مؤتمرات «بيبليّة» مشبوهة… ومستنكرة
جورج كعدي
حتّى لو لم أكن «لاهوتيّاً» متخصّصاً، يحقّ لي مثل كثر يشاركونني الموقف ونظرة الريبة، التساؤل عن سرّ تشبّث الكنيسة، الغربيّة بخاصة ومركزها روما، والشرقيّة التابعة لها وأخصّ بالذكر الكنيسة المارونيّة المبالغة في تبعيّتها للفاتيكان ودوائر الكرسيّ الرسوليّ، على حساب خاصّيتها المشرقيّة… تشبّثها إذن بالعهد القديم التوراتيّ اليهوديّ ومضامينه المناقضة تماماً لروح المسيحيّة وتعاليمها ومبادئها وقيمها القائمة على الرحمة والغفران والمحبّة والتعاطف والتسامح والتشارك… إلى ما هنالك من قيم سامية ومسالمة هي على النقيض تماماً من تعاليم «إله» العهد القديم وأنبيائه معتنقي شريعة العين بالعين والسنّ بالسنّ، والداعين إلى البطش وسحق «الأعداء» وإبادتهم، والمؤمنين بـ«شعب مختار» لله دون سائر الشعوب!
أملى عليّ هذا السؤال انعقاد ما سمّي بـ«المؤتمر البيبليّ الرابع عشر» في جامعة سيّدة اللويزة، زوق مصبح في جبل لبنان، مطلع شباط الجاري، متّخذاً شعار «أطلق شعبي ليعبدني» وعنوان «سفر الخروج» كلا الشعار والعنوان، لننتبه، خاص بالشعب اليهوديّ! ، ونظّمته الجهة المدعوّة «الرابطة الكتابيّة في إقليم الشرق الأوسط»! وشاركت فيه «وفود» من العراق وسورية والأراضي المقدسة هكذا، وليس المحتلّة في عُرف المؤتمرين وأكاد أقول المتآمرين على المسيحيّة لمصلحة شعب التوراة ومصر وفرنسا وبلجيكا وروما، بحسب الخبر الذي أوردته الوكالة الوطنيّة! والأهمّ أنّ هذا المؤتمر «التوراتيّ» تلطيفاً للتلموديّ ترأسه البطريرك الراعي، وممّا قال حرفيّاً ويا لشدّة الغرابة في كلمته: «باختياركم «سفر الخروج» موضوعاً لهذا المؤتمر، إنّما تذكّرون بمفهومه اللاهوتيّ وبموقعه الخاصّ في تاريخ الخلاص، من خلال الحدث التاريخيّ القديم، حدث الخروج من مصر. فهو لا يقف عنده بل يتعدّاه ليكون حقيقة حيّة دائمة في حياة الكنيسة ورسالتها، هي المدعوّة «لتخرج»، وباستمرار، من ذاتها نحو العالم، و«لتعبر» نحو الآخرين المختلفين عنها في دينهم وثقافتهم وحضارتهم، حاملة خميرة الإنجيل من أجل زمن جديد، وعهد جديد، وثقافة جديدة، وعالم أفضل … ».
تستمرّ غرائب هذا المؤتمر مشبوه الغايات والأهداف بمحاضرة للأب أنطوان عوكر الأنطوني عن «سفر الخروج… رواية بدء لمسيرة الصحراء وصولاً إلى أرض الميعاد»! تكفي دلالات عنوان كهذا ومحاضرة الأخت باسمة الخوري عن «شفاعة موسى» خروج 32 ـ 34 مشيرة إلى أنّ «الفصول 32 ـ 34 تأخذ مكاناً مركزيّاً في مسيرة الشعب اليهوديّ في الصحراء بحيث يمكن اعتبارها مفتاحاً لتفسير تاريخ «إسرائيل» بكامله»! وحاضر الأب المدبّر ريمون هاشم الأنطوني عن «تاريخيّة أحداث سفر الخروج بين المدراش والفن الأدبيّ اليونانيّ في سفر الحكمة»، وممّا قال: «في الواقع، إنّ أحداث الماضي تحمل دوماً في طيّاتها رسائل آنيّة تطال أحداث اليوم كما هي الحال في عمليّة تطبيق صورة المصريّين المعاصرين للخروج على «إسرائيليّي» الإسكندريّة المعاصرين للمؤلّف … إنّ الكاتب لم يكتب تاريخاً كما التاريخ المعاصر، بل استعان بالتاريخ وتأمّل فيه بهدف واضح، ألا وهو إقناع القارئ وحضّه على طلب الحكمة الإلهيّة، التي تحكم التاريخ البشريّ، والتي لا يمكن مدحها وإبرازها إلاّ من خلال التذكير بحضورها في قلب التاريخ، أي في اللحظات التأسيسيّة للشعب المختار»!
إلخ، إلخ، إلخ، من عجائب هذا المؤتمر المشبوه وغرائبه!
أمّا أسئلتي وملاحظاتي فهي على النحو الآتي:
1 ـ هل استنفدت المسيحيّة المشرقيّة، المارونيّة بخاصة، مواضيع «العهد الجديد» للعودة المتكرّرة والمنتظمة إلى «العهد القديم» وتوراته وسفر خروجه و«شعبه المختار» و«أرض الميعاد» و«شعب إسرائيل»… مثيرةً أي تلك الجهات المنظّمة لمؤتمر كهذا شكوكاً حول الغاية والهدف والمغزى والفائدة؟ هل ينبغي عدم الفصل بين «العهدين» حتّى لو تناقضت تعاليمهما وقيمهما ودوغمائيّتهما؟!
2 ـ صحيح أنّ المسيح قال «جئت لأُكمل لا لأنقض»، بيد أنّه نطق بذلك، في تفسيري وفهمي واقتناعي وتقديري، لتهدئة غضب شعبه اليهوديّ الذي نقض المسيح دوغماه أو معتقده التوراتيّ والتلموديّ ورفض إلهه يهوه الإله القاتل الدمويّ البطّاش المرعب وعاكس قيمه وتمرّد على سائر معتقداته وطقوسه وتقاليده، كي ينشر تعاليمه وقيمه الجديدة السامية، الرؤوفة، عميقة الرأفة والحبّ والإنسانيّة، وكي يقدّم الإله الجديد أباً سمويّاً رحوماً عطوفاً مسامحاً غير محرّض أو بطّاش أو «مختار» لشعب دون شعب آخر… إذ ما كان ممكناً للمسيح أن يهدّئ من روع قومه وقسوتهم وردّ فعلهم العنيف على التعاليم الجديدة التي نشرها بين تلاميذه وأتباعه وجمهور المؤمنين به، سوى الإعلان بأنه جاء ليكمل لا لينقض، في حين أنّ النقض لا الإكمال هو الحقيقة الساطعة لدى المقارنة بين مجموعتي القيم والمبادئ والمعتقدات.
3 ـ هل الكنيسة المارونيّة المشرقيّة مضطّرة إلى ملاقاة الكنائس الأميركيّة بعض البروتستانتيّة وسواها المتصهينة التي تركّز على العهد القديم وتدعم «إسرائيل» بالاستناد إليه وترفع حتّى عَلَم الدولة الصهيونيّة المحتلّة والمجرمة داخل كنائسها؟! هل نحن مضطّرون حقاً إلى اعتناق «اللاهوت» التوراتيّ والغوص في تفسيراته وعقد مؤتمرات حوله في حين أنّنا الكنيسة الأقرب إلى مهد السيّد المسيح والأرض التاريخيّة التي ولد وبشّر فيها ومشى على ترابها؟ ألسنا الأحقّ والأولى بنشر مبادئه وقيمه وتعاليمه وعقد المؤتمرات حولها أكثر من أيّ نبيّ أو رسول آخر، موسى أو سواه، بل إظهار تفضيلنا لتعاليمه، ككنيسة مشرقيّة، على تعاليم الآخرين ومعتقداتهم؟!
4 ـ هل يُعقل أن نلمس في بعض محاضرات المؤتمر ومداخلاته أفكاراً وخلاصات تنطوي على التسليم «التاريخيّ» بحقّ بني «إسرائيل» في ما يسمّى بـ«أرض الميعاد» وربط الماضي السحيق قبل أكثر من ألفي عام بالحاضر لتبرير هذا «الحقّ» المزعوم غير المبنيّ في التاريخ الوضعيّ لا الدينيّ الخرافيّ والأسطوريّ على حقيقة تاريخيّة التوراة، في عرفنا، من صنع بشرّي، مغرض ومدمّر ومبتدع لمصلحة فئة صغيرة وشعب مخرّب وقاتل ومشاكس منذ التكوين، في غالبيّته وليس في المطلق المعمّم لأن الاستثناءات موجودة دوماً ؟
5 ـ إنّ بعض المؤسّسات الدينيّة عندنا، والأكاديميّة الجامعيّة التابعة لها، تساهم في تحقيق أهداف مؤسّسات وجهات عالميّة منتظمة في مشروع صهيونيّ يسخّر المجتمعات والمنابر كافّة لقلب القيم والمفاهيم وتسهيل اختراق الجماعات المؤمنة، فلو كانت الكنيسة المارونيّة لا تعي هذه الأهداف فتلك مصيبة، أمّا إذا كانت تعيها وتشارك فيها عن سابق معرفة وتصميم فتلك مصيبة أعظم… والله أعلم ما في النوايا والعقول والقلوب!