الانفصال عن الواقع… عالم من دون الأسد ليس كالعالم مع الأسد
نارام سرجون
يعجبني في السياسيين الانكليز قدرتهم الهائلة على «الانفصال عن الواقع» والتقلب في الأدوار والمواقف… وأداؤهم المسرحي المتقن… وتعبير «الانفصال عن الواقع» بالذات كثيراً ما يستخدمونه في مصطلحاتهم السياسية ضدّ خصومهم… ولكنهم خصّصوا الرئيس الأسد تحديداً بهذا التوصيف عندما كان يقول في خطاباته إبان الأيام الأولى للعدوان الإرهابي على سورية بأنّ سورية كدولة وطنية مصرّة على مواجهة الإرهاب والمؤامرة…
واليوم وبعد غياب طويل وعناد أجوف تعود «بي بي سي» لتتحدث مع الرجل الذي «فصلته عن الواقع» في أحاديث سياسييها وشروحهم المطوّلة عن الثورة السورية وربيع سورية ونبوءات وتحليلات موظفي «بي بي سي»… وقرّرت سابقاً أنه مصاب بالداء الذي لا برء منه… أي «الانفصال عن الواقع»…
اسئلة «بي بي سي» رغم أنها محاولة لتثبيت التزوير بجعل المشاهد يتذكر الأسئلة ومعلوماتها لا الأجوبة المتقنة وثراءها بالأدلة العقلية، إلا أنها إقرار من «بي بي سي» بأنّ إصرارها على إغفال حقيقة انتصار الأسد في الحرب هو بعينه الانفصال عن الواقع، وبأنّ الرئيس الأسد موجود رغماً عن الصفاقة والغرور الأوروبي والأميركي وأوامر التنحّي الوقحة… واكتشفت «بي بي سي» أن لا طائل من العناد في الاستمرار في تصنّع تجاهل وجوده كزعيم مشرقي متألق أو تصوير العالم على أنه صار عالماً بلا الأسد… لأنّ الـ»بي بي سي» وأخواتها أصرّت طوال أربع سنوات على تجاهل وجود الأسد في الساحة الدولية، وكأنه شخصية من الماضي الذي لا يعود… وتعمّدت صناعة الحديث والتقارير عن سورية دون الإشارة الى ما يقول ودون حتى محاولة الاستماع اليه وسماع القصة السورية من فم الأسد… ووصل إنكار الواقع في الخطاب الغربي حداً مثيراً للسخرية… إلى أن طال انتظار الـ»بي بي سي»… فقرّرت العودة الى المستقبل في الشرق الأوسط من بوابة الرئيس الأسد… الذي عاد من الماضي وانفصل عن الانفصال عن الواقع…
وبالطبع فإنّ بعض الأسئلة وورود كلام شهود مجهولين أعادت ذاكرتنا مبتسمة الى مسرحيات الشهود العيان الشهيرة التي فازت قناة «الجزيرة» باختراعها… الشهود الذين دوماً يقولون كلاماً مفبركاً ومقبوض الثمن، مثل داني عبد الرحمن وجهاد ابو صلاح وأبطال سينمائيات «سي أن أن» قرب حرائق حمص المفتعلة… وكذلك كان جميع الشهود عيان المذيع البريطاني من نفس الشاكلة على ما يبدو ومن تلك الفصيلة من المستعربين الاسرائيليين الثوار الذين تمّ تدريبهم وتلقينهم ما يقولون بالملعقة..
ولا يبدو مرض الانفصال عن الواقع في ذروة الشيزوفرينيا الا عند السؤال عن السلاح الذي لا يميّز بين المدنيين وضرورة البحث عن سلاح لا يقتل المدنيين في الصراع… وهنا بالطبع لا يوجد عاقل في العالم يقول بأنّ قتل المدنيين مبرّر وهو هدف أساسي في المعارك إلا أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني وزهران علوش … ولكن الجنون بعينه أن تطلب من القنابل في الحرب أن تختار بعناية اين تنفجر لأنّ المسلح يختار بعناية أن يكون بين المدنيين وفي مطابخهم وأسرّتهم… ومن السذاجة ان تطلب من الشظايا أن تدقق في هوية من يقف في طريقها وعمره… وان كان يحمل سلاحاً مذخراً أم بلاستيكيا ودمية…
وهنا سنجد أنّ السيد جيريمي متأثر جداً بسلاح عدنان العرعور النوعي الذكي الذي لا يقتل الا العسكريين والذي استخدمه «الناتو» الرحيم الرؤوف في ليبيا… فمما قاله شيخ الثورة السورية العرعور بعد سقوط ليبيا أنّ «الناتو» استخدم صواريخ ذكية تتجنّب المدنيين ولا تصيب ولا تؤذي الا العسكريين والأهداف العسكرية… دون أن يفسّر لنا العرعور سقوط عشرات آلاف الشهداء من المدنيين الليبيين… شاهد الرابط للتذكير المرير بالصفاقة والفجور والنفاق وبالذات في الدقيقة 2
https://www.youtube.com/watch?v=-HZyM366tTg spfreload=10
ولا ندري إن كان يجب إحالة السيد جيريمي الى ما قاله قائد عمليات الجيش البريطاني في جنوب العراق عام 2003 عندما استهدفت الطائرات البريطانية منازل مدنية في البصرة بحجة ورود تقارير بوجود علي حسن المجيد في أحدها… فأبيدت عائلات عراقية بأكملها وانقرضت سلالاتها وانقطع نسلها ولكن علي حسن المجيد كان بعيداً فقط 30 كيلو مترا عن مواقع القصف… وعندما سألته المذيعة البريطانية إنْ كان ذلك مبرّراً قال ودون أن يرفّ له جفن بشري: اننا نقصف البيوت اذا توفر لنا تقريبا 75 احتمال وجود الهدف المطلوب فيها… لأنّ الفرصة قد لا تتكرّر بغض النظر عن الخسائر الجانبية المحتملة…
وعندما كان توني بلير يدافع عن حملته العسكرية في العراق الى جانب جورج بوش كان يبرّر سقوط أبرياء مدنيين بأنها خسائر جانبية لا يمكن تفاديها إطلاقاً في الحروب… فإذا بالخسائر الجانبية في العام الأول للغزو مليون ونصف مليون شهيد مدني عراقي… وجميعهم على ما يبدو سقطوا بحسابات النسبة المئوية لقادة من نوع قائد عمليات الجنوب العراقي… وأخشى أن يكون المذيع البريطاني يريد أن يبيعنا هذه الأسلحة الدقيقة مع نظريات توني بلير ونسبها المئوية… لأنّ عاماً إضافياً من الحرب قد يعني سقوط بضعة ملايين من السوريين بدلاً من عشرات الآلاف الذين سقطوا خلال اربع سنوات…
ولكن خبث السؤال البريطاني كان في محاولة لاستدراج الأسد وإغوائه للاعتذار المبطن وإبداء النية في توجيه تعليمات أكثر صرامة للجيش بمنع استخدام أسلحة بعينها للتقليل من خسائر المدنيين بحجة أنه الطريق الوحيد للعودة الى المجتمع الدولي كزعيم مقبول… ومن ثمّ يتمّ انتزاع الاعتراف الضمني بأنه سيتوقف بذلك عن قتل المدنيين الذين «كان يقتلهم» كما أرادت «بي بي سي» أن تقول… وفوق أنّ هذا الكلام إدانة ذاتية فإنّ الهدف الثاني من انتزاع الاعتراف يكمن في تقديم تبرير لاحق لعمليات قصف المدنيين في المدن السورية من قبل المسلحين لأنّ هؤلاء سيقولون بأنّ إصابة المدنيين مبرّرة ولا منجاة منها… وقد اعترف الأسد بأنه مسؤول عنها وإنْ لم يقصدها جميعاً… ولذلك العين بالعين والسن بالسن… والمدينة بالمدينة…
الا أنّ ذروة الانفصال البريطاني عن الواقع تمثلت في آخر أسئلة جيريمي بوين للرئيس الأسد… جيريمي توّج أسئلته بسؤال يقول:
ما الذي يؤرقكم ليلاً؟ هل فكرتم بأولئك القتلى… وشعرتم أو فهمتم الألم الذي تشعر به أسرهم وآلام الأشخاص الذين قتلوا أو جرحوا؟
عندما سمعت السؤال ضحكت وأجزم أنّ كثيرين ضحكوا مثلي على استفحال الانفصال عن الواقع عند «بي بي سي» وموظفيها، حتى في لحظة الصراحة ومع الذات ومحاولة الاقتراب من الواقع والعودة التائبة… فأنا أزعم أنني حضرت معظم مقابلات رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مع الإعلام، وجميع مقابلات جورج بوش، ولكن لم يتقدم مذيع واحد ليسأل أياً منهما إنْ كان هناك ما يؤرقه ليلاً… أو إنْ كان ينام دون أن يمرّ أمام عينيه المغمضتين شريط صور فيه تصاوير مليون ونصف مليون عراقي كانوا بين ذويهم أحياء يوماً ولهم مواعيد مع الأيام والمستقبل… وتمرّ أمام عينيه تصاوير أربعة ملايين أرملة عراقية… وستة ملايين يتيم ومشرّد…؟ شريط لم ينته حتى اللحظة لأنّ الموت لم يتوقف منذ أن قرّر بلير وبوش تحرير العراق من «الحياة»… ولو قرّر أحدهما السهر حتى ينتهي شريط الموت والدم لكان عليهما أن يقطعا جفنيهما كي لا يناما الى الأبد… حتى مع نهاية العمر ودخول القبر لتبقى أعينهما ترمقان المآسي العراقية وتتعذب بأفظع المشاهد ولا تقدر أن تغمض لتتجنّب رؤية الأهوال…
ولم يجرؤ صحافي بريطاني على توجيه هذا السؤال الى توني بلير وهو في موقعه كرئيس للوزراء، وترك هذا السؤال نائماً عشر سنين عندما تمّ تمريره اليه عبر كاتب حرّ بريطاني قابله وجهاً لوجه… وكان الكاتب يحاكمه فيما بلير يشرب الماء من الكأس عدة مرات وقد جف ّحلقه وهو يدور ويناور…
لو كان مذيع «بي بي سي» يريد فعلاً أن يبحث عن الزعماء الذين لا ينامون فعليه تحدّي سياسة حكومته وسياسة «بي بي سي» ليوجه السؤال اليوم الى ديفيد كاميرون الذي قتل 150 ألف ليبي في أسابيع بطائراته القاذفة مع ساركوزي… وعين كاميرون نفسها أغمضت ونامت وسكن جفنها على هدير دم المجازر التي كانت تقوم بها علناً مجموعات المسلحين وتبثها بالفيديو للمباهاة وإلقاء الذعر بين المدنيين فيسمّيها كاميرون ثوار معتدلون منفعلون … ولكن الانفصال عن الواقع هو أول شروط العمل في السياسة الغربية وفي المؤسسات الإعلامية الغربية… ومن لا ينفصل عن الواقع… سيفصل من عمله كما حدث مع مراسل «سي أن أن» في العراق في حرب «عاصفة الصحراء» الذي قال بأنّ الأهداف العسكرية في العراق التي تباهت الإدارة الأميركية انها كانت مصانع للأسلحة الكيماوية هي في الحقيقة مصانع لحليب الأطفال رأيتها ووقفت على أنقاضها… فكان أن وقفت «سي ان ان» على أنقاض ذلك المذيع في اليوم التالي…
المهم أنّ المقابلة الأخيرة للرئيس الأسد على «بي بي سي»، رغم أنها مليئة بالشباك والفخاخ والمصائد والمكائد البريطانية، الا أنها لا تستطيع أن تنكر أنّ «بي بي سي» ركعت على أبواب قاسيون واضطرت بعد عناد وصلف أن تأتي على ركبتيها تسأل عن الحكاية الواقعية التي لم ترد أن تستمع اليها ووضعت أصابعها في أذنيها أربع سنوات كاملة…
الكلمة التي يمكن اعتبارها أول رسالة إلى الرأي العام الغربي، والى المعارضين السوريين، هي التي تضمّنها سؤال النجاة من السقوط… لأنها أول عملية نفسية للرأي العام الغربي الذي قيل له مراراً طوال اربع سنوات بأنّ العالم صار «عالماً من دون الأسد»… فسمع اليوم سؤالاً انكليزياً يعني في ما يعنيه أنّ العالم منذ اليوم لن يكون الا مع الأسد الذي «نجا» من المؤامرة… وعلى المعارضة الذكية أن تلتقط الرسالة الانكليزية… انها واضحة جداً: لا عالم من دون الأسد منذ اليوم…
والحقيقة أنّ عالما بلا أسد ليس جديراً الا أن يكون عالماً للبهائم والثعالب والذئاب والأبقار والكلاب… والنعاج…
العالم من غير الأسد هو عالم من غير سورية الموحدة الواحدة… قلب هذا الشرق…
وبالطبع فإن العالم مع الأسد هو غير العالم من غير الأسد… ونحن بكلّ فخر الذين صنعنا هذه المعادلة الرائعة… الشعب السوري والجيش السوري هما اللذان قرّرا هذه المعادلة المقدسة الوطنية وفرضاها على العالم بقوة الشهداء والتضحيات، لأنّ الأسد كان خياراً وطنياً ورمزاً وطنياً… والجيش والشعب هما من يقرّران ماذا يحفظان لهذا العالم وماذا يعطيان لهذا العالم… ويقرّران اسم الرئيس ولون عيونه ولون قلبه…
وقد قرّرنا أن يكون العالم عالماً مع الأسد وسورية التي نعرفها ونحبّها ونموت من أجلها… شاء من شاء… وأبى من أبى… وليبلط العالم سطح الشمس إنْ لم يعجبه قرارنا… أو دروب المجرّة…