العنصرية الأميركية ثقافة تاريخية مستمرة
د. وفيق ابراهيم
إنّ الاعتداءات المميتة لرجال الأمن الأميركيين على مواطنين أميركيين، إنما من ذوي البشرة السوداء، ليست أعمالاً استثنائية عابرة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية الملطّخ بعنصريته منذ وصول الرجل الأبيض إلى القارة الجديدة وحتى اليوم.
وللعنصرية أسباب مركبة، أولها مستمدٌّ من قارة أوروبا التي استعمرت أفريقيا واسترقت أبناءها. وهذا مطبوع في ذاكرة الرجل الأوروبي الأبيض الذي غزا أميركا أيضاً وجلب إليها الأفارقة السود كعبيد يمارسون المهن الوضيعة وهم رقيق يملكهم الرجل الأبيض بوثائق مختومة.
ومع احتكار الأميركي الأبيض لوسائل الإنتاج، وإخضاع الرقيق الأسود كمجرد أدوات عمل ثانوية مملوكة من دون حقوق، تصبح الفوارق الطبقية كبيرة، وتتحول مع الزمن إلى فوارق علمية وثقافية وحضارية، فتتحكم بالرجل الأبيض نزعة رفض للتعايش مع الأسود في بيئة اجتماعية وحضارية واحدة، وتتمظهر على شكل عنصرية يتبناها حتى البيض الفقراء أحياناً.
لقد أسهمت الصراعات السياسية التي اجتاحت الولايات المتحدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في بناء إمبراطورية اقتصادية قوية تقوم السياسة فيها على الصراع بين حزبين رئيسيين يحتاجان إلى أصوات الأميركيين ومنهم السود ذوو الأصول الأفريقية، فتحسّن وضع هؤلاء نسبياً، وخرجوا من حالة الاسترقاق القانونية إلى استرقاق اقتصادي لأنّ مالكي وسائل الإنتاج هم البيض ولا يزالون.
ولا شكّ في أنّ انتشار الدولة الأميركية في العالم وتمكنها من السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية في معظم القارات، حسّنا من وضع السود سياسياً واقتصادياً. فالدولة المتمكنة تميل دوماً إلى «التسامح» كوسيلة للاحتواء، لكنها ترفض في عمقها «التماثل» وإن زعمت أنها أدركته.
لذلك نصَّت القوانين الأميركية على إلغاء كلّ مظاهر التمايز بين البيض والسود على المستوى السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي، وشهد القرن الماضي تطبيقاً ظاهرياً لتراجع العنصرية سببه الرخاء الاقتصادي الناتج من سيطرة أميركا على العالم، وانتشرت ثقافة المساواة غير المطبّقة فعلياً على المستوى الاجتماعي.
ومع عودة الوضع الاقتصادي إلى التدهور، عادت أسهم العنصرية إلى الارتفاع والظهور. فلأميركا 700 قاعدة عسكرية في العالم بنفقات هائلة، وقد خاضت بعد عام 1990 عشرات الحروب البرية والجوية بأكلاف خرافية تزامنت مع ركود اقتصادي يجتاح العالم.
وبالنظر إلى الصورة الداخلية الحالية، يتضح لنا أنّ 10 في المئة من الأميركيين كانوا يحوزون على ربع الناتج القومي، وأصبح هؤلاء العشرة في المئة يحوزون على نصف الناتج القومي. وفي المقابل ارتفع عدد الذين يتقاضون أقل من أربع وعشرين ألف دولار سنوياً ليبلغ ما نسبته نحو 51 في المئة من السكان العاملين وازدادت البطالة وارتفع التضخم.
وفي ظلّ وضع اقتصادي مماثل، كان طبيعياً أن تسترجع العنصرية أوج صعودها وأن يتهم البيض السود بالتسبب في الأزمة الاقتصادية والعكس صحيح. ولم ينفع انتخاب أوباما وهو أول رئيس أسود للولايات المتحدة، كحلّ لتهدئة الصراعات العرقية ذات الأبعاد الطبقية، لكن المرّ لا يقتصر على ذوي البشرة السوداء فهناك 25 في المئة من الأميركيين من أصول أميركية لاتينية المكسيك، كولومبيا، نيكاراغوا، هندوراس، باراغواي يعملون في مهن وضيعة وثانوية ويُعامَلون كالرقيق. هؤلاء أيضاً يتعرضون لأبشع أنواع العنصرية من ذوي الأصول الأنجلوساكسونية والإيرلندية. كما أنّ نظام الهجرة الأميركية يقسّم الأجناس البشرية إلى بيض وسود وآخرين «Others»، فالبيض هم الأوروبيون والمتحدرون منهم في أميركا وأوستراليا. أما الآخرون فهم ذوو الشعر الأسود والبشرة الحنطية. ويُصنَّف سكان الشرق الأوسط ضمن فئة الآخرين، بينما يعاني أبناء العرق الأصفر المتحدرون بغالبيتهم من الصين، في «الغيتوات» المنعزلات التي يسكنونها، من عنصرية قاسية تصل إلى حدود رفضهم خارج مناطقهم وهم غير مقبولين للاندماج بسبب اختلاف أشكالهم وسحنهم عن البيض.
أما من تبقى من الأميركيين فهم مهاجرون من أوروبا الشرقية وروسيا وأوروبا الغربية غير الأنجلوساكسونية والعرب، لكنّ من يحسب لهم حساب هم اليهود بسبب مكانتهم الاقتصادية والإعلامية. ولا ننسى سكان البلاد الأصليين أي من سمّاهم البيض جهلاً بـ«الهنود الحمر»، فهؤلاء تعرضوا لحملات إبادة تاريخية أبقت على قسم قليل منهم في تجمعات غير إنسانية للمحافظة فقط على النوع. أهذه هي أميركا التي تقدم نفسها راعية للديمقراطية والحضارة في العالم؟ هل سمع أحدٌ باسم هندي أحمر احتل موقعاً مميزاً في التاريخ السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية؟ بالطبع لا.
لذلك فإنّ الاعتداءات القاتلة ضدّ السود وكلّ من لا يتحدّر من الفئات الأنجلوساكسونية والإيرلندية معرضة للتزايد، تخفت في زمن الرخاء وتعاود الظهور في مرحلة التراجع الاقتصادي.
فهل بدأ عصر «الإمبراطورية القدرية» كما كان يسميها ماهان وترومان بالأفول؟
إنّ التظاهرات التي تشمل المدن الأميركية الكبرى في نيويورك وبوسطن وواشنطن وتتسع على المستويين البشري والجغرافي، هي تعبير عن اتساع الفجوات الاقتصادية في المجتمع الأميركي، ورفضٌ لتحكم قلة بيضاء بكلّ الثروات الأميركية والعالمية، وإصرارٌ على تفجير ثقافة العنصرية التي تستوطن العقل الباطن للأميركي بقوة ما تروجه الأفلام والبرامج ووسائل الإعلام، تلك الوسائل التي لا تتوقف عن تعميم صور كريهة نمطية للأسود والأبيض والعربي والروسي ولمختلف النماذج الإنسانية.
ويزعمون أخيراً أنّ الله أراد أميركا قوة قدرية، في حين أنّ الكلّ يعرف أنها شيطان القوى الاقتصادية الكبرى الذي يتسربل بلبوس قدري ليحمي أعظم قوة اقتصادية اجتمعت في يد فئة واحدة في التاريخ بواسطة القهر والقتل والذبح وشياطين المحافظين الجدد والصهيونية.