السيناتور الطلياني يردّ زيارة فخر الدين الثاني
جورج كرم
هكذا فجأة، من دون سابق إنذار، اعتقل برلمانيّ في بيروت هذا الأسبوع. هل تحوّل لبنان، أو «كرنفال الطوائف» المسمّى وطناً، إلى بلد يعتقل فيه البرلمانيّ السيئ السمعة؟ هذه ليست كذبة أول نيسان، والبرلماني اعتقل حقاً، لكنه ليس برلمانياً لبنانياً محسوباً على طائفة ما ليخرج لأجله المتظاهرون إلى الشوارع مطالبين بإطلاق سراحه، بل إن المعتقل عضو في مجلس الشيوخ الإيطالي ملاحق من الإنتربول بتهم التواصل بين مافيا جزيرة صقلية الإيطالية والزعيم الإيطالي «المخردق» بالفضائح والمحاكمات والمطرود من مجلس الشيوخ الإيطالي بسبب إدانته بالاحتيال الضريبي، الحوت المالي سيلفيو برلوسكوني، والسيناتور الإيطالي المعتقل المدعو مرتشيلو دِل أوتري، أعاد لقب «سويسرا الشرق» إلى لبنان في بعض العقول «المخربة» في بلادنا، ولو لهنيهة في يوم واحد على أشرطة أخبار الوكالات الصحافية العالمية، بمجرد أن رجلاً أوروبياً أبيض آثر الهرب إلى لبنان واختار وجهته، مفضلاً لبنان على أي بلد آخر في العالم. وقصة اللبنايين و«الطليان» تطول تاريخياً، وهرب السيناتور إلى بلادنا ليس إلاّ خطوة في سياق هذا «التعاون» التاريخي الذي بدأ بهرب الأمير فخر الدين الثاني إلى توسكانة في إيطاليا بسبب حملة حافظ باشا العثماني عليه. وها هو السيناتور دِلْ أوتلي «يردّ لنا الزيارة»، وقد تكون إيطاليا من أكثر البلاد الأوروبية فساداً بدءاً بفضائح رشوة نوادي كرة القدم التي تتصدر الإعلام سنوياً، إلى فضائح الفساد في الإدارة والمافيا وغيرها، ما يشكل ملجأ معنوياً دافئاً «مكنكناً» لبعض اللبنانيين الذين يبررون فساد بلادهم وسوء حالها بقربهم من الشعب الإيطالي في الخصائص. وقد يعزو بعض اللبنانيين تشابه خصائص «الشعبين» إلى الدم المتوسطي الحامي الذي يجمع بين قاطني البلدين. ولو دققنا في الأمر قليلاً لوجدنا أن لا شيء يجمع بين البلدين حتى لو أخذنا الفساد والرشوة في الاعتبار. وفيما يحاكم الزعيم الفاسد في إيطاليا، مهما تمادى في غيّه وفساده، نرى الزعيم الفاسد في لبنان يعظم شأناً مع الوقت، وإن عاكسته الظروف وانتهى به الأمر في السجن لظروف سياسية آنيّة معقدة نراه يخرج من السجن بقرار برلماني وبصفاقة تامة، رافضاً المصالحة حتى ضمن زعماء طائفته الضيقة، ثم لا يلبث أن يترشّح لرئاسة الجمهورية ويحصي النواب ممن يعتقد أنهم من مؤيديه في حملته الانتخابية الرئاسية في مؤتمر صحافي، ويعلن على الملأ أنه لا ينقصه سوى ستة أصوات «ليلبص» على مقدرات البلاد لست سنوات يحلّق خلالها في طائرة الرئاسة زائراً دول العالم معزّزاً مكرماً للتعويض عن عقد أمضاه في السجن قرأ فيه مئات الكتب ولم يتعلم منها شيئاً.
لا شيء يجمع بين لبنان وإيطاليا حتى صيد العصافير الصغيرة جداً المسماة بعصفور التين أو «العابور» الذي قد ينفرد به الطليان واللبنانيون وغيرهم من شعوب المتوسط، وينظر إليه عالم الرفق بالحيوان باستغراب ويصنّفه نوعاً من الوحشية، ليس ميزة جامعة بين البلدين، لأن الإيطاليين يصنعون سلاح صيدهم وهو على أنواعه من أفخر سلاح الصيد المصنّع في العالم، أما نحن فنبتاع ما نحتاج إليه من سلاح صيد من التركي ولو نتعلم بعد أنّ من واجبنا مقاطعته، ولو اتفقنا مع الطليان في صيد العصافير الصغيرة نرى اختلافاً شاسعاً في «صيد» الحيتان المالية السياسية وبينما «الحيتان» هؤلاء يؤول بهم الأمر في «شباك» قضبان السجن في إيطاليا إلى ما سوف يحلّ ببرلوسكوني مثلاً، نرى «الحيتان» المالية السياسية اللبنانية تسرح وتمرح وتأكل في طريقها الأخضر واليابس، وبذلك تزداد «وزناً» وهي بعدة قياسات، قابلة للتضخم أو الاضمحلال، فهناك «الحيتان» على مستوى القرية، وصرح أحدهم في انتخابات بلدية سابقة بأنه سيفوز برئاسة البلدية، حتى لو صرف نصف مليون دولار لهذا الغرض، وهكذا كان. أما في الانتخابات التي تلت فانخفض عدد أصواته مع ازدياد ضائقته المالية، وصغر أقراص الكبة وصحون الحمص في سهرات حملته الانتخابية، وتحوّل الويسكي فيها من الأسود إلى الأبيض. ورئيس البلدية هذا يصنّف ضمن ظاهرة «الحوت القروي» الذي اضمحل مع مرور الأيام وأصبح سمكة «لقز رملي». وهناك سياسيون من الذين طمحوا إلى مركز الحوت المالي ووصلوا إليه من خلال جيوب الذين أحسنوا إليهم بداية، وأحدهم بدأ مسيرته محسناً كريماً في مدينة صيدا، ثم بيروت، يغدق المنح الدراسية على الطلاب، والأدوية على المرضى، وغيرها. وما لبث أن ابتلع البلد وتحوّل إلى حوت أزرق جدير بدخول موسوعة غينيس لضخامته وغياب تطبيق القانون في بلادنا. سهل تكاثر هؤلاء الحيتان بشكل مطرد وأضحى النهج المتبع من قبلهم للوصول إلى غاياتهم السياسية المشبوهة أقرب إلى العلم الدقيق منه إلى السياسة الاعتباطية، ومنهم حوت نشرة أخبار محطة «الجديد» وهو حوت قديم تخصص له المحطة فقرة لأعماله الخيرية بغية زيادة نفوذه السياسي وفقرة «إنجازاته» ضرورية، فقط لمن يريد زيارة بيت الخلاء خلال النشرة من دون أن يفوته شيء ذو فائدة.
أما حيتان مدينة طرابلس وتنافسها على حماية أو «اقتناء» مجموعات من رؤساء المحاور والخراب التي عاثته في المدينة خلال أكثر من عشرين جولة من التحارب بسبب أجنداتها الفردية الأنانية، فهي ما زالت تزهو قبالة شاطئ المدينة من دون حسيب للأرواح التي أزهقتها من أبناء مدينتها والدماء التي سفكتها. ويبدو أن بحر الحيتان في بلادنا ما انفك يتسع للمزيد منهم ونرى أحدهم في منطقة متنية يتحكم في مقدراتها وأراضيها التي اشترى معظم ما عرض منها للبيع، ويطل علينا بأناقة وابتسامة لا مجال لمعرفة نياته من خلالها، لكن من غير الصعب قراءة المكتوب من عنوان. ويرافق هؤلاء «الحيتان» كتبة محللون وخيالة الـ«توك شو» أو البرامج الحوارية، بعض من امتطى صهوة المقاومة والممانعة بغية الشهرة ودخول قلوب جمهور المقاومة من خلال بهلوانيات إفراغ كوب الماء على رأس المحاور الآخر في فورة غضب، وضرب الكف على الشاشة، ليعودوا وينمّقوا صبغة شعرهم وتموضعهم على الكرسي وفي السياسة، وينادون بسعد لرئاسة الوزراء لأن «لا سلطة لمجلس وزراء لا يرأسه سعد» فاحذروا أولئك المنافقين واحذروا مشغّليهم من «الحيتان»، حلّلوا لأنفسكم وتسلحوا بالفكر اللاطائفي، وتفحصوا المواقف واقرأوا بين السطور!
قد يكون العامل المشترك الوحيد بين لبنان وإيطاليا العامل الطائفي، فالطائفة المارونية في لبنان تتشارك مع دولة الفاتيكان في الديانة وتكثر الرحلات الثقافية ذات الطابع الديني بين بيروت وروما، في المدن كما في القرى، لهذا السبب. وذهب أعضاء الفرقة الكنسية الموسيقية في قرية قريبة في رحلة إلى روما لزيارة معالمها الدينية خلال الحرب اللبنانية مروراً بقبرص مع تمضية ليلة في لارنكا لعب فيها الخمر في الرؤوس في مقهى من مقاهي المدينة، ما أدى إلى احتكاك وعراك بين فرقتنا الموسيقية الكريمة ورواد البار القبرصي واعتقال معظم أعضاء الفرقة وترحيلهم إلى بيروت في اليوم التالي، من دون إتمام الرحلة. فقد نتشارك في بعض الأمور مع دولة أخرى، لكنّ مفهومي الأمة والنظام ما زالا بعيدي المنال عنا. أما إيطاليا، فرغم فسادها، فهي أمة، ولبنان ليس كذلك.
كاتب سوري من جبل لبنان موقعه على الإنترنت www.gkaram.com