صيف حارّ من الاضطرابات قد ينتظر أميركا
تصدّرت تغييرات الأسرة الحاكمة في السعودية اهتمامات مراكز الأبحاث، لا سيما تلك التي تتلقى دعماً مالياً من مصادر خليجية، لتعرّج على انعكاسات الترتيبات الجديدة على الاستراتيجية الاميركية والحروب المشتعلة في كل من العراق وسورية واليمن.
تظاهرات واحتجاجات مدينة بلتيمور كانت الحدث الأبرز لكافة الوسائل الاعلامية والفكرية، وما تنذر به من تصدّع في لحمة المجتمع واستقراره.
سيستعرض قسم التحليل أبعاد ودوافع وآفاق تلك الاحتجاجات، والتي ما هي إلا حلقة في سلسلة انفجارات وتحركات اجتماعية قادمة ولا تقتصر على الفئات المهمّشة والفقيرة والاقليات بل تشمل ايضاً خطورة الميليشيات اليمينية المسلحة واستعدادها الدائم للاشتباك المسلح مع اجهزة الدولة. تجسّد حديثاً في حالة الجمود بين هيئة الاشراف على الاراضي الحكومية وحشد من الميليشيات تجمّعت للدفاع عن ملكية اراضي منجم في ولاية اوريغون.
احتجاجات الفريقين ستتصاعد وتتأجج نظراً إلى حدة الانقسامات والتباين بين الفئات الاجتماعية المختلفة.
صراعات الأسرة المالكة في السعودية
التزم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الحذر من الدخول في التكهّنات والتحليلات للتغيّرات المتسارعة بين أجنحة الأسرة المالكة، واعتبر انّ تغيير سلّم وراثة العرش «لا تشي بتهديدات حقيقية في المدى المنظور»، بل مصدر التهديد يكمن في «أسرة مالكة تنمو باضطراد» ينادي اعضاؤها بمشاركة أوسع في ادارة الحكم واقتسام الثروة. واوضح أنّ عدد الأمراء يصل إلى بضعة آلاف فرد منهم «ربما ما ينوف عن المئة ممن يعتقدون انّ التغيّرات الأخيرة ستنعكس مباشرة عليهم بشكل حادّ في ما يخصّ حظوظهم في وراثة العرش». واضاف انّ الترتيبات الاخيرة «يتعيّن عليها بسط سيطرتها وكذلك ضمان انخراط العناصر التي تمّ استبعادها في الحفاظ على النظام».
لمس معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى «تململ معارضة داخل الاسرة المالكة… في أعقاب معركة ملكية داخل البيت السعودي». وشكك المعهد في مدى انخراط الملك سلمان الحقيقي في الترتيبات الأخيرة خاصة «لتدهور حالته الصحية، فضلاً عن ان لقاءاته المتكرّرة في الآونة الاخيرة مع مجموعة غير عادية من كبار الشخصيات الأجنبية أبقته خارج المشاورات الداخلية لصنع القرار… ربما بموافقته الشخصية أو في سياق إشغال الآخرين المتعمّد من قبل المقربين له». واوضح انه استناداً الى ما سبق من فرضيات ومعطيات فانّ «التغييرات تمثل استمرار الحالة الانتقالية في الرياض بدلاً من اختيار تشكيلة جديدة لوراثة العرش».
معهد المشروع الاميركي تناول شخصية «ولي العهد محمد بن نايف،»، محذرا من انّ الأخير يحسب على «التيار الطائفي المتشدّد ورجعي بامتياز حينما يتعلق الأمر بإدخال إصلاحات». واضاف ان الملك المقبل محمد بن نايف «اثبت استعداده لخوض حرب طويلة الأجل بدلاً من البحث عن ايجاد حلّ لوباء سرطاني يجتاح الشرق الاوسط برمته».
سباق التسلح في الخليج
اعتبر مركز الدرسات الاستراتيجية والدولية انّ شغف الدول الخليجية بشراء أحدث الأسلحة يعود إلى تثبيت فرضيتها بأنها «بمجموعها تشكل حصناً منيعاً أمام التمدّد الإيراني… كما انّ الحقائق تشير الى تفوّق حاسم لدول الخليج تسليحياً مقارنة مع ايران في مستويي حجم الإنفاق العسكري ونوعية الأسلحة واستيراد التقنية العسكرية». ودغدغ المركز غرائز دول الخليج بالقول: «من أهمّ المفارقات هو تنامي مدى التطوّر الدقيق في اسلحة دول الخليج العربي وكذلك في تقنية الاسلحة الرديفة… بينما تواجه إيران قيوداً كبيرة على جهود تحديث قواتها العسكرية…»
سورية
حذر معهد المشروع الاميركي من اعتبار تراجع سيطرة الدولة السورية على بعض المناطق الشمالية بأنه يعبّر عن «انخفاض السيطرة» المركزية على سورية، موضحاً «انّ اختلال ميزان السيطرة ضدّ الرئيس الأسد يعني حتماً انّ جبهة النصرة في صعود، وهو أمر مقلق». وشدد على انّ «انجازات المعارضة الاخيرة من غير المرجح استمرارها نظراً إلى التصميم على استعادة الدولة لأراضيها. واعتبر المعهد انّ الرئيس اوباما وأركان ادارته «لا يدرك بتاتاً ماهية الخطوة المقبلة… وغضّ الطرف عن إفلاس عدو عدوي وضيق الأفق السياسي العالمي». وسخر من دور السعودية الجديد «ورغبتها في ان تلعب دور مدير ناجح للحفاظ على المصالح الأمنية القومية لاميركا»، معتبرا انّ استعادة الاستقرار في سورية «امر بعيد المنال».
مستقبل الصراع «الاسرائيلي الفلسطيني»
حذر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية من استمرار الرهانات السياسية على «التوصل الى حل دائم»، نظراً إلى التطورات والتغيّرات الجارية داخل معسكر كلا الفريقين. واوضح انّ الرواية المعلنة بانّ «المفاوضات قد تسفر عن إيجاد حلّ للصراع وانشاء دولة فلسطينية مستقلة ادّت الى اللامبالاة عند البعض وتجدد الحماس لدى البعض الآخر». كما حذر المركز من «زيادة انخراط بعض الدول الاوروبية في الصراع بينما تتخذ موقفاً انتقادياً من اسرائيل».
ايران
ناشد مركز السياسة الأمنية المفاوض الاميركي الانسحاب من المفاوضات النووية مع ايران نظراً «لاستيلائها على سفينة كانت تبحر في مضيق هرمز». وحذر بالقول انّ «مسلك الحكومة الايرانية في هذا الأمر اضحى على ما هو عليه قبل توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات، فماذا علينا رؤيته منها بعد الاتفاق». واوضح انه اضحى «جلياً للعيان مدى استماتة الرئيس اوباما ارساء إرث خاص به عبر الاتفاق النووي مع ايران مما يقود اركان ادارته إلى الموافقة على ايّ مطالب ايرانية وغضّ الطرف عن مسلك ايراني رديء بغية التوصل للاتفاق النووي». واضاف ان «الشعب الاميركي ضاق ذرعا» بسياسة الرئيس اوباما «ويعوّل على الكونغرس لفرض نظام مراقبة على سياسة الادارة وديبلوماسيتها النووية الحمقاء مع ايران».
آلام العنصرية تنفجر في أميركا
جذور الممارسات العنصرية تمتدّ الى بدايات تشكل النظام الرأسمالي العالمي، في القرن الخامس عشر. لم تتراجع وتيرتها في اميركا بل تسارعت وتطورت بفضل وفرة التقنية الحديثة لتوثيق جرائم اعتداءات الشرطة في السنوات القليلة الماضية على المواطنين العزل. تتواتر حوادث «انفجارات» تجري في أحياء سكنية مهمشة، يقطنها بغالبيتها العظمى السود والاقليات والمضطهدون في المجتمع الاميركي. الانفجار في كلّ مرة يستهدف مؤسسات النظام، أجهزة الشرطة في هذه الحالة، ومصالح اقتصادية يملكها كبار المستثمرين، مما يؤشر على وعي فطري لفروق مداخيل الطبقات.
ما جرى في مدينة بلتيمور الساحلية هو حلقة في سياق حلقات متأصّلة في طبيعة النظام السياسي والاقتصادي و«نتيجة حرمان الاميركيين من اصول افريقية حق المشاركة في تقرير المصير»، وفق توصيف الأخصائي في علم الاجتماع دارنيل هانت، وبعيدة كلّ البعد عن الروايات الاعلامية المتداولة التي تحمّل الضحية مسؤولية ما جرى. للتوضيح، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» رواية تفيد بأنّ الضحية في هذا الحادث، الشاب فريدي غراي، قام بإيذاء نفسه بنفسه خلال فترة اعتقاله في سيارة ترحيل للشرطة. سرعان ما تمّ تفنيد المزاعم التي لا تخدم الا الجاني رجال وجهاز الشرطة ولم تتراجع او تعتذر الصحيفة عن فعلتها الغير بريئة.
قبل بلتيمور جرى توثيق عدة حوادث مأساوية أشهرها مدينة فيرغسون، بولاية ميزوري، تلتها اشتباكات في مدن اخرى أهمّها مدينتي لوس انجليس ونيويورك، وستتبعها حوادث واشتباكات اخرى ربما اشد شراسة وحدة.
عنف الشرطة والفقر ولدا الانفجار
ترتبط سلسلة الحوادث والاشتباكات بعوامل ذاتية وموضوعية بارزة، ما تلبث ان تشعلها شرارة قد تبدو حادثة عرضية عند البعض. تتميّز معظم الاحياء التي يقطنها فقراء السود بإهمال عميق من السلطات المحلية وتراجع مستويات توفير الخدمات الاساسية، وإغراقها بحوانيت لبيع المشروبات الروحية، ومراكز لصرف الشيكات، وبقاء العديد من البنايات والاماكن مهملة ومهجورة. هذا فضلاً عن مستويات عالية من البطالة تتجاوز 50 في المئة من الشباب في عدد من المدن. تلك كانت طبيعة الحيّ الذي اندلعت فيه المواجهات مع جهاز الشرطة في بلتيمور.
تسابقت مرافق المؤسسة الحاكمة، ممثلة بالأجهزة الإعلامية الكبرى، لتغطية الاشتباكات والتركيز على ما اقترفته ايدي المحتجّين مهما كان طفيفا. وعملت بوعي منظم لإبعاد شبهة المسؤولية عن جهاز الشرطة وممارساته القاسية والعنصرية ضدّ المواطنين المهمّشين. بل برعت في تركيز تغطيتها المكثفة على مشاهد الانفلات ونهب بعض المؤسسات التجارية، وابتعدت عن مجرّد ذكر خلفية ما دفع رجال الشرطة إلى ارتكاب جريمة قتل شاب اسود أعزل شوهد هارباً من ملاحقة الشرطة.
الاستاذ الجامعي هانت، وآخرون ايضاً، فنّدوا اسطورة العدالة والمساواة الاميركية التي عمّمت التهميش والفقر قائلاً: «لدينا رئيس اسود لكن معظم الاميركيين السود يعانون حالياً من سوء الاحوال الاقتصادية اكثر مما كانوا عليه قبل 20 عاماً.
نادراً ما يتمّ تناول العلاقة المشحونة بالشكوك بين اجهزة الشرطة، بشكل عام، والمواطنين السود بشكل خاص والاقليات ايضا. توضح الكاتبة باتريشا فيرنانديز-كيلي، واحد سكان أحياء بلتيمور المهمشة، تلك المعاناة بالقول: «ينشأ الفقير في دولة تعدّ من اغنى دول العالم ويستدعيه للتعامل اليومي مع ممثلي الدولة، وهي تجربة تختلف بشكل كبير عن مثيلتها لدى السكان الافضل حالاً». وتمضي بالقول انّ شاباً اسود تمّ الاعتداء عليه بالضرب من قبل رجال شرطة المدينة لأنه رفض الجلوس قرفصة على الارض عندما داهمه رجال شرطة بلباس مدني، بعدما اشترى حصته من عشاء يومه…»
احد شبان حي بلتيمور السود من المحتجين أخبر طاقماً من الصحافيين ان «الجيل القديم المسالم لا يدرك حقوقه، لن نتخذ مقعداً خلفياً بعد الآن. لا نريد العيش كما تعوّدوا هم عليه. انظروا حولكم، سيكون مستقبلنا افضل». اشارت صحيفة «بلتيمور صن» الى مدى عسكرة جهاز شرطة المدينة اذ تلقى «منحة أجهزة ومعدات قيمتها نحو نصف مليون دولار من ترسانة وزارة الدفاع… تضمّنت عربات مضادّة للألغام واخرى مدرّعة ومعدات لمكافحة الشغب، وأجهزة لتتبع الهواتف الشخصية».
كشف جهاز شرطة المدينة عن بدء العمل في «مركز المراقبة»، لجمع معلومات استخبارية من كافة أحياء المدينة، نهاية العام الماضي. في تقرير لشبكة ايه بي سي للتلفزة، اوضح انّ معدات المركز المتطوّرة تتيح لمسؤولي الشرطة مشاهدة كافة اشرطة كاميرات المراقبة الموضوعة في مختلف نواحي المدينة تتبع وتحديد مكان تواجد نشطاء الوسائط الاجتماعية، وتسخير تلك المعلومات لرسم تضاريس مخطط حركة الوسائط الاجتماعية في المدينة بأسرها.
الاشتباكات مع الشرطة ضمّت مؤخراً ميليشيات عنصرية من البيض، أحدثها الاسبوع الماضي في منجم «شوغر باين»، بولاية اوريغون في اقصى الغرب الأميركي . استقدمت الميليشيات قوات حليفة لها من عدة ولايات وحشدتها في مواجهة «هيئة ادراة الاراضي» الفيدرالية التي تسعى للسيطرة على مساحات شاسعة ووضعها تحت إدارة الدولة المركزية. في مناطق أخرى جنوبي الولايات المتحدة تجري وزارة الدفاع مناورات عسكرية، قمة الأحجار الكريمة 15، والتي ينظر اليها سكان المناطق القريبة بعين الريبة والشك من نوايا البنتاغون لمصادرتها وإعلانها منطقة عسكرية. الأمر الذي استدعى حاكم ولاية تكساس إحضار قوات الحرس الوطني التابع لأمرته في الولاية وتكليفه بتتبّع ومراقبة نشاط البنتاغون هناك.
أحداث المنجم بدأت قبل نحو أسبوعين عقب تحذير لعماله صادر عن هيئة الأراضي وتطلب منهم التوقف عن العمل وتفكيك معدات الحفر، في صراع قضائي طويل تزعم بموجبه الهيئة انّ ما فوق المنجم لا تعود ملكيته لشركة التنجيم. وصعّدت الهيئة تهديداتها معلنة عن نيتها اقتحام المكان، الأمر الذي حفز مالكه الاستنجاد بعدة ميليشيات يمينية، بعضها شارك في احداث مزرعة بندي، نيسان 2014، والذي أسفر عن تراجع الهيئة وعودتها خالية الوفاض.
الرئيس السابق لجهاز شرطة نيويورك الضخم، كيفن كلارك، اصدر تحذيراً علنياً للمسؤولين في المدينة يحثهم على الاستفادة من دروس الاشتباكات الأخيرة في فيرغسون وبلتيمور، والتي «ستنتقل عدواها الى مدينة» نيويورك لا محالة. وأضاف في تصريح لشبكة تلفزيون «نيوز 1» ان استمرّ المسؤولون في تجاهل الأمر «والإبقاء على سذاجتهم المهنية بانّ المدينة لن تشهد اعتصامات مدنية تؤدّي الى اضرام النار في سيارات الشرطة ، ونهب المتاجر، حينئذ عليك الاستمتاع بمشهد بالغ السذاجة».
خيارات الأجهزة الرسمية
عززت الحكومة المركزية، عبر وزارة الأمن الداخلي واجهزة اخرى، إجراءاتها للحيلولة دون اندلاع الجولة المقبلة من الاحتجاجات، وتستعدّ لتشديد برامج تدريب قوات الحرس الوطني وتكليفه بمهمة إخماد الاضطرابات. ما لا يلمسه المراقب هو استدخال هيئات رسمية غير منوطة بمهام الأمن في توفير الإمكانيات المادية لتدريب فرق القوات الخاصة منها وزارة الزراعة مجلس أمناء السكك الحديدية هيئة تطوير وادي تنسي مكتب إدارة شؤون الموظفين الفدرالي لجنة حماية سلامة المنتجات الاستهلاكية الهيئة المركزية لحماية الأسماك والحيوانات البرية ووزارة التربية.
الانعطافات السياسية في موازين القوى، لصالح الحزب الجمهوري، حفزت بعض المسؤولين للنظر في استخدام القوات المسلحة لإخماد الاضطرابات الداخلية إجراء لم يطبّق منذ نحو 50 عاما. الكلية الحربية التابعة لسلاح الجيش الاميركي اصدرت دراسة مؤخراً تناشد فيها كافة فروع الأسلحة الإبقاء على درجة الجهوزية وتستعدّ لتنفيذ أوامر تقتضي قيامها بمهام السيطرة على الاحتجاجات المدنية في الداخل الأميركي انْ تطلب الأمر.
نشر أحد الصحافيين المخضرمين، كريستوفر هيدجيز، ملخصاً لما تضمّنه تقرير الكلية الحربية من خشية انفلات الوضع الأمني والتحذير بالاستعداد لمواجهة وإخماد «أعمال عنف ونوازع تفكك استراتيجي في الداخل الاميركي… والتي قد تتمّ إثارتها عبر انهيار اقتصادي غير منظور او مقاومة داخلية منظمة تفشي حالات الطوارئ في جهاز الرعاية الصحية او غياب فعالية المؤسسات السياسية وبسط الأمن انتشار العصيان المدني مما يستدعي المؤسسة الدفاعية لإعادة ترتيب أولوياتها في مواجهة موت محقق والدفاع عن النظام العام والأمن الانساني».
تضخم أجهزة الدولة المركزية، لا سيما الأمنية والمراقبة، منذ ولاية جورج بوش الابن والى عهد أوباما الحالي عززت مشاعر عدم الثقة بالخطاب الرسمي شملت قطاعات واسعة وتيارات سياسية وعرقية متعدّدة. الانتخابات النصفية الاخيرة، 2014، أكدت تنامي حجم الابتعاد عن الثقة العمياء بالحكومة، اذ أعربت نسبة لا تتعدّى 20 في المئة من مجموع الناخبين عن بقاء ثقتها في الأجهزة الحكومية لأداء واجباتها على أكمل وجه، مقابل 79 في المئة عارضوا ذلك.
في قراءة معمّقة لنتائج عدة استطلاعات للرأي تبين ان 54 في المئة من الشعب تعتبر الحكومة المركزية بأنها تشكل تهديداً للحريات الفردية بدلاً من حمايتها من كلّ سوء مقابل 22 في المئة لا زالت ثقتهم مستمرّة بالحكومة. عند حسبان النتائج وفق التصنيف العرقي، وهو عنصر أساس في آلية عمل كافة الأجهزة الحكومية، ترتفع نسبة الشك بين صفوف السود والاقليات الاخرى. حالة لقاء استثنائية جمعت بين البيض والسود في مسألة حق الفرد باقتناء السلاح، اذ لوحظ مناداة بعض المجموعات السوداء النشطة بضرورة اقتناء السود لسلاح ايضاً.
العنوان لا يرمي إلى مفاجأة البعض، بل التعبير عن حالة قائمة لعلاقات وثيقة بين الأجهزة الأمنية «الإسرائيلية» وأجهزة الشرطة الاميركية المختلفة، والتي كشف بعض النقاب عنها في أحداث صدامات مدينة فيرغسون مع نهاية العام الماضي.
في مطلع شهر تشرين الثاني لعام 1999 كشف «متحف الهولوكوست» في مدينة واشنطن العاصمة عن دورة توعوية لجهاز شرطة مدينة بلتيمور، يمتدّ ليوم واحد، يستضيف فيه رجال الشرطة «لإضفاء بُعدٍ ابداعي لبرامج تدريب الجهاز»، والتركيز على عامل العنصرية في مسلك الشرطي. المتحف أضاف انه ينوي تكرار الدورة لتشمل «أجهزة فيدالية واخرى تتبع الولايات والمجالس المحلية» لتدريب رجال الشرطة. برنامج ظاهره بريء، لكن ما علاقة الشرطة الاميركية ومهامها في حفظ الأمن وحادثة من حوادث الحرب الكونية قبل ثلاثة ارباع القرن.
تلقى جهاز شرطة بلتيمور عقب ذلك دعوة «لزيارة اسرائيل». المؤلف الاميركي المثير للجدل، ماكس بلومنثال، اوضح يوم 29 نيسان ان اعضاء شرطة بلتيمور قاموا بزيارة «اسرائيل» في شهر ايلول 2009 تلبية لدعوة من منظمة يهودية تدعى «مشروع التبادل». هناك، تبادل الاميركيون «ونظراؤهم الاسرائيليون» المعلومات المتوفرة حول افضل السبل والمعدات التقنية المتوفرة في مجال «الأمن ومكافحة الارهاب». واضاف بلومنثال انّ جهاز شرطة بلتيمور زار «اسرائيل» مرة اخرى بدعوة نظمها «المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي»، رمى قيام الجهاز الاميركي تدوين ومشاركة «الدروس المستفادة من الدورة في اسرائيل»، مع اقرانهم الآخرين في الاجهزة الأمنية الاميركية.
الدروس المستفادة أوضحتها النقابة الاميركية للحريات المدنية الشهيرة في تقرير استعرض مسلك جهاز شرطة بلتيمور بين اعوام 2010-2014، قائلاً انّ الفترة الزمنية شهدت مقتل نحو 109 أشخاص في مواجهات مع أجهزة شرطة الولاية المختلفة، 70 في المئة من الوفيات كانت بين السود، 40 في المئة من الوفيات كانوا عزلاً من السلاح. الأمر الذي «اضطرت» فيه سلطات بلتيمور المحلية، بما فيها جهاز الشرطة، إلى دفع تعويضات مالية لعائلات الضحايا بعد إدانة الشرطة بضرب الضحايا ضرباً مبرحاً دون سبب، وبلغت 5،7 مليون دولار. يشار ايضاً الى انّ الغالبية من أعضاء جهاز شرطة المدينة لا يقيم فيها، بل يقطن مناطق أخرى قريبة وبعيدة عنها.
بلتيمور مقدمة لأحداث مقبلة
انتشرت التظاهرات التضامنية مع سكان بلتيمور في عدد من المدن الاميركية، لا سيما المدن الكبرى القريبة منها، اسوة بما شهدته التظاهرات عقب أحداث فيرغسون نهاية العام الماضي، لتفند مزاعم السلطات بأنّ تلك الأحداث استثنائية ومعزولة ولا يربطها ببعضها ايّ علاقة.
يشار في هذا الصدد أهمية توقيت التضامن مع بلتيمور الذي يصادف الذكرى الثالثة والعشرين لحدث جلل أصاب مدينة لوس انجليس، عام 1992، حين اعتدى اربعة رجال شرطة مدجّجين بالأسلحة على مواطن أعزل، رودني كينغ، تلاه تبرئة المحكمة لرجال الشرطة، أعقبته تظاهرات صاخبة واخرى تضامنية في العديد من المدن الأميركية.
استاذ التاريخ في جامعة هيوستن بولاية تكساس، جيرالد هورن، يعزو الأساليب العنفية والاضطهاد الذي تتعرّض له الأحياء السكنية ذات الأغلبية السوداء على أيدي رجال الشرطة الى العنصرية المتأصلة في النفوس، بل انها تسكن عميقاً في إرث اقتناء الرقيق، والذي لم تنجح كافة السياسات والبرامج في القضاء عليه. وأوضح انّ «أصول إدارة إجهزة الشرطة في المناطق الحضرية تكمن في بعد العبودية بالضبط… ايّ استعادة لمشهد الدوريات الأمنية المختصة باستجواب الرقيق والتحقيق مع الافارقة» آنئذ.
ما لم يستكمله الاستاذ الجامعي والخبير بنضالات السود هو الاشارة الى مساعي أجهزة الشرطة الحثيثة لتجنيد مخبرين واختراق النشطاء بين السكان، والتركيز على مراقبة وتعقب العناصر القيادية لاستهدافها لاحقاً، وزرع بذور الفتنة عبر اولئك ليقومو بنشاطات تخريبية تنسب للمحتجّين. بعضه تجسّد في بلتيمور ومدن اخرى. على الضفة المقابلة، قام عدد من النشطاء بعمليات استطلاع لمقرّ جهاز شرطة بلتيمور، مما يعزز التوقعات بأنّ تأجيج الاحتجاجات قائم على قدم وساق يتضمّن الدخول والسيطرة على مقرّ الجهاز الأمر الذي سينجم عنه مجزرة مروعة بكلّ المقاييس تستفيد منه الشرطة والأجهزة الرسمية بالدرجة الاولى.
تتالت روايات جهاز الشرطة ودفعت بها سريعاً لوسائل الإعلام التي تلقفتها وبنت عليها سيناريوهات واستنتاجات تصبّ في خدمة الأجهزة الأمنية. احدى الروايات المتداولة تكاد «تجزم» بتوفر معلومات مؤكدة للشرطة تفيد باستعداد «أعضاء العصابات إطلاق النار على رجال الشرطة». الثابت في بعض مظاهر احتجاجات بلتيمور توزع المظاهرات باشتراك أعداد قليلة في عدة أحياء من المدينة بتوقيت موحد بهدف تشتيت جهود الشرطة. الأمر الذي يدلّ على تخطيط مدروس للقيام بهجوم كبير يعقب التظاهرات المتعددة.
الاجهزة الرسمية تتعمّد التعتيم على «البراهين والادلة»، انْ وجدت. ولذا تتعسّر جهود الحكم على أحقية المزاعم من عدمها. الثابت ايضا انّ الظروف القاسية التي أشعلت حرائق الاحتجاجات لا زالت حاضرة دون توجه حقيقي لمعالجتها، خاصة انها ليست حديثة الولادة، بل تمتدّ الى عصر العبودية والرقيق. ويبدو تحرك الادّعاء العام السريع نسبياً لتوجيه تهم إجرامية بحق 6 من اعضاء الشرطة في بلتيمور محاولة احتوائية لامتصاص النقمة المتصاعدة من السكان الغاضبين على انتهاكات الشرطة.
مؤشرات ينبغي النظر إليها
الاحتجاجات التي شهدتها بلتيمور ومدن أخرى شبيهة لم يسجل فيها مشاهدة او استخدام السلاح من قبل المحتجين. في المقابل، الميليشيات اليمينية مدججة بالأسلحة بعضها مصمّم لخوض الحروب. ظروف تلك الميليشيات ناضجة بدرجة كبيرة للتصادم المسلح مع الأجهزة الرسمية، وتلقى دعماً لا بأس به من قبل صقور الحزب الجمهوري وممثليه في الكونغرس، الأمر الذي يفسّر بعض الشيء تلكؤ وتردّد تلك الأجهزة في مواجهتها وتجريدها من السلاح.
القوى السياسية المناهضة للحروب، بكلّ تشكيلاتها وتوجهاتها، تنشط في استمرار ظاهرة الاحتجاجات وامتدادها على عدة مدن وتجمّعات حضرية. مدينة نيويورك كان لها نصيب كبير من التظاهرات التي القي القبض فيها على نحو 100 عنصر عقب اشتباكات جرت مع رجال الشرطة وسط المدينة، الذين يؤدّي تواجدهم الكثيف الى مفاقمة الاحتجاجات وخروجها عن رسالتها السلمية.
تتزايد مطالب القيادات الشبابية بين السود للتزوّد بالسلاح، كما أسلفنا، مما يعدّ خروجاً على ظاهرة الاستكانة والخنوع التي فرضت عليها عبر أساليب متعددة، شملت احتواء البعض والانخراط في المؤسسات التجارية طمعاً في تحقيق مكاسب ذاتية.
تتزايد ايضاً مظاهر استطلاع يقوم بها النشطاء لمقرات حكومية، بعضها حقيقي وبعضها الآخر تكتنفه المبالغة، بيد أنه من المرجح انتشار الظاهرة في المدن الأخرى كانتشار النار في الهشيم. احتجاجات بلتيمور دلت على الأفق المحدود لأجهزة الشرطة، مما استدعاها طلب مزيد من القوى الداعمة من دوائر الشرطة في المناطق المجاورة، من بينها شرطة العاصمة واشنطن التي أوفدت ما لا يقلّ عن 50 شرطياً مدجّج بالسلاح لقمع الاحتجاجات.
تضخمت أعداد الميليشيات اليمينية مؤخراً، وتقدّرها بعض المراكز البحثية بانها تتراوح بين 100.000 الى 200.000 عنصر. ساحات اشتباكها لا تضمّ المدن واحياءها المختلفة، بل مناطق جغرافية شاسعة ومتباعدة، مما ينذر بمواجهات قاسية وطويلة حين اندلاعها.
ماذا في وسع السلطات القيام به او التحضير له. بعض الجواب يقدّمه المفكر الأميركي المرموق، بول كنيدي، في مؤلفه الشهير «صعود وسقوط الحضارات»، اذ ينبئ بتردّي الاوضاع وترهل الدولة نتيجة «فرط التوسع الاستراتيجي».
تردّي الاوضاع الاجتماعية واتساع الهوة في الفرص والمداخيل الاقتصادية تلاحق النظام القائم، وتثبت عجزه المرة تلو الأخرى عن اجتراح الحلول لها، بل مفاقمتها. يضاف إلى ذلك البعد العنصري المتأصّل وتصدّر خطاب المتشدّدين انصار «السوق الحرة غير المقيّدة بلوائح وقوانين»، لتتشكل لوحة تنذر بهزات اجتماعية مقبلة قد لا ننتظر طويلاً معاينتها.