كتائب الحروب الدينية والديموغرافية
أحمد أشقر
أسفرت انتخابات «الكنيست الأولى لعام 1949» عن فوز حزب «المباي»، الذي تحوّل إلى حزب «المعراخ/العمل» لاحقاً بـ46 عضواً. وفاز حزب «المبام» الاشتراكي الصهيوني حليف «المباي» التاريخي هو الآخر بـ19 عضواً. وفازت القائمة العربية العميلة المرتبطة عضوياً بـ«المباي» وبعض الأحزاب الأخرى بعدة أعضاء آخرين. الأمر الذي هيأ الوضع لأن يقوم بن غوريون، زعيم «المباي» بتشكيل حكومة ائتلافية معها بأغلبية مطلقة. إلا أنه آثر أن يستثني «المبام» الشريك الطبيعي لـ«مباي»، ويشكلها مع الأحزاب الدينية كشركاء أساسيين والقائمة العربية العميلة وبعض القوائم الصغرى .
باستثناء حزب الـ»مفدال/حزب المتدينين الوطنيين» الذي انبثقت منه أحزاب دينية أكثر تطرفاً وقد كان حزباً دينياً- صهيونياً، كانت بقية الأحزاب والتكتلات الدينية «لا – صهيونية» عدا «نِطوري قارتا/نواطير المدينة» التي لا تزال معادية للصهيونية، لكنها تبقى في إطار العقيدة اليهودية التي تنتظر الـ»مشيح» لخلاص اليهود في إطار خاص بهم. لكن مع الوقت وتطوّر العلاقة بين هذه الأحزاب والكيان تحوّلت إلى الصهيونية الأكثر تطرفاً، إلى أن وصل الأمر بحركة «شاس» التي قوامها اليهود من أصل عربي للانضمام إلى «المؤتمر الصهيوني العالمي». انشقت «شاس» عشية الانتخابات الأخيرة، وبقي شقها الأكبر تحت زعامة السجين الجنائي السابق آرييه درعي، أما شقها الأصغر «معا – الشعب معنا» بزعامة إيلي يشاي أو «المهرّج» كما يصفه الإعلام «الإسرائيلي» فقد تحالف مع بقايا «حركة كاخ» التي أسسها رجل الدين النازي مئير كهانا 1932 – 1990 إلا أنها لم تعبر نسبة الحسم.
سوّغ بن غوريون خطوته المتمثلة بتشكيل حكومة ائتلافية بأنه لا يريد «المبام اليساري المتطرف» بالرغم من كونه حزباً كبيراً، ويريد وحدة المجتمع والشعب. إلا أنّ فحصاً متأمّلاً لهذه الخطوة يدعونا للاعتقاد أنها جاءت لسببين اثنين يخصّان الصراع مع العرب في السياق الاستعماري وليس المدني كما يُروّج له:
الأول: يعتبر بن غوريون أكثر الزعماء الصهاينة «العلمانيين» وعياً وإدراكاً لأهمية الدين في المشروع الصهيوني والحياة الاجتماعية في الكيان الوليد، كي يعطي «شرعية دينية تاريخية» للكيان، ويبني وحدة المجتمع الوليد على القيم الدينية التي لا يختلف على جوهرها المتدينون ولا العلمانيون بكلّ ما يتعلق بمشروعهم الاستعماري في فلسطين. لذا أراد تثبيت هذه القيم من خلال التحالف مع الأحزاب الدينية.
والثاني: كان يدرك أيضاً الأهمية الديموغرافية في الصراع والتي أطلق عليها أهمّ تلامذته، شمعون بيرس: المشكلة الديموغرافية. وبما أنّ المتدينين يتكاثرون بأعلى المعدلات، ليس في الكيان، بل في العالم كلّه، لأنّ الشريعة اليهودية تأمرهم بذلك وتحظر عليهم تحديد النسل أرادهم منتجين للشرعية الدينية – التاريخية للكيان وجنوداً فيه أو كتائب ضدّ العرب.
الكتاب الذي بين أيدينا لا يتحدّث عن هذا ولا عن ذاك، فهو يبقي دور المتدينين في السياق الاستعماري في إطاره المدني فقط. يُعرب الكاتب في مقدمته عن قلق شديد على مستقبل الدولة والكيان- من وجهة نظره كليبرالي يهودي- لأنّ «الحرديم» اليهود الأصوليين فقراء لا يعملون، ويتكاثرون بمعدلات عالية، ولا يخدمون في الجيش ص 6 – 9 . عملياً هذه هي محاور الكتاب الذي يتحدث فيه الكاتب عن القضايا التي يراها مخاطر في ما يخصّ «الحرديم»، لكن دون أن يشرح لنا أسباب نشأتهم على هذه الحال، التي تعود إلى سياسة بن غوريون كما ذكرت.
يعتقد الكاتب أنّ «الحرديم» رغم كونهم أقلية عددية، خاصة بعد موجات الهجرة الروسية التي بدأت في بداية التسعينات من القرن الماضي، ورغم أقليتهم التمثيلية في «الكنيست»، إلا أنهم انتصروا في معركتهم مع العلمانيين. لأنهم تمكنوا من فرض العديد من أجنداتهم على الحياة في الكيان وثبّتوها بواسطة تشريعات مختلفة، مثل: قوانين الأحوال الشخصية، والطعام، والحفاظ على حرمة السبت. وعندما كانت الأغلبية في الكيان تحاول سنّ القوانين التي تعارض منطلقهم، كانوا يضغطون من أجل الحفاظ على الوضع القائم. فتمكنوا بذلك من التأثير على العديد من رؤساء الحكومات. ونجحوا بالفعل ص 10-34 .
ما يقوله الكاتب ليس دقيقاً، فالمستعمرون في الكيان يدركون جيداً – مثل بن غوريون – أهمية الدين والتراث في مشروعهم الاستعماري، لذا فهم لا يطالبون بفصل الدين عن الدولة بالكامل كعلمانيين حقيقيين. بل أنّ الغالبية تمارس الطقوس الدينية في الولادة والتثبيت والزواج والموت. وكذلك يُعَيّدون كلّ الأعياد الدينية التي تنصّ عليها الشريعة الدينية، التي هي أعياد رسمية في الكيان. ويقبلون بخرافة «العودة إلى أرض الآباء والأجداد» ويرون أنّ ما فعلته السياسة ليس إلا تمشيّاً مع هذا الجوهر الماهوي في هويتهم. لذا يتدخل «الحرديم» ويعملون على سنّ القوانين التي يتفق عليها «العلمانيون» والمتدينون، الجوهر الماهوي في هوية اليهود كافة والعمل على سنّ القوانين التي يتفق عليها العلمانيون والمتدينون كحلّ وسطي حال كلّ القوانين الوضعية.
إنّ أشدّ ما يُقلق الكاتب هو عدم خدمة قطاع واسع من «الحرديم» في الجيش، لأنهم يعتقدون أنّ دراسة أصول الدين أهمّ من الخدمة العسكرية. ومن هذا المنطلق تمكّنوا من سنّ بعض القوانين التي تعفيهم من الخدمة، وتسهّل على الراغبين منهم بالخدمة العسكرية أن يخدموا في وحدات خاصة تحافظ على نمط حياة ديني ص 35 – 50 . ويعتقد الكاتب أنّ في هذا تهديداً لوحدة الجيش ص 79 – 89 .
في هذه القضية يُغالط الكاتب في عرضه لأفكاره وتحليل مواقفه. لأنه لا يريد أن يعترف بأنّ الجيش بالنسبة للنخبة الأشكنازية الحاكمة ليس المُدافع عن مشروعها الاستعماري فحسب، بل عَرَبة توصلها إلى مناصب راقية في السياسة والاقتصاد. فبعد الخدمة العسكرية الإلزامية والاختيارية يلتحق المُسرّحون من الخدمة بمهنة تناسب الرتبة والمهارة الأكاديمية التي أنهوا فيها خدمتهم. ولذلك فهم لا يريدون شركاء لهم في هذه الثروة. فحتى منتصف التسعينات كان يتمّ استيعاب قيادة الجيش التي تتقاعد في سنّ الـ41 في الشركات والمؤسسات الحكومية المختلفة. لهذا احتكر هؤلاء قيادة الجيش لهم كعربة من أجل التقدم نحو مستقبل أفضل والحصول على أكبر حصة من الثروات المادية والاجتماعية والمعنوية في «الحياة المدنية». أما اليوم، وبفعل الخصخصة، فقد اتجهت قطاعات واسعة من المتدينين إلى الخدمة في الجيش لأسباب عقائدية واقتصادية، لأنّ العمل في الجيش بعد قضاء سنوات الخدمة الإلزامية الثلاث يعود بمنفعة مالية من حيث الرواتب الممنوحة والامتيازات الأخرى. ومن أجل الاندماج، ليس المقصود الاندماج في القطاع العام لأنّ خصخصته تمّت بالفعل، بل في القطاع الخاص الذي يحابي الجيش والعسكر. ومنذ أواسط تسعينات القرن الماضي، صار المتدينون يمثلون أعلى نسبة بين ضباط الجيش، بعد أن كانت الأغلبية محسوبة على الأشكنازيين من سكان المستعمرات الزراعية.
يُعتبر موضوع تجنيد «الحرديم» موضوعا إشكاليًّا بين القيادتين السياسية والعسكرية في الكيان. يدّعي بعض السياسيين بأنهم يريدون توزيع العبء على الجميع والبعض الآخر يستخدم الموضوع في نزاعاته السياسية الأخرى، بينما تعتقد القيادة العسكرية بأن تأهيل «الحرديم» للوصول إلى المستوى اللائق ذهنياً وبدنياً ونفسياً للالتحاق بالجيش يتطلب جهوداً ومقدرات هم بغنى عنها لأنهم لا يحتاجونها أصلاً. عمليّاً، لا يرغب الجيش بتجنيد كلّ شاب وشابة في «إسرائيل» ضمن قانون الخدمة العسكرية الإلزامية لأنه بات يعتمد على التقنيات العسكرية واللوجستية المتطوّرة التي تحتاج مهارت عالية لا تتوفر بكلّ هؤلاء.
يُعَبِّر الكاتب عن قلقه من عدة قضايا: اضطهاد «الحرديم» للنساء، لأنّ الشريعة هي التي تضطهدهنّ وتمنع مساواتهنّ بالرجال ص 67- 78 . وجمعهم المال بواسطة التجارة بالدين ص 99- 106 . وبناؤهم شبكات خاصة في مجالي التربية والتعليم، الأمر الذي أدّى إلى احتضار التعليم الرسمي بينهم ص 108 – 118 . وتغليبهم قوانين الشريعة على القوانين المدنية ورفضهم سنّ دستور للدولة ص 126 – 129 .
يحاول الكاتب حصر هذه القضايا بالمتدينين. علماً أنّ قطاعات لا بأس بها من «المجتمع الإسرائيلي» تشترك بها. فالقانون لا يتحدّث بشكل حازم وجازم عن مساواة النساء بالرجال، وكلّ التقارير التي تتحدّث عن هذا الحقل تؤكد غلبة الرجال على النساء في كلّ القطاعات والمستويات كالحال في معظم المجتمعات الإنسانية . ولا يمنع التكسّب بالدين أو أية عقيدة أخرى، طالما أنّ المتكسّب يدفع ضريبة للدولة. وهنالك العديد من المجموعات الغنية أنشأت وتنشئ مدارسها الخاصة، لأنها تريد تغليب قيمها على أية قيم أخرى. ولا تدرك الغالبية العظمى أهمية الدستور بالنسبة للدولة، وذلك لضعف الثقافة الديمقراطية- المدنية فيها.
وبما أنّ الكاتب قلق على مصير الكيان فإنه يقترح خطة من أربعة بنود للتغلب على المشاكل التي يعاني منها المتدينون والدولة:
1 ـ فرض تعليم المواضيع التي تعتبر أساسية في مدارسهم وهي: الإنجليزية والرياضيات والعلوم والمواطنة، لأنّ غالبية مدارسهم لا تُدرّس هذه المواضيع.
2 ـ مبادرة الحكومة بتعليم خرّيجي المدارس الدينية في الجامعات شأنهم شأن العلمانيين.
3 ـ تشجيع المتدينين على العمل في مهن لم يطرقوها من قبل.
4 ـ تشجيعهم للتطوّع في الخدمة المدنية التي هي بديلاً للعسكرية ص 51 – 60 .
نستنتج من الخطة التي يضعها الكاتب بأنه لا يريد أن يفهم أنّ النظام في الكيان يعمل على خصخصة القطاع العام ويريد تخفيض نفقاته، لذا يشجع بشكل ضمني ما يفعله المتدينون، أيّ إقامة شبكات تربوية وتعليمية من حضانات ومدارس وكليات متوسطة، كي يخفف من اعتمادهم على القطاع العام. وكذلك- أي الكاتب- لا يريد أن يفهم أنّ خطة بن غوريون بتخصيص المتدينين لإنتاج الشرعية الدينية – التاريخية للكيان وتكاثرهم مقابل التواجد العربي في فلسطين، أصبحت الخطة التي تطبّقها حكومات الكيان كافة: أيّ كتائب في الحروب الدينية والديموغرافية ضدّنا. وإلا كيف نفهم عدم تطبيق الخطة التي يقترحها هذا الكاتب وآخرون، علماً أنها لا تكلف الكثير وتعود بالفائدة المستقبلية على المجتمع والاقتصاد؟
مع بدء التظاهرات في بعض أقطار الوطن العربي التي تداعت بعضها إلى حروب تدميرية في كلّ من ليبيا وسورية، تأثرت أوساط يهودية وبدأت احتجاجات على رفع غلاء المعيشة والسكن، بدأت الحكومة بترجمة ما أقوله حرفياً: بما أنّ اليهود الأشكنازيين من الطبقة الوسطى لا يريدون الاستيطان في المدن المختلطة كاللد والرملة وعكا والمثلث والجليل. ولأنها تريد من طرفها تهويد هذه المناطق، صادقت الحكومة في شهر كانون الثاني الماضي على إقامة 500 وحدة سكنية لليهود «الحرديم» في مدينة اللد. ومع بداية «ربيعهم»، خريفنا، صادقت أيضاً في شهر آب 2010 على إقامة مستعمرة لـ«الحرديم» ما بين بلدة أم الفحم والضفة الغربية، وصادقت كذلك على إقامة 5600 وحدة سكنية في مستعمرة الناصرة العليا حيث يبعد أقرب بيت فيها عن قرية عين ماهل القريبة 50 متراً فقط لتزيدها حصاراً على حصار. وسنرى لاحقاً إقامة مستعمرات وأحياء استعمارية يهودية جديدة في المثلث والجليل لـ«الحرديم»، والهدف هو الصراع الديموغرافي، أي إكثار عدد المستعمِرين اليهود مقابل عدد العرب والحفاظ على إنتاج الشرعية الدينية وكتائب للكيان في حربه الديموغرافية ضدّنا. أما بناء المستعمرات في الضفة الغربية، فهو لا يتوقف على مدار الساعة. وفي انتخابات «الكنيست الإسرائيلية» الأخيرة الـ20 والتي جرت في السابع عشر من شهر آذار 2015، حصلت الأحزاب الدينية على 20.5 في المئة من أصوات الناخبين ممثلة بـ21 عضواً فيها. هذا ناهيك عن المتدينين الذي انتخبوا «الليكود» و«كولانو/ كلّنا»، نفهم أنّ المتدينين لا يزالون يلعبون دوراً هاماً في صناعة القرار في الكيان، لا فرق عندهم بين حكومة يمين أو يمين اليمين.
التهديد من الداخل:
«المجتمع الإسرائيلي بين كماشة الحرديم»
يوفال إليتسور
إصدار: كرمل، 2010.
136 صفحة بالعبرية
ashkar33 hotmail.com