ذات الأداة ذات الدور
د. نسيب أبو ضرغم
منذ أن رسّخ الإنكليز أقدام عبد العزيز آل سعود في الجزيرة العربية، كانت قد حُدّدت هوية الدولة الناشئة وهوية دورها، بالعودة إلى الإقرار الذي خطه عبد العزيز بخط يديه، والمتضمّن تسليمه فلسطين لـ«المساكين اليهود» ولمن تراه بريطانيا، والذي كان الشرط الأساس لتقديم الدعم الإنكليزي- اليهودي عبر السير برسي كوكس وجون فيلبي، وما يمثلان من قوى استعمارية ويهودية في ذلك الوقت. بالعودة إلى ذلك يظهر سياق العمل السعودي الواحد والذي لم يتبدّل، فالسعوديون استناداً إلى الإقرار المشار إليه كانوا قد أسقطوا من مضامين الدولة السعودية أي مضمون قومي أو عربي، وبالتالي صار للمملكة هدفان اثنان متكاملان متداخلان، وهما: السعي إلى زعامة العالم الإسلامي، ونشر الفكر الوهابي. ذلك أنه عبر هذا الفكر المدعوم بأموال النفط تضمن العائلة السعودية حضورها الفكري والديني والسياسي، فتنشأ بين الفكر المذهبي والدور السياسي علاقة جدلية لا تنفصم. العلاقة عينها التي نشأت بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود والقائمة حتى اللحظة بين أحفادهما.
لم يُسجل للمملكة السعودية موقف واحد مناصر للقضايا القومية والعربية. كانت دائماً في صف التحالف الغربي- الصهيوني، منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، عندما تصدّت المملكة لسياسة الرئيس جمال عبد الناصر في حرب اليمن الأولى. لم يكن آنذاك الانقسام قائماً بين سنة وشيعة، بل بالعكس تماماً، كانت السعودية تحالف الإمام يحي الشيعي، حليف الإنكليز، ضدّ جمال عبد الناصر السني، علماً أن إيران في ذاك الوقت كانت إلى جانب السعودية.
إنّ المسألة ليست مسألة شيعة أو سنة، بل دور ووظيفة تلازما مع الأسباب الموجبة لقيام الدولة السعودية، بل الأصحّ القول، إنهما كانا السببين الموجبين الأساسيين لقيام هذه المملكة. دورٌ ووظيفة هما في أن تكون المملكة في موقع العداء الدائم لكلّ حركة وحدوية أو ثورية أو قومية.
الراصد لحراك الحكم السعودي ضدّ القضايا القومية يدرك أن المملكة ليست إلا الأداة التي تلعب الدور ذاته، فهي في عام 1967 عمدت إلى تحريض الرئيس الأميركي جونسون، عبر رسالة رسمية وشخصية من الملك فيصل يدعو فيها الرئيس الأميركي للسماح لـ«إسرائيل» بضرب سورية ومصر، وهذا ما حصل فعلاً، نص الرسالة في كتاب تاريخ آل سعود للمؤلف ناصر السعيد .
إن السعودية اليوم تلعب الدور ذاته بتحريضها «إسرائيل» لإقناع الرئيس أوباما بضرورة ضرب إيران. هذا ما أشار إليه المؤلف الأميركي روبرت باري، المتخصص في الشؤون الإيرانية، نقلاً عن مسؤول في وكالة الاستخبارات الأميركية CIA ، رفض الإفصاح عن هويته. يقول إن السعودية دفعت 16 مليار دولار أميركي لـ«إسرائيل» على مدى سنتين ونصف السنة، مقابل مساعدتها في حشد الضغط على الرئيس الأميركي لترجيح الحرب على إيران. وأضاف أن الطرفين كليهما السعودي و«الإسرائيلي» رفضا التعليق على النبأ. وأردف أن المبالغ التي حُوّلت كانت عبر دولة عربية إلى حساب مصرفي يسيطر عليه نتنياهو، وعليه فقد موّلت السعودية جهود اللوبي «الإسرائيلي» كافة، بما فيها خطاب نتنياهو أمام الكونغرس لإفشال التقارب مع إيران.
إنّ السعودية ومنذ ولادتها لم ترَ في «إسرائيل» عدواً، بل وزّعت بوصلة عدائها إلى الشعوب العربية والإسلامية، مصر، العراق، سورية، اليمن، إيران… وليس من مرة واحدة تذكرت أن ليس أية واحدة من هذه الجهات العربية والإسلامية هي التي تحتلّ فلسطين وتشرّد شعبها، بل العكس كانت سنداً للعدوان، وما الكلام الوارد أعلاه على لسان روبرت باري إلا دليل حديث على صحة ما نقول.
إنّ إيران الشاهنشاهية، ليست عدواً، بل إيران الثورة الإسلامية، واليمن الإمامي الشيعي العميل للإنكليز ليس عدواً بل اليمن الناهض الرافض للهيمنة السعودية عليه، مصر السادات، ومبارك، والسيسي، ليست عدواً، بل مصر عبد الناصر.
إنّ الدولة التي تدفع 200 مليار دولار، لتمويل حرب صدام حسين على إيران، وتدفع 100 مليار دولار، لتخريب سورية، والدولة التي تشنّ حرباً على أفقر شقيق عربي وهو اليمن، وتحرّض أميركا عبر «إسرائيل» على ضرب إيران، الدولة التي تهمين على قرارات الجامعة العربية، وتجرّها إلى حروب عربية عربية، هذه الدولة عينها هي من يدّعي أنها «تشنّ حرباً لحماية الأمن القومي العربي»، عبر تدمير اليمن في بناه التحتية ومؤسساته العسكرية والإنتاجية، في وقت لم يعني لها تمركز «إسرائيل» في جزر فاطمة ودهلك وحنيش الكبرى وحنيش الصغرى على المدخل الشمالي لباب المندب إضافة إلى جزرها في مضيق العقبة، تيران وصنافير، لم ترَ في كلّ ذلك تهديداً لـ«الأمن القومي العربي»، بل رأته في مكان آخر.
واليوم وقد مرّ شهر على عدوانها على اليمن، ترى هذه الدولة نفسها أمام المأزق، وربما يكون هذه المرة مأزقاً وجودياً، لم تحسب حسابه بدقة. فهي وحيدة الآن في حربها، لا تجرؤ على وقفها، بل لا تستطيع ذلك. لأنّ المعلم الأكبر واشنطن لم يأذن لها بعد، ولا تستطيع الاستمرار أيضاً. لقد أوصلت الشعب اليمني إلى الحالة التي لم يعد له فيها شيء يخسره، وهو ما زال واقفاً بشموخ، تماماً كما جباله، لم تكسره الغارات، ولم تمنعه من أن يمسك بالأرض اليمنية أكثر، على مدى شهر كامل، أخذ السعوديون المدعومون من التحالف الصهيو – أميركي كامل الجو، في وقت ربح اليمنيون معظم الأرض، والمنتصر هو الممسك بالأرض، 90 في المئة من الأرض اليمنية .
ذات يوم دفع الأميركيون بصدام حسين لغزو الكويت، وكان ما كان، والآن يدفع الأميركيون بالسعوديين لضرب اليمن، وسيكون ما سيكون، ذلك أن الذي لم يتعلّم مما كان، لا يدرك حتماً ما سيكون. وسوف يكون لليمن زمن آخر وقد كشح عنه كلّ هذا الغبار الذي تكدّس فوق سلطته على مدى عقود.
عندما يقدر النفط على بتر قمم جبال اليمن، يقدر على أكل رؤوس اليمنيين، وهذا ليس شعراً، إنها الحقيقة التي تتأكد كل يوم.
يعتقد البدوي بعقله المسطح، أنه بماله سيستأجر دولاً وجيوشاً كما يفعل مع الأفراد، وها هو يصدم بمواقف من دول يحسبها خليفة له وقد أبت أن تكون للإيجار.
المملكة التي تضرب في كل مكان، وتدفع لأي كان، وتحالف من كان من أجل أن ننسى فلسطين، وأن لا نتذكر أن مغتصبها يهودي، بل أن العدو هو عبد الناصر حيناً، وحيناً بشار الأسد، وحيناً الحوثي وحيناً إيران وكلّ الأحيان المقاومة. بلى إنها حرب على المقاومة وإن تغيّرت ميادينها وعناوينها ورموزها.