النووي الإيراني واحتراق كلّ أوراق الغرب
د. رائد المصري
بهدوء… إنّه الرئيس دونالد ترامب المجْهول الهوية والانتماء وهو يقود المركبة الأميركية نحو الانحدار والأفول، بتمنّعه عن فكّ العقوبات وإبقاء الحصار وهو يرغب في الحوار مع إيران، بقبوله عودة روسيا الى مجموعة الثّماني الكبار ويطلق سباق التسلّح وينسحب من معاهدات الصواريخ والحدّ من انتشارها، يتفاوض مع الصّين وحول عمْلتها ويصعّد في العقوبات التجارية عليها، ينزع من أوروبا كلّ أوراقها ومبادراتها السياسية والاقتصادية ويتركها وحيدة تلاطمها أمواج أزمات الشرق الأوسط والبريكست البريطاني.. فمن لا تزال معه الأوراق السياسية وفوائضها والتقنين في استخدامها بدقّة وصبر سيكون المنتصر، ومنه ستتحدّد معالم تشكيل الشرق الأوسط والمنطقة من جديد، بناءً على معطيات الملف النووي الإيراني الذي عاد الى الواجهة من بوابة حرق أوراق القوّة لدى الغرب الأوروبي والأميركي، ليبقى الملف النووي لـ»إسرائيل» كقوّة وحيدة والتي لا بدّ من لجْمها ووضع حدٍّ لها…
الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو الوحيد الراغب في استمرار طهران زيادة تخصيبها النّووي وطرودها المركزية، وفي استمرار تعاظم قوّتها ودورها ليعيد الاستقطابات والاصطفافات الدولية ضمن مبدأ الاحتواء المزدوج في الشرق الأوسط بين الكيان الصهيوني والجمهورية الإسلامية الإيرانية. فهو أيّ ترامب تحايل على الأوروبيين ونزع منهم أوراق التفاوض والمبادرات السياسية والمالية والاقتصادية في ما يختصّ بالإبقاء على تفعيل ما تبقّى من الاتفاق النووي بين إيران والخمسة زائداً واحداً، ويريد أنْ تستمرّ طهران في زيادة التخصيب وبما يقلق الكيان الصهيوني ودول الخليج ليبقى ممسكاً بخيوط اللّعبة في الشرق الأوسط ومصير الدول المسمّاة حليفة لأميركا، وهي لعبة توازنات دولية خطرة تصل بـ»إسرائيل» الى حافة الهاوية وربّما تعيدها الى حظيرة الغرب من جديد في استخدامات أمْثل لمشروعه الاستعماري، وربّما تقضي على مستقبل هذا الكيان الوظيفي المكْلف لأميركا ومشاريعها الداخلية، فيتمّ القضاء على أهمّ عامل من عوامل قوّة الكيان الصهيوني ألا وهو الرّدع النووي الذي يتسلّح به ليفْتح ملفه من أجل إبقاء الشرق الأوسط خالياً من أيّ سلاح للدمار الشامل بفعل التوازن الإيراني لكن عبر ربط خيوط توازناته مع واشنطن.
وإيران التي عرفت كيف تستنزف طاقات الغرب رغم العقوبات المؤلمة عليها، كشفت حقيقة بعض العرب أمام القضية المركزية الأم وهي فلسطين، وكشفت سياسات ترامب تجاهها وتجاه دول الشرق الأوسط الذي يريد إعادة تفكيك وتركيب منظوماتها السياسية لجنْي الثروات وتكديس الأموال، وكشفت طهران كذلك الضّعف الأوروبي حيال السياسات الأميركية والاستتباع الدائم لها، لا سيّما أنّ الدول الأوروبية المنضوية تحت لواء منظومة الإتحاد الأوروبي هي مندمجة في المال والاقتصاد وليست مندمجة في الرؤية والموقف السياسي الموحّد. من هنا يتجلّى الضّعف في الموقف الأوروبي والذي لا يقام له وزن على المستوى الأميركي ولا حتى على المستوى الإيراني الذي رهنه وامتحنه بضرورة الالتزام بالتعاون مع طهران وبيع النفط وتفعيل آلية أنيستكس حيث فشل، وكان الفشل الأخير في مبادرة الرئيس ماكرون ذات الـ 15 مليار دولار التي لم يقم لها وزناً الرئيس ترامب. ومضى في التصعيد مع طهران وهو راغب في مفاوضتها، في حين أنّ الجمهورية الإسلامية تسير وفق أولويات أربعة في مسارها الصّاعد إقليمياً ودولياً والمتمثّلة في مبدأ التشاركية وتشبيك المصالح في الاقتصاد والمال والنفط والغاز، ومبدأ المساهمة في الحلول وأمن الملاحة العالمي ومضيق هرمز وكل المعابر والممرّات الحيوية، والمبدأ الثالث وكالة الطاقة الذرية وإشرافها والالتزام بتفتشيها وتقاريرها رغم أنّها بدأت بتطوير وزيادة تخصيبها من 3.67 الى 4.5 وزيادة أعداد طرودها المركزية، والمبدأ الرابع المفاوضات والذي لم تقْفل طهران بابه أبداً وهو ما بات يحرج الغرب وأميركا ودول الخليج…
هي مبادئ أساسية تعتمدها إيران ويبدو أنّها تسير وفقها بما يمكّنها من انتزاع ما تبقّى وإفراغ أميركا وأوروبا معها من أوراق، بعد أن احترقت أوراق التوظيف للكتل البشرية الإرهابية في المنطقة لمحاصرتها مع حلفائها في محور المقاومة، وبعد الفشل في تحقيق استقطاب دولي خليجي عربي عبر التحالف المسمّى بالناتو لتمرير «إسرائيل» وتسلّلها إليه، وكذلك الفشل في تضييق العقوبات وتصفيرها على طهران والاعتداءات والتوترات في مضيق هرمز ومحاولة تشكيل تحالف دولي بقيادة أميركا لتأمين الملاحة الدولية لربط مرور النفط والغاز بقرار واشنطن عالمياً ومسارعة بوتين وروسيا للإعلان عن استعداده لحماية موانئ الخليج ومضيق هرمز بالقوة العسكرية، إذا لزم الأمر…
بهذا استطاعت إيران توظيف قدراتها التفاوضية وصبرها الطويل ومكانتها الجيوسياسية وتطورها في التقنيات النووية والعسكرية بما يخدم مشروعها في الإقليم ومشروع حلفائها في العراق وسورية ولبنان وفلسطين، وما على العرب إلاّ أن يحذوا الحذو الإيراني في توظيف قدراتهم وإمكاناتهم خدمة لقضاياهم وفلسطين، لا أن يضعوا أموالهم ونفطهم وقوتهم الجيوسياسيّة ومكانتهم الدينيّة والشرعيّة بيد الأميركي و»إسرائيل» ويشتكوا من التمدّد الإيراني وقوّة نفوذه.
أستاذ في العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة