زمن التهريج الأميركي
ثائر أحمد إبراهيم
مثّل الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد مشكلة حقيقية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية منذ وجوده عام 2000 على رأس هرم السلطة في الجمهورية العربية السورية، بعد أن أعلن عن برنامجه الإنساني الهادف إلى النهضة بالدولة السورية بقدرةٍ تحفظ السيادة وتبقي الدولة المقاومة لاعباً مستحيل التهميش في حلبة الاشتباك العالمية.
وزادت خشية الأميركيين وقلقهم على مشروعهم ومصالحهم الخاصة، وتأزمت مواقفهم تجاه الرئيس الشاب عقب إعلانه عن مشروعه الاستراتيجي الذي عدّته الولايات المتحدة الأميركية المشروع الأكثر تهديداً لمصالحها عبر تاريخ المنطقة العربية والمعروف بمشروع ربط البحار الخمسة .
لكن مشكلة الأميركيين لم تقتصر في ما بعد على وجود الرئيس الأسد بحدّ ذاته، بل كان جلياً لكلّ صحيح بصيرة أنّ وجود الدولة السورية بشعبها وأرضها ومؤسساتها تمثل مصيبة مضاعفة قائمة بالنسبة لهم، كونها شكلت عبر فترة زمنية طويلة صخرة الممانعة التي عطلت المخططات الأميركية في المنطقة، وأقلقت مصالح الولايات المتحدة في باقي دول العالم.
لم يخفِ الأميركيون أبداً إرادتهم الجارفة في إزاحة أية عقبة تمنع تحقيق استراتيجيتهم الامبريالية القائمة على تقسيم المقسّم وتجزيء المجزأ واستعباد البشرية بما يخدم مصلحتهم العليا المرتبطة عضوياً وعقائدياً بالحفاظ على كذبة شعب الله المختار التي تؤمّن استمرارية وجود الكيان الغاصب على أرض فلسطين المحتلة المشرّع بطريقة أو بأخرى لوجود الولايات المتحدة الأميركية ذاتها.
ومن أجل ذلك قامت الدولة الإمبريالية العظمى بكلّ ما يمكنها للإطاحة بالدولة المقاومة معتقدة أنّ تشظي هذه الدولة المعقدة التركيب بتنوعّها الديموغرافي والعقائدي سيسهّل ويسرّع تشظي باقي دول المنطقة التي تحتفظ بأكبر ثروات الدنيا وبما يتيح السيطرة عليها لعقود مقبلة.
أطلقت أميركا سلاحها السرّي الذي اشتغلت على تجهيزه وجهدت في تدريبه، وهو المتمثل بالعنصر البشري مغسول الأدمغة في حربها ضدّ الإنسانية تحت مسمّى «ثورات الربيع العربي» واضعة نصب عينيها كهدف مرحلي استجلاب خمسة ملايين مرتزق من كافة أصقاع المعمورة كي يعيثوا دماراً على أرض الدولة المقاومة لتحويلها من دولة قوية ذات سيادة إلى دولة فاشلة تعاني سكرات الموت الإرهابي وتعجز عن إدارة شؤونها بما يدفعها لاحقاً لتقبّل تسليم مقاليد سيادتها لعتاة الإمبريالية الأميركية.
لكن الصمود السوري كان صادماً ومهيناً للأميركيين وغطرستهم، فالرئيس الأسد الذي حدّد منذ اللحظة الأولى خيارات الدولة المقاومة نطق بلسان شعبها مفصحاً أنّ التسليم لأميركا خيار غير موجود في قاموس الصمود السوري.
ولأنّ فهم الرئيس الأسد لحقيقة الإجرام الأميركي والتفاف الشعب المقاوم حوله كان المانع الأجدى والأهمّ لقبول أيّ حلّ استسلامي طرحته أميركا، استمات الأميركيون في تشويه صورة الرئيس المقاوم لفضّ الحاضن الشعبي من حوله بإظهاره بمظهر الباحث عن طوق نجاة فردي يبقيه في سدة الحكم.
استماتة أسقطها رفض الرئيس الأسد للتفاوض بعيداً عن إرادة العقائديين المضحّين من أبناء القضية الذين ما زالوا قابضين على جمر اليقين والمتمسكين بأسدهم المقاوم للفاشية الجديدة، غير الآبه للمناصب، والعالِم يقينا أنّ المشرّع الأوحد للسلطة هو الشعب العربي السوري الذي ما انفك يعلن احتقاره لسياسة الأميركي وبغضه للهيمنة الدنيئة التي يحاول الأميركي أن يرعب بها شعوب العالم.
ولما تزل أميركا منذ أربع سنوات تستخدم ذات أسلوب المناورات الموجية المتلاحقة في سعي مباشر للحفاظ على الروح المعنوية الشرسة لعصابات «بلاك ووتر» من جنودها المقاتلين تحت مسمّى تنظيم «داعش» الإرهابي وأخواته من مسلوبي الوعي، وفي سعي غير مباشر لاستمرار استنزاف الجيش العقائدي مزامنة ذلك مع حراك سياسي مربك للمشهد ومعقدٍ له، تارة بالإعلان عن تسليح المعارضة المعتدلة المزعومة، وتارة بإشاعة الحديث عن تهيئة حلّ سياسي بالترويج لمؤتمرات دولية جامعة توازياً مع تصويبها المستمرّ المستهدف للرئيس الأسد تصريحاً أو تلميحاً في كشف واضح عن نيتها التصالح مع الدولة المقاومة بشروط خاصة، اعتبرها السوريون وأسدهم شروط استسلام مذلّ، طالما أنها لا تراعي مصالح الشعب العربي السوري وسيادته.
ومنذ اللحظة التي أطلق فيها نائب الرئيس الأميركي جو بايدن تصريحاته الصادمة لحلفائه فاضحاً دعمهم للإرهاب الحاصل في المنطقة لم تهدأ أميركا عن تذكير الرئيس السوري بأنّ أبواب الاستسلام مفتوحة تحت مسمّى التفاوض، وأنّ إنهاء الأزمة لن يكلف سوى موافقة يقدّمها أسد سورية بمعزل عن إرادة السوريين لتتمّ تسوية الأمور برمّتها.
وما تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري الأخيرة التي دعا فيها إلى التفاوض مع الأسد، والتي سارعت شخصيات القماءة البريطانية والفرنسية والخليجية والتركية إلى استنكارها وتحويرها عن حقيقة مضمونها في محاولة بائسة للتغطية على الكذبة السمجة التي روّجوا لها عند شعوبهم عن استقلال قرار المعاندين المكابرين، ولإثبات أنّ ما جرى في سورية من حرب ظالمة على الرغم من وجود الإرهابيين لم يكن إلا مطالب شعبية محقة دعمتها الدول المنافقة المدّعية، ولكي تتدارك خسارة أوراقها التي بدأت تنهار أمام مصداقية الدولة السورية في تعاطيها مع ملف المصالحات الوطنية المتمثل اليوم بفتح باب التوبة، حتى للعناصر الإرهابية السورية إنْ أرادوا العودة أحراراً في وطنهم إذا ما ألقوا السلاح، ليست إلا رسالة جديدة يوجهها الأميركيون للرئيس الأسد كي يعيد حساباته الخاصة.
تصريحات لم يرها السوريون بذات القدر من الأهمية التي أريدَ لها أن تظهر بها في وسائل الإعلام المهيأة للتراجع الحتمي للولايات المتحدة في حربها ضدّ الدولة المقاومة، فالرئيس العربي الشاب ومن خلفه الشعب الصامد لا يثقون بأميركا ولا بتصريحاتها ولا يهمّهم من حديث الأميركيين إلا ما قد يكون مقترناً بأفعال مادية حقيقية تترجم أمراً واقعاً على أرض الميدان.
فالدولة المقاومة تعلم أنّ تصريحات جون كيري ومهما رافقها من تهويل إعلامي مقصود للتلاعب بالعقل السوري لن تكون الأخيرة ، وجون كيري الكاذب في كلّ شيء صدق في قوله أنّ الرافض للتفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية هو الرئيس الأسد، فما تسمّيه أميركا تعطيلاً للحلّ لا يعدو كونه ثباتاً وصموداً يظهره الرئيس الأسد في الحفاظ على سيادة الدولة المقاومة وتكذيبا لكلّ قول أريدَ ترويجه بواسطة الأغبياء من أنّ الأسد كان يقاتل ضدّ شعبه للحفاظ على نظامه، وليس لإسقاط مؤامرة كونية حيكت ضدّ وطن لم يكن يشغله في يوم من الأيام إلا همّ بناء الإنسانية.
إننا لا نفشي سراً في قولنا إنّ استكبار أميركا ورفضها الاعتراف بهزيمة مشروعها أمام صمود الشعب العربي السوري سيبقي الاستنزاف قائماً لفترة قد تطول قليلاً مما يجعل كلمة الفصل لصمود الشعب وللميدان الذي يحكمه ميزان عدل الجيش العربي السوري وقواته الرديف التي تقاتل بوتيرة مستمرّة دون الالتفات إلى الأقوال والفقاعات الإعلامية.
أميركا اليوم تدخل طور الاستنزاف ذاته الذي مارسته على الدولة المقاومة بخسارة الآلاف من مرتزقتها، والجيش العربي المقاوم يتمّم واجباته بالتخلص من نفايات البشرية الوافدة من خارج الجغرافية السورية، وارتفاع منسوب روافد الجيش العربي السوري يوسع تمدّد بحيراته ويحبس أنفاس المترقبين لحظة الحسم الآتية بأسرع مما يعتقد الواهمون، والانهيار الأميركي يجري إلى مستقرّ الانتخابات الرئاسية المقبلة، واللعبة السياسية الإعلامية في الداخل الأميركي قائمة على أعلى مستوياتها بين جمهوريين وديمقراطيين حالمين بالبيت الأبيض والوظائف الحكومية، وأميركا التي تعي أين مشكلتها الأساسية تضغط تهويلاً لإرباكٍ تعتقد أنه سينتزع في اللحظات الأخيرة من السوريين تغييراً لخياراتهم الاستراتيجية.
لكن حقيقة القراءات المخفية التي يهمس بها سفاحو البيت الأبيض بدأت تعلو في أروقته لتنبئ بأنه حان الوقت لكي تنفذ أميركا ما كانت تطلبه من الدولة المعتدى عليها بتغيير خياراتها الاستراتيجية، والاقتناع بأنها لم تعد تلك الدولة العظمى القادرة على إشعال الكون دون أن تهدّد مصالحها ووجودها الطبيعي والجغرافي والسياسي.
جون كيري الذي جاهر بإعلانه أنّ الوقت حان للتفاوض مع الرئيس الأسد لم يخف تمنيه على الدولة المقاومة تقديم العون للخروج من الورطة الغبية التي أربكت أميركا، والأقاويل المفتعلة ليس لها مبرّر إلا تلقيم الرأي العالمي فكرة الهزيمة الأميركية بهدوء وتجميل الصورة السوداوية لواقع سياستها المضطربة التي لا يرى أشراف الانتصار أنها تستأهل غير الاستهزاء من التهريج الأميركي وأبطاله، ولعلّ أصدق توضيح لحقيقة الضياع الأميركي ما ظهر في ردّ المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية جين بساكي من أنّ جون كيري لم يقصد في تصريحاته الأخيرة التفاوض مع بشار الأسد وإنما التفاوض مع حكومته.
إنه زمن التهريج الأميركي الذي يذكرنا بذلك المهرّج الذي هدّد جيرانه إنْ هم لم يعطوه رغيف الخبز بأن يفعل كما فعل جدّه في غابر عهده، وبعد أن سلموه ما أراد اكتشفوا أنّ أخطر ما فعله جدّه المذكور يوم منعه جيرانه عن رغيف الخبز هو نومه بلا عشاء.
جين بساكي تحاول إقناعنا بأنّ التفاوض مع حكومة الأسد إنْ حصل، فسيشكل انتصاراً ماحقاً ساحقاً للأميركيين، وبأنه حال مختلف ومغاير تماماً في حيثياته ونتائجه عن التفاوض مع بشار الأسد سيد البلاد وقائد جيشها وآمر حكومتها.
تردّ أم شامية على المهرّجة الأميركية جين بساكي بعد سماع تصريحها بالقول: أضرب عليك شو حنونة .
ونختم قائلين: إنه زمن التهريج الأميركي…!