السعودية وتحدّي التأقلم مع التسوية المقبلة

فارس رياض الجيرودي

دارت خلال السنوات الأخيرة التي تدهورت فيها صحة الملك عبدالله بن عبد العزيز شكوك في الإعلام الغربي وبعض العربي حول مستقبل السعودية، وكان الحديث منصبّاً على صراعات أمراء الجيل الثاني التي بدأت ارهاصاتها تظهر، كنتيجة لرداءة النظام الوراثي الذي كان يحصر الملك بأبناء عبد العزيز، لكنّ أزمة السعودية الحالية ككيان، تبدو أعمق بكثير من مجرّد انتقال السلطة من ملك إلى آخر من آل سعود، ومن الصراعات بين أمراء الجيل الثاني، وهي مسألة هامة لكنها تظلّ لعبة منضبطة بالمحاذير الأميركية.

كانت المملكة أحد الكيانات الوظيفية التي ساهم الغرب في اختلاقها في المنطقة في مرحلة أفول الدولة العثمانية، وذلك من خلال الدعم الذي تلقاه مؤسّسها، لذلك اكتسبت دائماً مشروعية استمرارها من طبيعة الدور الذي تقوم به ضمن الاستراتيجيات الغربية وخدمةً لها، في حين كانت المهمّة الموكلة إلى الإمارات والمشيخات الخليجية الصغيرة هي تأمين استمرار تدفق النفط، وضمان إعادة الفوائض المالية الناتجة عن بيعه إلى مصارف وبنوك الغرب. اضطلع آل سعود إلى جانب المهمّة السابقة بمهام أخرى بسبب حجم كيانهم الأكبر، وسيطرتهم على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، بالإضافة إلى طبيعة حكمهم المستند إلى الوهابية، وهي الأيديولوجيا التي اعتمدوا عليها، بالإضافة إلى الدعم الانكليزي، في إقامة ملكهم.

فعلى المستوى الإقليمي، أخذت السعودية على عاتقها بعد انهيار الحكم الهاشمي في العراق شغل دور رأس الحربة في التصدي لجميع المشاريع والحركات التي عملت على تحدّي الهيمنة الغربية في المنطقة، بدءاً من المشروع الناصري الذي استنزفته السعودية بالشراكة مع «إسرائيل» في اليمن تمهيداً لحرب 1967 ، ثم أوكلت إليها مهمّة محاصرة إيران التي انتقل إليها مركز الثقل في مناهضة النفوذ الأميركي على المنطقة بعد كامب ديفيد ، وقادت عملية الحصار تلك من خلال الإطار الذي تمّ تشكيله بإشراف أميركي عقب الثورة الإيرانية عام 1979، أي «مجلس التعاون الخليجي»، حيث نجحت وخلفها دول المجلس في توريط العراق في حرب طويلة مع إيران لاحتوائهما، ثم استمرّت مع أعضاء المجلس في ممارسة استنزاف لاقتصادهما بعد انتهاء الحرب، وذلك عبر لعبة إغراق السوق النفطية بهدف تخفيض أسعار النفط، ما دفع العراق إلى احتلال الكويت، الأمر الذي انتهى بتدمير العراق واحتلاله وبتحريض سعودي، وانطلاقاً من الأرض السعودية.

وعلى المستوى العالمي، تكفلت السعودية بتحويل الخطة الأميركية المعروفة بـ«دالاس» والقاضية بتوظيف الإسلام لضرب الشيوعية، إلى أمر واقع، وذلك من خلال دعم «الجهاد» في أفغانستان، ثم قادت عملية واسعة لـ«وهبنة» الإسلام، مستفيدة من أموال الفورة النفطية ومن انكفاء الدور المصري بعد قرار السادات بتفكيك المشروع الناصري، فالوهابية هي وجهة نظر ورؤية للإسلام تتسم بالإغراق في البساطة والعنف، وكانت المبرّر الديني الذي استنبطته القبائل البدوية في صحراء نجد لشرعنة ممارسات السلب والقتل التي اعتاشت عليها منتصف القرن الثامن عشر، حيث اعتبر مؤسّس الفرقة الوهابية جميع المسلمين في عصره كفاراً، دماؤهم وأموالهم مباحة وينبغي إعادتهم إلى الإسلام بالسيف، لذلك نظر المسلمون ولفترة طويلة إلى الوهابية كفرقة شاذة ومارقة، قبل أن تسيطر الأموال السعودية على المشهدين الإعلامي والثقافي في العالم العربي.

نجحت عملية توظيف الوهابية سياسياً في تحريض الشعوب العربية والمسلمة على الدور الإيراني الداعم لسورية وحركات المقاومة في وجه «إسرائيل»، لكنّ الجهود السعودية الهادفة إلى محاصرة مشروع إيران عبر القضاء على حلفائها ذهبت في المحصّلة أدراج الرياح، فوصلت الحرب التي موّلتها لإسقاط النظام في سورية إلى حائط مسدود، ومع سيطرة عناصر مناهضة لأميركا على اليمن المهمة استراتيجياً بالنسبة لأمن الخليج، وتجذر المقاومة المسلحة في كلّ من لبنان وغزة واقترابها من الجولان، وخروج عمان عن النفوذ السعودي، وبدء تفلت البحرين، وانكشاف النار من تحت الرماد في المنطقة الشرقية من السعودية، وترسخ النفوذ الإيراني في العراق، وصل الغرب إلى نتيجة مفادها أنّ تأمين مصالحه على المدى البعيد لا يمكن أن يتمّ من دون التسوية مع القوى التي لطالما استخدم السعودية لمحاصرتها واستنزافها، أيّ مع محور إيران وحلفائها الذي بات يسيطر على أهم ممرّين للنفط في العالم، مضيق هرمز وباب المندب، وهي نتيجة تزداد رسوخاً في دوائر صنع القرار في الغرب يوماً بعد يوم، وقد تمّ التعبير عنها سابقاً عبر وثيقة «بيكر هاملتون»، ويعبّر عنها اليوم عبر جولات التفاوض مع إيران.

كما أنّ استخدام الوهابية أنتج جماعات قتل متمرّدة عن أي سيطرة، استفادت من قنوات العولمة التي تتيحها التكنولوجيا الحديثة للتمدّد خارج حدود ما أراد الغرب بالشراكة مع السعودية توظيفها فيه، وكانت محطات مثل اعتداءات 11 أيلول في واشنطن ونيويورك، وتفجيرات المترو في لندن ومدريد، وعملية «شارلي إيبدو» في باريس محطات فارقة، وبالنتيجة أصبح الغرب ينظر أكثر فأكثر إلى الوهابية كخطر عالمي يهدّد أمنه، وينبغي اجتثاثه عبر إجراء الإصلاح الثقافي والديني والسياسي اللازم في منابعه الأصلية، أي في السعودية.

وهكذا تجد السعودية نفسها اليوم أمام تحدّي التكيّف مع متطلبات الاستراتيجية الغربية الجديدة، وتنفيذ الإصلاح اللازم والانخراط في التسوية مع إيران وحلفائها، مع يتطلبه ذلك من خوض مواجهات داخلية ومن تحمّل أكلاف باهظة، وهنا تكمن أزمتها الحقيقية.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى