خديعة «داعش»: غواية التجنيد وخرافة الجهاد
منذر سليمان
كادت دعاية «داعش» المتقنة على النمط الهوليودي أن تخدعنا بتقبّل رواية انطلاقها كردّ انتقامي على ما تعرّض له قادتها والمقاومون العراقيون من انتهاكات صارخة في زنزانات المحتلّ الأميركي الغازي، واختارت ولا تزال استعارة المشهد البرتقالي لمعتقلي أبو غريب وبوكا وغوانتنامو عندما تسوق ضحاياها للموت البشع ذبحاً أو حرقاً في طقوس تستدعي محاكاة نزعة الانتقام التي قد تجد تبريراً لها باستحضار تجربة ما يمكن اعتباره وصمة عار على جبين أميركا والإنسانية. كانت الرواية ستجد من يصدقها أو يبرّرها لو اختطت «داعش» سبيل ملاحقة المحتل وكلّ من تواطأ معه أو سهّل غزوه، أو تبنّت خطاباً وسلوكاً يعتبر الكيان الصهيوني وهو المستفيد الحقيقي من غزو العراق وتدمير جيشه عدواً يستوجب المواجهة. ولكن ممارسات «داعش» الوحشية الصادمة ضد أبرياء ذنبهم انتماءاتهم المذهبية أو الدينية يكاد ينسينا وحشية المحتل وجرائمه.
وهكذا اقترن بروز «داعش» بالذبح والسبي للنساء وبيعهم واغتصابهم، والقتل الوحشي والتدمير والترويع والصلب والتنكيل بالجثث، وتعليق رؤوس الضحايا على الرماح، وصولاً إلى حرق الرهائن أو دفنهم أحياء. تبدو «داعش» وكأنها تحاكي ما سوّقته رواية الاستشراق الغربية تختزل «أهل الشرق» كمجموعة من المتوحشين، مصابين بغريزة جنسية منفلتة، وغالبيتهم يحتفظ بالجواري والسبايا ويمارسون جز أعناق البشر كالنعام.
المشرفون على الجماعات الإرهابية سخروها لتطبيق مبدأ «الصدمة والترويع» الأميركي، وتمكينها من الاستفراد بأضعف الفئات الاجتماعية من المدنيين، نساءً وأطفالاً وشيوخاً، والتفنن بارتكاب جرائم القتل بأبشع الوسائل أمام أعين الأهالي.
شهد المسرح السوري مع «داعش» ومشتقاتها ممارسة إضافية مبتكرة في فنون الرذيلة والفسق والفحش والفجور والدعارة، بإدخال ما أطلق عليه «جهاد النكاح»، وانتشرت في مراكز ومقار المجموعات التكفيرية المسلحة جداول تعلق على الجدران لهذا «الجهاد المزعوم»، عدا عن «الاستراحات» الخاصة للعائدين من مواقع القتال لممارسة الرذيلة مع من أُخِذْن سبايا، أو اللواتي غرّر بهن للالتحاق بهذه الجماعات المنحرفة المهووسة بإشباع غرائزها الجنسية، من دون أي وازع ديني أو أخلاقي، على رغم ادعائها أو تمسحها بالدين، وتبرر هذه الممارسات الفاحشة الداعرة بفتاوى حسب الطلب من منحرفين وموتورين ومزوّرين للدين، أو مجتزئين لبعض النصوص أو الأحاديث في تفسير تعاليمه التي تتناول العلاقات الاجتماعية أو التعامل مع المرأة، في محاولات يائسة وبائسة لإسباغ مشروعية أو غطاء ديني على هذه الممارسات المشينة.
تجدر الإشارة إلى أن موجات الإرهابيين المتعددة ضمت أعداداً كبيرة من نزلاء السجون في الدول الراعية للإرهاب في سورية، وأصحاب السوابق والسجلات الإجرامية. بل يشار إلى أن «المملكة السعودية» تخلصت من سجنائها المدانين بشتى الجرائم.
النساء غنائم حرب؟ الجنس أداة للتجنيد
قامت «داعش» بتبرير ما تقوم به بالإيحاء أن تاريخ الحروب ومنها التي شهدها التاريخ الإسلامي أباحت العنف الجنسي في أوقات الحرب حيث اعتُبرت النساء جزءاً من غنائم الحرب، وأصبح اغتصاب واستعباد النساء وسيلة معتمدة لإذلال العدو وهزيمته نفسياً.
والآن تحيي «الدولة الإسلامية» هذه الممارسة القروسطية، ولكنها تتفنن في الإضافة عليها باستغلال الجنس لاجتذاب المقاتلين الذين ينحدرون في الغالب من بيئات اجتماعية مكبوتة جنسياً ومهمشة اقتصادياً، وكما ترى «جيت كلوسون» الأستاذة في جامعة «برانديز» ومؤسسة مشروع «الجهاد الغربي» المعني برصد أنشطة «داعش»، فإن الإغواء بإتاحة الجنس جزء أساسي من استراتيجية ناجعة لتجنيد الشباب ومن تجاوزوا مرحلة الشباب لأن العديد منهم يعيشون في ظروف لا تمكنهم من بدء حياة أسرية مستقلة، وأن عوامل مثل الفقر وانهيار الإمكانيات التقليدية لعقد الزيجات السبيل الوحيد لممارسة الجنس ، ساهمت في وجود مئات الآلاف وربما الملايين من الرجال العازبين الذين تأمل «داعش» في استقطابهم، كجزء من استراتيجيتها الاستحواذية.
تظهر دراسات في علم النفس أن الكبت الجنسي يؤدي إلى مشاكل سيكولوجية عميقة، يقول الدكتور راين كرستوفر 1 إن الحرمان من الطعام والماء يؤديان إلى الكآبة والغضب الموجه ضد مُسبب الجوع أو العطش، بينما يؤدي القمع الجنسي إلى نمو علاقات مشوهة وانحرافات جنسية وغضب لا يتوجه ضد من هم وراء القمع بل ضد أشخاص غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم.
تمكنت «داعش» من استقطاب هؤلاء المكبوتين من خلال تقديم الجنس بطرق مختلفة. فـ»الدولة الإسلامية،» وبحسب تقرير للأمم المتحدة حول انتهاكات «داعش» لحقوق الإنسان، فتحت مكتباً لبيع «السبايا» الإيزيديات لإذلالهن وإغواء الشباب بالانضمام إلى صفوف التنظيم من خلال إعادة العمل على نحو بشع وفق مفهوم ولاية الذكر على الأنثى، فبيعها يعني تحولها إلى سلعة يستطيع الرجل شراءها أو بيعها متى يشاء. وتدير «الدولة الإسلامية»، كما تؤكد مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسقة عمليات الإغاثة «فاليري أموس»، عدة بيوت دعارة في سورية والعراق، حيث يضع التنظيم النساء اللواتي لا يتم بيعهن، في بيوت أو استراحات يتعرضن فيها للاغتصاب المتكرر من قبل المقاتلين العائدين من ميدان المعركة. وفي هذه الممارسة تسعى «داعش» لرفع معنويات مقاتليها من خلال تأكيد سلطة الرجل على المرأة انسجاماً مع فهم رائج في المجتمعات الإسلامية، لكن ممارسة «داعش» تزدري جميع الأحكام والنواهي التي وضعها الإسلام ضد الاغتصاب، أو ممارسة الجنس بالقوة. وهذه كلها وسائل لاستخدام الجنس أداة لتجنيد المقاتلين ولإغرائهم على البقاء في صفوف التنظيم، كما تلاحظ «ميا بلووم»، أستاذة علم الجريمة في مركز دراسات الإرهاب والأمن التابع لجامعة ماستشوستس.
وفي مثال شنيع على إمعان «داعش» في توظيف الجنس بصورة وحشية كوسيلة لتجنيد المقاتلين، نشر التنظيم على موقعه على الانترنت دليلاً 2 يضمّ 32 سؤالاً وجواباً حول كيفية معاملة السبايا أطلق عليه «دليل نكاح السبايا»، أكد فيه السماح باغتصاب وبيع وهبة الأسيرات، وأنه يمكن مضاجعة الأسيرة إذا كانت بكراً «مباشرة بعد الملك»، وإن لم تكن بكراً ينبغي الانتظار للتأكد من أنها غير حامل. ويتبيّن من الأسئلة والأجوبة التوظيف الخاطئ للنصوص الدينية في سياقات منحرفة ومرفوضة أصلاً من جميع الأديان والقوانين الوضعية. ويبيح الدليل للرجال ممارسة الجنس مع «السبايا» اللواتي لم يبلغن بعد إذا كن صالحات للجماع، وفي حال لم يكن صالحات فيُكتفى «بالاستمتاع بهن». ويصنف «داعش» الفتيات، بحسب تحقيق لصحيفة «تايمز» البريطانية، إلى مجموعات عمرية واستناداً إلى مستوى التعليم، وما إذا كان قد سبق لهن الزواج أم لا، أو سبق أن تم شراؤهن من قبل «داعشيين» أو كنّ بحوزة أي من المقاتلين كهدية أو جائزة. إن التنظير الخاص بالمرأة لدى التنظيم، على عكس الإسلام، يتركز حول كيفية استخدامها في الجنس والمتعة. فتنظيم «الدولة الإسلامية» لا يرى المرأة خارج حدود الفراش، بل إنهم يجبرون أهالي الفتيات على المشاركة في انتهاك الحقوق الجنسية للفتيات، فقد جاءت فتوى الختان التي تجبر ملايين النساء على ختن أعضائهن التناسلية وتشويهها، ويقوم بالعملية بحسب الفتوى أحد أفراد «داعش». وقد يتم جلب ولي أمر الفتاة للمطهر «الداعشي» للمساعدة في ختن ابنته. ولكي يسبغ التنظيم شيئاً من المشروعية «من المنظور الإسلامي» على ممارسة الجنس بهذه الطرق المنحرفة أطلق ما عرف باسم «جهاد النكاح» والتي يُقال أن فتاوى من بعض الدعاة أصدرتها أو رُوّجت عنهم، وتقضي الفتوى بأن تذهب الفتيات من هن فوق الرابعة عشر من أرجاء المعمورة إلى سورية تلبية لرغبات المجاهدين الجنسية وتشجيعاً لهم على القتال. وإذا كانت ممارسة الجنس بأي شكل أو تحت أي اسم، عامل جذب للشباب المكبوت، فإن «جهاد النكاح» نجح في جلب عدد غير قليل من الفتيات المكبوتات أو المغرر بهن. ويتم تزويج الفتيات بأعضاء «داعش» بعقود شفهية وعلى مراحل، ويجوز انتقال الفتاة من رجل إلى آخر من خلال تطليقها شفهياً أيضاً. وتلزم الفتوى النساء بممارسة الجنس بصورة متكررة في اليوم الواحد لإشباع رغبات «المجاهدين»، مقابل ذلك يحق للفتاة الحصول على لقب «مجاهدة» وهو مفتاح دخول إلى الجنة. وبصرف النظر عما إذا كانت الفتوى قد صدرت عن الذين نسبت إليهم، فإن «الدولة الإسلامية» استخدمتها إعلامياً لجلب المقاتلين، كما أن تصريحات لحكومات مختلفة بينها التونسية والبلغارية أكدت التحاق شابات من بلدانهم للتنظيم بهدف ممارسة «الجهاد الجنسي».
المرأة سلعة وعورة؟!
إن تعامل «الدولة الإسلامية» مهين لإنسانية المرأة ومركزها الاجتماعي أياً كانت عقيدتها، إذ إن تعليمات التنظيم لا تقتصر على كيفية معاملة الأسيرات فحسب وإن كن أكثر من تعرض للظلم والمهانة ، بل النساء في شكل عام، وتدور تلك التعليمات حصراً حول كيفية مضاجعة المرأة. هذه المرأة ذاتها تصر «الدولة الإسلامية» على تغييبها ومحو آثارها كما لو كانت غير موجودة إلا سلعة لإشباع غرائز الرجال. يتضح ذلك من خلال إصدار «داعش» قائمة شروط 3 توضح أن المرأة كلها عورة ولذلك تُمنع من التعليم ويُحتم عليها البقاء في البيت وعدم الخروج من دون محرم. وحظر التنظيم على المرأة ارتداء أي شيء غير «اللباس الإسلامي» الذي يحجبها تماماً ولا بد أن يكون باللون الأسود، كما منع بيع الملابس المزخرفة والضيقة أو وضع ملابس نسائية على واجهات المحال، وإغلاق محلات الخياطة النسائية التي يعمل فيها ذكور، لا بل حتى العيادات النسائية التي يعمل فيها أطباء ذكور، ويمنع اختلاط النساء مع الرجال في الأسواق والأماكن العامة، كما لا يُسمح للمرأة بالجلوس على الكراسي! ربما لأنها من قرائن السلطة والهيمنة. وكما تم الإشارة سابقاً يستشهد التنظيم في الدليل الذي نشره بعنوان «السبي والرقاب» بآيات من القرآن لتبرير أفعاله ضد المرأة. الجنس واستعباد النساء هو محور هذا الدليل الذي يهدف إلى إغراء أكبر عدد ممكن من الشباب وضمهم لـ«الدولة الإسلامية».
مكتسبات أو منجزات عدة ومفاجئة يستطيع تنظيم «داعش» أن يتباهى بتحقيقها مثل الجغرافيا الشاسعة المحسوبة «لدولته»، الأسلحة المتنوعة والنوعية التي غنمها أو بحوزته، الأموال الطائلة التي غنمها من السيطرة على مرافق حيوية للطاقة والمنتجات والاستيلاء على البنوك أو الابتزاز بفدية الرهائن أو الضرائب التي فرضها في مناطق سيطرته، القدرات القتالية والخبرات المتميزة للعديد من مقاتليه، السجل غير المسبوق في الذبح والتقطيع والقتل والتعذيب والترهيب والتدمير والسبي والاغتصاب والتنكيل والصلب والحرق…، الإيحاء لقطاع واسع في العالم العربي والإسلامي خضع ولأعوام لحملات إعلامية ودعائية مركزة تؤجج الانقسام المذهبي، مغرقة في التحريض لكراهية الآخر، جعله مهيأ معنوياً ودينياً لتقبل من يزعم بقدرته على تجسيد التمثيل الأقوى لطموحاته أو آماله، ودغدغة مشاعره المذهبية التي تم شحنها وتوظيفها بعيداً عن المصلحة الوطنية الجامعة وتجاهلاً لقضايا مصيرية.
ولكن الوقائع العنيدة تشير إلى طفرة موقتة بالتعاطف وبداية الانحدار البياني في منحنى تقبل التنظيم من قبل البيئة التي يتحرك فيها أكانت مغلوبة على أمرها أم تنتظر فرجاً من أحوالها البائسة. لم يتمكن الخليفة المزعوم من الظهور بالحد الأدنى المنتظر أمام رعيته المفترضة أو حتى مخاطبتها بتسجيلات، على طريقة بن لادن أو الظواهري مما يسقط ذريعة الحرص الأمني، ولم تثبت دولته المزعومة بالممارسة أنها نموذج أو نواة الدولة العتيدة المرجوة التي تستحق الولاء والتأييد. لا بل إن هناك شبه إجماع على انكفاء وتراجع القدرات القتالية أو الفعالية لدرجة خسارة مواقع احتلتها، وذكرت تقارير إخبارية عن انسحابات وعمليات إعدام ميدانية لمقاتلين ينهزمون أو يفرون من ميدان القتال.
الخرافة وميزان التاريخ
خرافة الخليفة والخلافة والدولة تتبدى مع مرور الساعات والأيام، والثابت أنها تتكشف عن كونها مجرد عصابة تحركت في شقوق الاستباحة والعجز عن حسم الدولة الوطنية في كل من سورية والعراق للصراعات الداخلية أو المؤامرات الخارجية. وفي حالة العراق تحديداً ما هي إلا نتاج متأخر لمفاعيل الاحتلال الأميركي.
تنظيم «داعش» يقف بفحشه عارياً، وقد نُزع عن جلده كل ما حاول ارتداءه من هالة دينية، وطنية أو نضالية، ويبدو الانجاز الأساسي أو المنتج الأساسي له قبل أن يرمى إلى مزبلة التاريخ أنه أضاف إلى تاريخ الإجرام بحق الإنسانية والفسق فصولاً هي الأشدّ بشاعة، وبدلاً من أن نوثق لهذه الحقبة بإصدارات من الكتب تروي عن البسالة والتحدي والشهادة في ساحات المقاومة والشرف من أجل فلسطين السليبة وحماية الوطن أو استرداد المقدسات، نكتشف أنّ محفوظات «داعش» مكرسة لكتب وتعليمات عن «جهاد النكاح ودليل نكاح السبايا» ولتصوير متقن لأفلام القتل والذبح والحرق.
1 راين كرستوفر: دورية سايكولوجي تودي
2 نيوزويك كانون الأول 2014
3 صحيفة واشنطن بوست حزيران 2014