بين العثمانيين والفرنسيين والسوريين و«إسرائيل»… «ذاكرة وطنٍ معقدة»
روزانا رمّال
فتك الاستعمار بلبنان ومعه أوجه الاحتلال والنفوذ كافة وفتك بالهوية اللبنانية وبالانتماء الى وطن «سيد، حر، مستقل»، كما يدعي ابناء الزمن الراهن. لكن واذا اردت ان تبحر في ثقافة شعبٍ أسأل عن تاريخ مستعمريه الذين طبعوا فيه ما سيعيش معهم ويمتد والذي يبدو انه الجزء المؤسس لما نعيشه اليوم من اختلافات سياسية أساسها موروثات وذاكرة لم تغب عن بال أحفاد سمعوا من اجدادهم ما طبع عنها وبدل التخلص منها وإبقائها على ورقة كتاب تاريخ مفقود او في ذاكرة وطن تغنى بحضارات مرت على ارضه تأتي أبسط الوقائع لتشعل نفوس البعض بشكل مفاجئ. ففي لبنان يبدو ان لقراءة التاريخ أوجهاً مختلفة وفي لبنان من يعتبر أن الولاء للخارج ولو مر عليه مئة عام «لم تنته صلاحيته بعد». واذا كان لبنان مصغراً عما لا يزال شعبه يكرسه في يومياته ومعتقداته، فان هذا يعني بالتأكيد ان هذا لا يزال يعيش في ذهن المستعمرين او كل من سيطر عليه بشكل غير طبيعي. وهي اليوم اضحت دولاً اقليمية ودولية كبرى تفاخر باحتلالها مناطق في هذا العالم. كيف لا وهذا سبب اساسي في رفعها لمستوى تصنيف دولي «مرموق». نعم وحده الاستعمار هو الذي يرفع من شأن تصنيفات من نوع آخر وها هي الولايات المتحدة الاميركية الاكثر قدرة على شن غزوات واجتياحات في العالم تصنف الرقم الاصعب اليوم.
وعلى ان ما يطرح اليوم أشكال ابعد من كل ما يعيشه لبنان من تحديات اقتصادية وسياسية وامنية من الداخل والخارج، ومعه خطر افلاس البلاد، الا انها بدت وكأنها إشكالية ملحة تكاد تدخله في مأزق دبلوماسي مع تركيا. هذه الدولة التي أرادت تحسين العلاقات وإلغاء التاشيرات مع لبنان وتعزيز منطق التبادل السياحي والتجاري إلا ان حسن النيات التركية حينها لن يغير في الودّ قضية ولن يلغي ما يعيش في ذهن اللبنانيين والأرمن فيه لا بل الغالبية العظمى منهم ومعهم السوريون أيضاً الذين عايشوا مرحلة الاحتلال التركي لبلادهم.
حدّد رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون موقفه حيال أشكال الاستعمار او احتلال السلطنة العثمانية في تغريدة وحدّد موقفه من أي احتلال تاريخي على أرض لبنان كما اسماه النفوذ الفرنسي وغيره. وبالواقع هو ليس موقفاً مفتعلاً بقدر التذكير بما مر على اللبنانيين من اشكال للاستعمار لم تنهه عن التقدم والمواجهة. وهي لحظة اعلان مئوية لبنان أي لحظة تشجيع وثني على الاستمرار.
قال عون «كل محاولات التحرر من النير العثماني كانت تقابل بالعنف والقتل وإذكاء الفتن الطائفية. إن إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون على اللبنانيين خصوصاً خلال الحرب العالمية الاولى، أودى بمئات آلاف الضحايا ما بين المجاعة والتجنيد والسخرة».
تركيا ردّت بقسوة على ما اعتبرته تعدياً قائلة «إن تجاهل الرئيس عون لما جرى في فترة الاستعمار، التي هي أصل كل مصيبة في يومنا، من خلال تحريف التاريخ عبر الهذيان، ومحاولته تحميل مسؤولية تلك الأمور للإدارة العثمانية، إنما هو تجل مأساوي لشغفه بالخضوع للاستعمار نافية وجود «إرهاب دولة» في تاريخ الإمبراطورية العثمانية، وأنها كانت فترة استقرار طويلة في الشرق الأوسط.
صحيح، أنها كانت فترة طويلة جداً من تاريخ المنطقة، لكن الأصح انه لا يمكن اعتبارها مشروعة وإلا لبقيت كل اشكال الاستعمار عندنا ولأنها خالية من اي شرعية.
ليست مهمة اليوم المشكلة مع تركيا، فرئيس الجمهورية الذي استقبل وزير الخارجية التركي منذ ايام لا يقصد الاساءة للعلاقة بين البلدين بالتأكيد ولا يقصد استفزاز هذه السلطة من دون مناسبة، لكن مجرد وقوع الخلاف أخرج حقائق قاسية يجب التعاطي معها بجدية.
بشكل مفاجئ انقسم البعض في لبنان على هذه الوقائع، وبدأ بعض المشايخ الكبار يرسلون رسائل الدعم لتركيا على حساب رئيس الجمهورية. وهذا الامر لا يتعلق بالتأكيد بتركيا وحدها فهناك من لا يزال يعيش بحلم الاستعمار الفرنسي ولا يعتبره احتلالاً خوفاً من ان يعرقل هذا التصور العلاقة مع فرنسا ربما اما بالنسبة الى سورية التي ينقسم الشارع اللبناني حولها بشكل عمودي فإن الذين يعتبرون وجودها خدمة ومنفعة للبنان وانه كان رافعة للعروبة والقومية فيه دعما للمقاومة هم كثر وهم انفسهم لا يشعرون بنقصان سيادة اذا عاد هذا النفوذ ليطفو على السطح..
هو نقصان السيادة نفسه الذي فتح الطريق لـ»إسرائيل» للدخول الى مناطق لبنانية واجتياح بيروت. وهو نفسه الشعور الذي اعتبر فيه البعض ان «إسرائيل» هي المدافع عنهم بوجه تمدد فلسطيني أوهمهم بشعار صار كابوساً ان «طريق القدس تمر من جونيه»، فتعامل جزء من اللبنانيين مع الاحتلال على انه أمر واقع. وبعد مرور السنين نشأ جيش برمته من اللبنانيين الذين يؤيدون سلطات الاحتلال المعروف بجيش «لحد» الذي حظي هو الآخر بتبريراته عند البعض حتى الساعة.
ضاعت السيادة عند عتبات الاستعمار والمصيبة الكبرى ان كل هذا لا يزال يعيش في اذهان البعض.. فبعض العصبية السنية تحرّكت تجاه تركيا فوراً وكأن بالأمر جرس إنذار يهز الدين الحنيف. وتركيا اليوم المثال الأبرز ليس بسبب الواقعة انما بسبب مرور مئة عام لم تحرر اللبنانيين من موروثاتهم. فكيف بالحالة الفرنسية والسورية كي لا نذكر الإسرائيلية التي استطاعت المقاومة بشكل كبير محو صورة الهيمنة من أذهان اللبنانيين المعنيين بمواجهتها، لكن دون ان يعني هذا ان العملاء لا يتفشّون في لبنان كما المنطقة العربية لهذا الكيان كالنار بالهشيم على خطى التطبيع..
الانقسام الطائفي والسياسي نفسه ظهر اليوم على الهيئة نفسها. هذا الانقسام ليس الا نتاج موروثات كل ما مر على لبنان وعلى ان هذا أبناءه لم يتحرروا من هذه الذكريات بحلوها ومرها. فان الولاء للبنان «أولاً» ليس الا شعاراً ضاعت معه الهوية في تعقيدات حاضر وماضٍ ومستقبل ابناء وطن ذاكرته مرتهنة!