محنة الفيديرالية… والعولمة
نظام مارديني
ما زال الحدث القومي في المنطقة مليئاً بالولادات الجديدة للحوادث، وهذه الولادات لا تعني حراكاً إيجابياً أو منتجاً، بل هي على العكس من ذلك شاهد على ارتباك واضح يتبيّن من خلاله حجم الولادات السياسية المشوّهة، لذا بات صعباً إيجاد وصفة ناجعة تُخرج المشهد السياسي في المنطقة من مأزقه بعدما تناثرت جهود قواها السياسية على مساحة واسعة الاهتمامات التي لا تمتّ إلى العمل الوطني الناضج بأي صلة.
في هذا السياق، يتّسع يوماً فآخر مأزق الهويات لدى الجماعات الأقليات ، لا سيما بعدما دخل العامل القبلي والمذهبي والطائفي والعرقي بيتها ليعتاش على تفتيتها، وقد طرحت هذه المحنة أسئلة عديدة، بل طرحت مفاصل إشكالية معقدة أهمّها: ماذا ستكون حال الهوية القومية في عصر «الهويات الصغرى»؟ وما دور المثقف في إعادة صوغ الهوية القومية بعيداً عن إشكالية تشكيلها الملتبسة؟ وهل سقطت الهوية الوطنية في امتحان المحن الفيدرالية والعولمّية؟
صحيح أنّ «الهوية ليست معطى ثابتاً لا يتغيّر حتى لو بقيت ثوابتها القديمة قائمة، إنما هي جزء من البنية الكلية للمجتمع تتأثر بما يتأثر به المجتمع سلباً وإيجاباً»، بحسب تعبير الكاتب ياسين نصير «الأخبار» ـ 16/12/2013 إلا أنّ الإجابة عن تلك التساؤلات ليست بهذه البساطة، رغم أن لا دولة معصومة من هذه الأسئلة، في ضوء واقع المنطقة المصابة بعاهة الإثارة الدائمة، بل والمكشوفة على صناعة الأزمات، ما يجعلها أكثر تعرّضاً للإصابة بالأمراض القديمة التي غادرها العالم المتمدّن منذ عقود، فالصراعات الطائفية والعرقية تعكس مرضاً اجتماعياً لم تستطع الأقليات في بلادنا مواجهة تداعياته السياسية والنفسية والاندماج في نظام اجتماعي صونيّ يقوم على أساس انخراط هذه الجماعات في مشروع قومي متكامل، فبدلاً من ذلك تبنّت الأقليات الجماعات مشروع الفدرلة الفيديرالية العرقية والمذهبية وبدأت في تنفيذه في العراق وجعله نموذجاً ينسحب على سورية الطبيعية بكاملها.
تطبق الفيديرالية عندما تريد توحيد المقسّم وليس لتقسيم الموحّد أبسط مثال الإمارات العربية التي كانت مجموعة إمارات تمّ توحيدها تحت نظام فيديرالي ، ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق أو المذهب، كما تتجه إليه الجماعات العراقية التي أصبحت كلّ جماعة منها تعيش عزلتها الخاصة.
تعزّز العزلة الانكفاء في حدود هوية ضيّقة، والعكس صحيح أيضاً. فالعزلة والشعور بالتهديد والارتياب من الآخر يخلقان في النهاية سوء فهم عميقاً بين مكوّنات المجتمع، وتهيّئ من ثمّ الأرضية النفسية والمادية للعنف والدم.
بعضهم يمارس الانسياق إلى هذا الوهم الفيديرالي والتفكير فيه بكونه وسيلة وهدفاً لإنقاذ الطائفة والعرق، في مقابل تغييب أيّ صورة حقيقية لشرعنة الأطر البنائية والحقوقية لمفهوم الدولة القومية، لذا سقطت الفيديرالية على وطننا كمقدمة للتقسيم ولنشوء دويلات مذهبية وعرقية تعيد إنتاج الصراعات، لكن هذه المرة في شكلها الأعنف. تنامى الصراع «الجماعاتي»، وفقدت الدولة هويتها الوطنية ودخل نسيجها في سلسلة من المواجهات. ما يحصل في العراق راهناً من طرح للإقليم الشيعي في الجنوب ومشروع «الادارة الذاتية لسنجار» اليزيدي في الشمال، ليس إلا عاملاً من عوامل صراع الهوية الذي يساهم في تعطيل صناعة الدولة، وفي تغذية المشاعر النكوصية والسلبية لدى الجماعات التي أصبح حديث الفيديراليات طابعاً قهرياً لديها في ظلّ غياب البيئات السياسية والثقافية والاقتصادية التي تعمل في المجتمع كدورة حياة واحدة.
لكن أين تتقاطع فكرة الفيديرالية مع طروحات عولمة الهوية؟
تأتي أسئلة الهوية من كون أن مرتكزات إيديولوجية العولمة تقوم على مبدأ شلّ الدولة القومية وتفتيت العالم لتتمكن الشبكات الرأسمالية الجديدة والشركات متعددة الجنسية العملاقة من الهيمنة على العالم، وتوظيف الإعلام ووسائل الاتصال التكنولوجية الحديثة في عملية الاختراق الثقافي واستعمار العقول، من خلال الانضواء في مجموعات إثنية أو طوائفية أو مجموعات لغوية أو تاريخية، وأن تحلّ العوامل الإثنية واللغوية مكان وحدة الحياة في المجتمع، كعناصر أساسية في هويات الشعوب والدول في مختلف أنحاء العالم.
طرحت الاندفاعات الهائلة التي طبعت العولمة في العقود الثلاثة الأخيرة التباسات مفاهيم ضمن ثقافة الناس لا معطى لها إلا الخوف من اليوم التالي وما يليه، وحالة من الإرباك والتشويش متأتية من التناقضات في حالة العولمة نفسها بين الوعد الإنساني الذي تحمله وشكل تمظهرها، على الأقل في الوضع الراهن.
هكذا بدت العولمة استلابية قاتلة للحضارات، وثقافات الشعوب، إذ تعمل على إلغائها لتحلّ مكانها ثقافات أخرى أقوى، ولتتجاوز تراث الشعوب وحضاراته. في هذا المعنى جاءت العولمة لتطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتُجْهز عليها ثم تتغذّى بها، وفي دائرة هذه المطاردة تعاند الهوية الوطنية والقومية أسباب الذوبان والفناء وتحتدّ في طلب الأمن والأمان، وتتشبث بالوجود والديمومة والاستمرار.
غير جائزة الدهشة من كثرة الأسئلة والمساءلات حول جوانب مختلفة من كل ما يتصل بواقع العولمة وإيديولوجيتها وحقيقة أهدافها. من المنطقي اعتبار سؤال «الهويات» أحد أهمّ ما يبرز منها، فالعولمة وثقافتها لم تقدّم أي جواب عن الهويات الكيانية سوى ما تشتمل عليه أطروحات فرنسيس فوكوياما منظّر العولمة ووالدها الروحي وتجلياتها في مدلولات «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وتعريفه الكيانات والوطنيات والقوميات والأعراق والإثنيات وإمكان انطباقها على «إنسان الوعد التاريخي» أو «مواطن المجتمع الليبرالي» في «العالم الواحد» الذي كنا سنذهب إليه بأرجلنا وبإرادتنا الانصياعية، باعتباره قدراً لا رادّ له.
ها أمين معلوف يوضح في كتابه «الهويّات القاتلة» قائلاً: «إن كل فرد منا مؤتمن على إرثين، الأول عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعوبه وطائفته الدينية. والثاني أفقي يأتيه من عصره ومعاصريه». فهل هو يطالبنا بأن نتعولم من خلال حملنا هويات متعددة والابتعاد من «حصر مفهوم الهوية في ما توارثناه من أسلافنا من أمثال وعادات وأفكار؟»، كي تصبح عرفاً؟!