تدفع باتجاه الفراغ الذي لا يعني إلا تدمير لبنان على رؤوس القوى المقربة من السعودية و«إسرائيل».
أما الاتكال على «إسرائيل» كي تحدث تغييراً في موازين القوى فليس إلاّ هذياناً لأن الدول تنفذ مصالحها فحسب، وإذا صودف أن الهجوم على لبنان قد يتسبب بحرب إقليمية في ظل الممانعة الروسية، فإن الكيان الغاصب لن يفعل إلا مصلحته، ومصلحته فحسب. ولن يخوض حرب السعودية في لبنان وسورية.
سورية إذن، ومعها تحالفاتها من بحر قزوين وحتى المتوسط هي مفتاح الانتخابات الرئاسية في لبنان، ولا تريد أبداً رئيساً مسيحياً تابعاً، لأن العماد عون ليس من قياس التابعين. بل تريده مستقلاً يعرف أين هي مصلحة لبنان ومتى على الرئيس المسيحي أن يعتبر التاريخ والمستقبل أهم من الإغراءات المالية والقصور في عواصم أوروبا واسطمبول وفنادق الخليج.