في معنى الانتصار السوري والتأثيرات الإقليمية والدولية وتحدياتها
أمجد إسماعيل الآغا
لم تعد الحرب على سورية وإرهاصاتها بوابة لتوازنات إقليمية ودولية جديدة فحسب، بل ساهمت تداعيات الحرب على سورية، برسم منحى جيوسياسي ناظماً للاصطفافات والتحالفات الوليدة في المنطقة، وعليه فقد باتت موازين القوى هي العامل الحاسم في تقوية بنية التحالفات، وتوجيه السياسات الخارجية. وبالتالي فإنّ جوهر الصراع بين روسيا والولايات المتحدة بوصفهما قطبين يوازي كلّ منهما الآخر سياسياً وعسكرياً، وحتى على مستوى التشبيك الاقتصادي، يقوم على تحديد مناطق النفوذ، ورسم المسارات الجيوستراتيجية المنظمة لحدود العلاقات والتفاعل السياسي والعسكري في ما بينهم.
ضمن ذلك تتأرجح كتلة محتملة من الصدامات بين موسكو وواشنطن، ما يُهدّد العلاقات بين القطبين بالوصول إلى مستويات تصادمية. لكن في جانب آخر تقوم العلاقات في ما بينهم بتصحيح مسارها تلقائياً، خاصة إذا ما اقتربت المسارات العسكرية إلى درجة تهدّد بموجبها خرائط النفوذ العالمي.
هذا التصحيح التلقائي برز واضحاً في سياق الحرب على سورية، وهذا ما يؤكد بأنّ سورية كانت ولا زالت عاملاً جيوسياسياً حاسماً في رسم سياسيات الدول، حتى أنّ الموقع الاستراتيجي لسورية منحها بعداً اقتصادياً فاعلاً ومؤثراً في رسم فرضيات اقتصادية، تُبنى عليها المعادلات الجيو اقتصادية.
من هنا. لا يمكن الإنكار بأنّ العلاقات الثنائية الروسية الأميركية تسعى في مضامينها للابتعاد عن المواجهة العسكرية، مع بقاء الحماس السياسي بين الطرفبن في مستويات تنافسية. وعليه لا يمكن التنبّؤ بمسار المرحلة الحالية، ولا يمكن اكتشاف أيّ سيناريو في ظلّ فوضوية التوجهات الأميركية في المنطقة.
لكن في معنى الانتصار السوري، برزت مُعادلات ستؤطر بموجبها الكثير من التوجهات الأميركية في سورية تحديداً، وهذا ما يجعل الفضاء السياسي لمنظومة العلاقات في حالة شدّ وجذب، في ظلّ التنافس الجيوسياسي، خاصة أنّ واشنطن فشلت في تطبيق أجندتها في سورية، وفشلت في المقابل في تعزيز موقفها السياسي لدى شركائها الإقليميون. وعليه، يبدو أنّ التفاعل السياسي البناء وإنْ كان متردّداً بين موسكو وواشنطن، لكن التفاعل بين جيشي البلدين في طريقه للتراجع في سورية، وربما يُنظر إليه على أنه لم يعد ضرورياً.
يبدو واضحاً أنّ سورية الموقع والدور الإقليمي المؤثر والفاعل، شكلت مدخلاً لرسم مشاهد الشرق الأوسط وخطوطه العريضة، حتى أنّ سورية باتت ساحة لتنفيس حالات الاحتقان الإقليمي والدولي عبر الوكلاء، وهذا ما يهدّد حقيقةً إمكانية التوصل إلى حلّ بشأن الحرب على سورية. ورغم ذلك فإنّ الحالة السياسية السورية القادرة على جمع التناقضات الإقليمية والدولية، وترجمتها مسارات واقعية، ستثبت قدرتها على تفسير الظواهر المعقدة والراهنة، وصوغ حلول سياسية أو بدائل عسكرية، وذلك انطلاقاً من قدرة الدولة السورية على إدارة مستويات الصراع في سورية وعليها. وهذا ما تمّ إثباته بدلائل قاطعة، حيث أنّ الرئيس الأسد تمكّن وبقدرة استراتيجية من توظيف وإدارة وتفكيك كافة المعادلات الجيوسياسية المتربّصة بالدولة السورية، وتشكيل نماذج من التوازنات، ستكون بلا ريب بوابة لحلول سياسية، وأنموذجاً اقتصادياً مؤثراً على مستوى الإقليم.
ضمن مآلات واستشرافات الوقائع في سورية والإقليم، والتي تشوبها الكثير من التعقيدات والتداخلات، فإنّ النماذج السياسية القابلة للحياة، باتت في منحى تصاعدي، هذا الأمر يُعدّ جانباً من معادلات الردع والقوة التي فرضت من قبل سورية ومحورها المقاوم. كذا روسيا التي وجدت في سورية امتدادا جيواستراتيجياً لتطلعاتها في مواجهة النفوذ الأميركي، الذي اتخذ من حرب العراق واحتلاله، مسرحاً يمكن من خلاله توظيف أجندته حيال ما سُمّي الشرق الأوسط الجديد، لكن وضمن الفروقات الجوهرية في العلاقات التي يُبنى عليها إقليمياً ودولياً، فإنّ الشراكة بين روسيا ومحور المقاومة تنطلق من شراكات استراتيجية عميقة، بينما تسعى الولايات المُتحدة لتوظيف سطوتها وهيمنتها السياسية والعسكرية حتى في بنية علاقاتها، خاصة أنّ واشنطن سرعان ما تتخلى عن أدواتها ضمن أيّ منعطف سياسي أو عسكري. فالانتصار السوري ولّد بين موسكو وواشنطن صراع إرادات إقليمياً ودولياً، وهذا ما أحدث نوعاً من التصدّع في بنية الإصفافات على مستوى الإقليم، الأمر الذي سيؤثر بالشكل والمضمون على الشرق الأوسط كاملاً.
ضمن ذلك، بات واضحاً أنّ الحالة السورية بوصفها السياق الرئيس في بناء المعادلات الإقليمية والدولية، قد باتت ناظمة ووفق الموقع الجيو-إستراتيجي لسورية، لكافة حالات الصراع والتنافس على المستويين الإقليمي والدولي، وبالتالي فإنّ الصراع والتنافس على سورية باعتبارها عاملاً مرجّحاً في توازنات المنطقة، سيكون له الأثر الحاسم في تحديد مآل الأزمات الشرق أوسطية، والمسارات التي يمكن أن تسلكها مستقبلاً.
بناءً على هذه الرؤية، فإنّ التلاقح بين المعادلات السياسية ومثلها العسكرية، جعلت من الشرق الأوسط بؤرة للتوتر، خاصة أنّ مشاهد الصراع في المنطقة، قد فرضت على هذه البؤر ضرورات سياسية، خشية التدحرج إلى تصادم عسكري. هذا الأمر تُرجم في سورية عبر الرغبات بإيجاد الحلول السياسية، مع إبقاء حالة الكباش العسكري عاملاً ضاغطاً للتأثير على أيّ خارطة طريق سياسية، فالحرب على سورية وما أنتجته من إعادة ترتيب الإصطفافات وخلق معادلات جديدة، كانت سبباً رئيساً في البحث عن معادلات التهدئة. ذلك انطلاقاً من أنّ الانتصار السوري بجانبيه السياسي والعسكري بات أمراً واقعاً لا يُمكن بأية حال من الأحوال تجاوزه أو تحجيم نتائجه.
صفوة الوقائع والمعطيات السابقة، الواضح أنّ طبيعة الصراع في الشرق الأوسط قد أنتجت ثنائيات متنافسة سياسياً، وقد ترقى إلى تصادم عسكري. هذه الثنائيات ستكون بوابة لأزمات تدخل الشرق الأوسط في متاهات البحث عن تفوق يصرف سياسياً أو عسكرياً ضمن أيّ منعطف استراتيجي، وباتت ثنائيات السعودية إيران، و»إسرائيل» إيران، والولايات المتحدة إيران، والولايات المتحدة روسيا، تزيد من احتماليات التوتّر والتصادم العسكري. وعليه فإنّ حالة الصراع بين الثنائيات السابقة، بوصفها عاملاً مؤثراً في التوجهات الإقليمية والدولية، لا يُمكن تبيان مآلاتها في المدى المنظور، لكن رغم ذلك. الواقع يؤكد أنّ القراءات الاستراتيجية لهذه الثنائيات، تُدرك بأنّ الحدود التي يتمّ اللعب على هندستها، قد لا تصل إلى الحدود العسكرية، وعليه فإنّ حالة التنافسية قد تأخذ اشكالاً أقل فتكاً، خاصة أنّ الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة، قد توصّلوا لنتيجة استراتيجية مفادها أنّ القوة الهجومية والزخم الناري الذي أنتجته تداعيات الانتصار السوري، قد أسّس لما هو أبعد من قدرة واشنطن وأدواتها على الإحاطة به.
لكن هذا لا يمنع واشنطن من إحداث أكبر قدر ممكن من الدمار السياسي، ولا ضير بمناورات عسكرية، لكن تبقى ضمن معادلة أنّ روسيا في الشرق الأوسط، وقد باتت تملك من الثقل السياسي والعسكري ما قد يزلزل أركان واشنطن. نتيجة لذلك، هناك بحث جمعي عن تقليص احتمالات التصادم العسكري، وتأطير أيّ تنافس إقليمي أو دولي ضمن حدود السياسية، فالشرق الأوسط وضمن هذه الظروف والوقائع، سيكون أشبه بقنبلة لن يكون بمقدور أيّ قوى إقليمية أو دولية، تحمّل تداعيات انفجارها، وبالتالي لا بدّ من السياسية والدبلوماسية، فهاتان الوسيلتان وحدهما قادرتان على الإبقاء على صمام الأمان الاقليمي والدولي بعيداً عن الانفجار.