«معسكرا الحوار الوطني» و«الحوار مع النصرة»
يوسف المصري
لا بديل في هذه المرحلة داخل لبنان عن حوار حزب المستقبل وحزب الله. وعلى رغم أن هذه الفكرة يُراد لها أن تعمّم لتشمل أطراف لبنانية أخرى، إلا أن الظروف الموضوعية لا تزال تكبح هذا الهدف. ميشال عون يقول في مجالسة الخاصة إن يديه ممدودة للجميع ومستعد لإعداد أوراق تفاهم مع من يريد من الأطراف اللبنانية. ولكن الصدى الوحيد لندائه هذا هو الصمت أو مداراة الرفض على الضفاف الأخرى. ويوجد انطباع لبناني وأيضاً إقليمي بأن تجربة تفاهم عون – نصر الله، غير قابلة لأن تتكرر أو تعمم في المدى المنظور، على رغم أن أصل فلسفتها تتضمن الرغبة في جعلها تتسع لينضم إليها أطراف لبنانيون آخرون.
برز همس مؤخراً داخل كواليس معراب حول أن تستبدل القوات اللبنانية حوارها مع التيار الوطني الحر المتعثر، بحوار بين القوات اللبنانية وحزب الله. الفكرة بأساسها ليست وطنية بل تكتيكية، وهدفها الإيحاء بأن حقائق الوضع في لبنان، لا تحتم على جعجع أن يحاور عون، بل أن يحاور السيد حسن نصر الله صاحب قرار السلم والحرب والحل والربط في المواضيع الداخلية.
يمكن الجدال مطولاً عن حوار الأزرق والأصفر، ولكن ما لا يمكن إنكاره هو أنه أدخل مصطلح «ثقافات الحوار» من جديد إلى الساحة اللبنانية الداخلية التي شهدت منذ عام 2011 ثقافة القطيعة والانقسام العمودي. الحوار المسيحي المتمثل بطرفيه العوني والقواتي كان بلا شك نتاجاً لحوار المستقبل – حزب الله. وحتى تداعي متضررو مسيحي 14 آذار من تفاهم متصاعد بين الحزب والمستقبل للتلاقي، يمثل أيضاً في جانب منه اكتشاف هؤلاء أنه عليهم تجاوز بقائهم خارج صورة موسم الحوار ولو عن طريق نصب طاولة للحوار بينهم، وفي الجانب الآخر منه يمثل «كيدية سياسية» يقودها الرئيس ميشال سليمان بمفعول رجعي.
ليس مستعبَداً أن تنتقل عدوى الحوار الأزرق والأصفر إلى ساحات ومكونات لبنانية أخرى: كرؤية الطاشناق يتحاورن مع الهانشاك، وينتج من ذلك خطة أمنية واقتصادية لبرج حمود التي يتعاظم فيها نشاط هجرة الأرمن اللبنانيين إلى المغتربات، ورؤية الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي يتحاور مع حزب الكتائب الماروني حول تدعيم خطوات المصالحة المنجزة في الجبل بين المسيحيين والدروز بخطط تنمية اقتصادية تجعل تطبيع الوضع بينهما مبنياً على اقتصاد مشترك بين الطائفتين اللتين هما أصل نشأة لبنان الصغير ومن ثم الكبير.
ولكن على رغم الزخم الذي تشهده ثقافة الحوار التي أطلقها قرارا نصر الله – سعد الحريري من عقال حبسها لسنوات خلت، إلا أنها لا تزال تواجه شوائب عادات القطيعة السياسية حتى لا نقول تقاليد القطيعة السياسية. وهذه تتمثل في ثلاثة جوانب:
أولها دعوات لا تزال تصدر من هنا وهناك، تحاول زرع اليأس في قلوب اللبنانيين من جدوى الحوار كل حوار، سواء بين الحزب والمستقبل أو بين العونيين والقوات وأيضاً لاحقاً بين أي طرفين لبنانيين يقدمان أوراق اعتمادهما لموسم الحوار. تبدو هذه الأصوات تشتاق لثقافة القطيعة أو هي لا تجد دوراً لها خارج هذه الثقافة ومسارات الصراع الذي تنتجه.
.. وإلى حد ليس بقليل يبدو لبنان اليوم بعد مشهد حوار الأزرق والأصفر، وكأنه لم يعد منقسماً بين معسكري 14 و 8 آذار، بل بين معسكري المؤمنين بالحوار بغض النظر عن صعوباته وما يتخلله من مشاهد عن حوار الطرشان بداخله، ومعسكر التمسك بحنين العودة لثقافة القطيعة السياسية على رغم ما فيه من أخطار على أمن البلد وحياة الناس وأهوال اقتصادية. وهذا المعسكر الأخير يتواجد بداخله تلوينات مختلفة من ضفتي الآذاريين. وهم بحق يشكلون موسم خريف لبنان في كل حقبه.
الجانب الثاني يتمثل بأصوات تدعو لتعميم الحوار الداخلي ولكن باتجاهات خاطئة كالدعوة لحوار لبناني مع «جبهة النصرة»، بوصفها أمر واقع، وبوصفها مشروع قابل لانتزاع غدد الداعشية منها. هذه الدعوات تريد من لبنان أن يستسلم للإرهاب حتى قبل أن تبدأ الحرب معه. وكلامهم هذا يشكل في الحقيقة الوصفة السريعة للإرهابيين كي يعتقدوا بأن ابتزاز لبنان هو أمر أكثر من ممكن.
والواقع أن هذا النوع من الذاهبين للمطالبة بتطبيع مع النصرة، لا يضم بالضرورة فقط سيئي النية، بل بعضهم ذهب لهذا الخيار لأنه خائف ومضطرب ويرى أن الصراع السني الشيعي في المنطقة، حتى لو كان مفتعلاً، لا قدرة للأقليات على احتمال نتائجه والأفضل لها تحييد نفسها إزاءه. وقديماً قيل الخوف والجوع يفسدان رجاحة العقل. ولذلك فإن الخائفين من صراع يفترضون أنهم لا قدرة لهم عليه، لم يستنتجوا من حوار المستقبل والحزب ومن حرب العراق اليوم على «داعش» في صلاح الدين، أنه في لبنان، كما في العراق، حينما توجد إرادة وطنية لمقاتلة الإرهاب تتجاوز واقع الحسابات المذهبية، تتم هزيمة الإرهاب. الجميع الآن اكتشف- ولو بعضهم متأخراً – أن «داعش» هو عنوان للإرهاب التكفيري وليس كل أشكاله العديدة التي بينها بطبيعة الحال «جبهة النصرة».
الجانب الثالث الذي يتدخل لإفساد ثقافة الحوار العائدة إلى لبنان يتمثل بالرسائل التي يطلقها جنرالات «إسرائيل» خلال جولاتهم التفقدية التي أصبحت كثيفة مؤخراً على الحدود الجنوبية المشتركة بين سورية ولبنان وفلسطين المحتلة وتحديداً في الجولان وامتداداً حتى منطقة مزارع شبعا. وزير الدفاع «الإسرائيلي» يعالون يقول: «النصرة عدو عدونا، وإرهاب داعش بعيد عنا… بالتالي ليس لنا ناقة في قتال الإرهاب». وعملياً، تؤدي هذه المعادلة ليعالون إلى نصب طاولة حوار افتراضية بين «إسرائيل» وطيف الجماعات الإرهابية التي تشكو منها المنطقة والعالم. والخشية أن يسفر جلوس «أعداء العدو الواحد» حول هذه الطاولة عن أجندة أمنية «إسرائيلية» تكفيرية مشتركة هدفها هز أمن لبنان خلال هذا الربيع، وذلك انطلاقاً من مقولة أن «إسرائيل» لن تنزعج من نشاط عدو عدوها النصرة وداعش لتخريب استقراره وضرب مقاومته وإيجاد استثمار لها في حروب المنطقة الداخلية.
كل ذلك يؤشر إلى أن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب المرغوبة في لبنان، لها أكثر من شرط لبدئها، منها تحصين ثقافة الحوار من شوائب تتهدده، وليس فقط أن يستبقها استحقاق رئاسة الجمهورية.