الفساد يعرقل تحرير أموال مؤتمر «سيدر»
هتاف دهام
لم تأت نتائج زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى باريس كما هي مرجوّة. فرئيس الحكومة ذهب إلى لقاء الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وكله أمل أن يتمّ تحرير الشق الأول من أموال سيدر والتي تهدف إلى تمويل مشاريع استثمارية في البنى التحتية في لبنان على رأسها توسيع مطار رفيق الحريري الدوّلي.
وبحسب المعلومات، فإن الرئيس الفرنسي أبدى امتعاضه من عدم قيام الحكومة اللبنانية بخطوات جدّية في مجال الإصلاحات رغم الطلب الفرنسي المتكرّر عبر المبعوث الفرنسي دوكان. وقد قالها الرئيس ماكرون بكل وضوح للرئيس الحريري: لا أموال من سيدر ما لم تقوموا بإصلاحات . وتُشير المعلومات إلى أن الرئيس الفرنسي أعطى الرئيس الحريري مهلة شهرين للقيام بإصلاحات، تُظهِر جدّية الحكومة اللبنانية في التعاون مع المُجتمع الدوّلي.
وبحسب الباحث الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة لـ البناء ، تتمحّور هذه الطلبات حول ثلاث نقاط أساسية هي ملف الكهرباء، الإصلاحات في القطاع العام، ومحاربة الفساد التي تؤدّي كلّها إلى خفض العجز في الموازنة. وقال عجاقة: لا يتفهّم الفرنسيون لماذا لا يتمّ إصلاح ملف الكهرباء في لبنان والذي يستنزف خزينة الدوّلة اللبنانية. وهذا الأمر أصبح أولوية بالنسبة لفرنسا، وبالتالي لن يكون هناك أي تمويل ما لم تقم الحكومة بتنفيذ وعودها.
لا شك في أن تنفيذ خطّة الكهرباء بحاجة إلى وقت، فهل يعني هذا أن أموال سيدر لن تأتي قبل انتهاء تطبيق الخطّة؟
ما يُريده الفرنسيون واضح يقول عجاقة: خطوات عملية تُظهر أن الخطّة على الطريق السليمـ وبالتالي يكفي أن يكون هناك عدد من الخطوات التي تُظهر حسن النيّة لكي يتمّ تحرير الرزمة الأولى من أموال سيدر. وهذا الأمر لم تقم به الحكومة مع العلم أن خطّة الكهرباء أقرّت منذ فترة.
وعليه، فإن مُشكلة الكهرباء، بحسب عجاقة، تُثير حساسية المجتمع الدوّلي كله وعلى رأسه البنك الدوّلي الذي طالب الحكومة منذ عشرات السنين بالقيام بإصلاحات في هذا القطاع، وهو مُستعدّ للتمويل بفائدة مُيسّرة، إلا أن المصالح الخاصة الضيقة تمنع أي إصلاح في هذا القطاع.
وعن نوعية الخطوات، يقول عجاقة الخطوة الأولى تتمثّل برفع التعرفة، ومن ثمّ تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، إجراء مناقصات مباشرة من قبل الدوّلة اللبنانية لشراء الفيول من دون المرور بشركات وسيطة، والتوقيع من خلال مناقصة شفافة على إنشاء معامل. هذه الخطوات ليست بصعبة لاتخاذ القرار فيها، إلا أنها تواجه مقاومة من قبل أصحاب النفوذ.
أمّا في ما يخص القطاع العام، فيرى الفرنسيون أن هناك مُشكلة في حجم هذا القطاع ويُطالبون الحكومة اللبنانية بإجراء مسح كامل وشامل لموظّفي القطاع العام ولكن أيضًا مكننة القطاع العام بالكامل وخلق الحكومة الإلكترونية. لكن هذا الأمر، وبحسب عجاقة، يواجه مُشكلة التوظيف الانتخابي حيث يقول إن كل الزعمات التي تمّ إنشاؤها في لبنان، كانت على حساب التوظيف في القطاع العام مع عشرات الألوف من الوظائف التي لا جدوى اقتصادية منها. ويكفي النظر إلى أرقام كتلة الأجور في القطاع العام لمعرفة أن مُعدّل الزيادة السنوية منذ العام 2007 وحتى العام 2018، كان 435 مليون دولار أميركي! لذا لا يجب أن نستغرب أن حجم القطاع العام اليوم أصبح يُشكّل 6 مليارات دولار أميركي سنويًا أي ما يوازي نصف مدخول الدوّلة.
وعن الإجراءات المطلوبة من الحكومة اللبنانية على هذا الصعيد، يقول عجاقة: المطلوب هو مسح لعدد وأسماء الموظّفين في القطاع العام من ملاك وأجراء ومُتعاقدين ومقدمي خدمات ومياومين… ووضع وصف توظيفي لمهامهم بغية إعادة توزيعهم بشكّلٍ فعّال. وبما أن الفساد مُستشرٍ في القطاع العام، هناك إلزامية لتفعيل المكننة التي تُخفّض بشكل كبير من حجم الفساد والرشوة ويؤمّن في الوقت نفسه مداخيل إضافية لخزينة الدولة اللبنانية أي خفض العجز.
وإذا كانت فرنسا تطالب الحكومة بمحاربة الفساد، فإن هذا الفساد، وفق عجاقة، مستفحل في مؤسسات ووزارات الدوّلة على أنواعها. وبما أن السلطة القضائية تخضع للسلطة التنفيذية فهناك شبه استحالة لمكافحة الفساد المحميّ بالمحصاصات الحزبية والطائفية. لذا نرى أن فرنسا بطلبها من الحريري محاربة الفساد، تنشد إقرار قوانين تضمن استقلالية القضاء اللبناني وتفعيل أجهزة الرقابة بكل أنواعها من ديوان المحاسبة، إلى التفتيش المركزي مرورًا بمجلس الخدّمة المدنية وغيرها. وبالتالي هذا الأمر هو بالدرجة الأولى عمل تشريعي وعمل إداري.
لكن يبقى السؤال الأساسي: هل ستقبل القوى السياسية باستقلالية القضاء؟ يقول عجاقة بالطبع لن يكون الأمر سهلًا خصوصًا أن الماضي ثقيل جدًا وتتخوّف هذه القوى من فتح الملفات الماضية مما سيؤدّي إلى تغيير جذري في المشهد السياسي اللبناني. لكن الضغط العالمي لن يكون سهلًا في المقابل وما تطلبه فرنسا اليوم واضح: استقلالية القضاء اللبناني.
لا شك في أن كلفة الفساد على خزينة الدوّلة، وفق قراءة عجاقة، باهظة جدًا وتفوق الـ 13 مليار دولار سنويًا منها 6 مليار دولار أميركي أقلّه خسائر مباشرة على خزينة الدوّلة تهريب جمركي، كهرباء، أملاك عامّة، تخمين عقاري، تهرّب ضريبي، سفر، تجهيزات، مناقصات عمومية، أشخاص غير كفوئين في مراكز سلطة… ، والباقي هي خسائر غير مباشرة أو ما يُعرف باللغة الاقتصادية بغياب الفرص الاقتصادية.
ويستطّرد قائلًا، لا يُمكن للدوّلة اللبنانية الاستمرار على هذه الوتيرة من الفساد، خصوصاً مع ارتفاع طلب الدولة على الأموال والتي كانت تمولها سابقاً من خلال الاستدانة، إلا أنه اليوم ومع خفض التصنيف الائتماني أصبحت الاستدانة مكلفة جدًا. وبالتالي هناك معضلة تفرض نفسها: الاختيار بين فرض الضرائب أو مُحاربة الفساد.
هذا القول يحمل في طيّاته مخاوف لدى عجاقة الذي يتوقّع أن تزيد نسبة الضرائب في الموازنات المقبلة 2020، 2021 و2022 . وتأتي مخاوفه من منطلق أن قرار محاربة الفساد لم يُتخذ فعليًا على الرغم من وروده في ورقة بعبدا المالية الاقتصادية، وعلى الرغم من موافقة مُعظم القوى السياسية التي شاركت في اجتماع بعبدا المالي الاقتصادي على هذه الورقة.
إذًا، الطريق لا تزال غير سالكة أمام أموال مؤتمر سيدر التي يعوّل عليها لبنان كثيراً للنهوض باقتصاده وبماليته العامة.
فهل ستبدأ فعلًا محاربة الفساد في لبنان؟