القلمون… عمق استراتيجية الجغرافيا والتاريخ…!
بعد طرح الأب الروحي لشؤون «الجيوبولتيك» نيوكولاس سبايكمان، تحليله الشهير في منتصف القرن الماضي، والذي يُعتبر قاعدة متبعة من جانب الكثير من الاستراتيجيين تتخلص في أنّ من يحكم حافة اليابسة مع الماء فهو يحكم العالم، فهي نقطة الإرتكاز الجغرافي التي أهتمّ بها الكثير من قادة ودول العالم، ومنها الصين التي تعمل لإعادة الشؤون الجيوبولتيكية إلى كلّ آسيا، فقد كانت الجغرافيا هي التقليد الأول لعظمة الحضارات التاريخية التي أمتدّت إلى البحر المتوسط والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو الطريق الذي اتبعته التجارة والحضارة والحروب لأكثر من ثلاثة آلاف عام، فنقطة الجغرافيا الممتدّة إليه عبر القلمون كانت هي معبر الغزوات المختلفة الاتجاهات، والتي عبر منها الفينيقيون في حضاراتهم التي امتدّت من البقاع اللبناني إلى شمال الأردن وصولاً إلى اختراق فلسطين في الألف الثاني قبل الميلاد، والتي شهدت على مدى سنين حتى يومنا هذا غزوات ذكر منها «الوافدي»في كتاب «الصوائف»أنّ غزوة «دومة الجندل»هي أولى الغزوات التي شهدتها بلاد الشام والتي استمرّت بجانب غزوات بشكل متجدّد عبر جبال القلمون والنبك وبعلبك وصولاً إلى المتوسط الذي حمل غزوات الرومان واليونان من قبل…
هو القلمون مجدداً الذي يُعتبر العمق الاستراتيجي للمقاومة وطريق سلاحها من سورية في البقعة الممتدّة بين المصنع وبعلبك وما تمثله هذه المنطقة من شرائح شعبية مساندة له، أعتبرتها «القاعدة»وتفرّعاتها من «نصرة»و داعش»وغيرها من التشكيلات التي تقف وراءها تركيا والسعودية و إسرائيل»حاكماً أساسياً، فضلاً عن أنها تُعتبر التحوّل القوي في موازين القوى، فهي الطريق النموذجية لعبور التجارات والأسلحة، فهي «تورا بورا»لبنان وسورية التي ماثلت في أهميتها بالنسبة إلى «القاعدة»أهمية «تورا بورا»الأفغانية في كانون الأول 2001، ومن شأنها تغيير وجهة الصراع القائم في المنطقة وصياغة خرائطه الجيوسياسية التي تكون فيها «إسرائيل»وأميركا في مركز القيادة والسيطرة، فهذا ما دلت عليه معركة القصيْر في عام 2013، والتي كان مرسوماً لها تمكين «الإخوان المسلمين»بقيادة تركية ـ قطرية، والوهابية بقيادة سعودية، من لبنان إلى الشرق السوري، والتي ترسم جغرافيتها سيناريوهات متصلة بمعركة القلمون التي يُنظر إليها كجبهة جديدة قديمة تحوّل مسار الأحداث، بعدما خسرت القوى التكفيرية خط إمدادها إبان معركة القصيْر وتلكلخ، لأنّ القلمون هو سلسلة تُعتبر مدخل دمشق الرئيسي من جهة الغوطة الشرقية وهي أقرب نقطة تربط بين حمص ودمشق تمتدّ من عرسال إلى بعلبك المحاذية والتي يحتاج المحور المقاوم التمركز فيها لتخفيف التأثير الداخلي للمعارك وإقفال طريق السلاح والمسلحين إلى القرى الحدودية اللبنانية ـ السورية، التي تربط القلمون بجبل الشيخ عبر فتحة المصنع التي سعت «إسرئيل»منذ حرب 1967 وحرب تشرين 1973 إلى امتلاكها، تزامناً مع إشعال الحرب اللبنانية في نيسان عام 1975، وبعدها عدوان 1976 والذي على آثره دخل الجيش السوري إلى منطقة البقاع لأهميتها الاستراتيجية في الصراع العربي ـ «الإسرائيلي ، وهي الأهمية نفسها التي جعلت اتفاق الطائف عام 1990 يشرّع بقاء الجيش السوري في البقاع اللبناني.
والحال أنه إذا تمكنت مجموعات الإرهابين التكفيريين من السيطرة على هذه المنطقة، فهذا يعني امتداد اليد التركية ـ «الإسرائيلية»إليها، وبالتالي ستعمل إسرائيل على إنشائها كحزام أمني يُلغي معادلة الردع التي نتجت في مزارع شبعا وصولاً إلى أطراف السويداء ودرعا والقنيطرة والالتفاف حول جبل الشيخ لبنانياً وسورياً، والذي يبعد عن المصنع نحو 15 كم، وهي الثغرة المطلوب «إسرئيلياً»للقفز عبرها للاقتراب من الزبداني وتخوم دمشق لقطع الاتصال بين سورية ولبنان وفصل المقاومة عن المحيط الاستراتيجي الذي كلما اقترب من «إسرائيل»ارتفعت القيمة الاستراتيجية له عندها جغرافياً وعسكرياً، وهذا ما يعطي معركة القلمون أهمية استراتيجية تتجاوز كونها عمقاً استراتيجياً لمنظومة القوة العسكرية لدى حزب الله وسورية، فهي عمق جيو ـ سياسي مهمّ يحصّن ميزان الردع ويسهّل حركة ميزان القوى الذي يُسّرع انتقال الحرب في سورية نحو الحسم في باقي المناطق التي ترتبط مصلحتها الاستراتيجية بشرايين الحياة التي تمتدّ من حمص إلى الساحل إلى الشمال والجنوب، وهذا ما يجعل حلف المقاومة يستخدم لها تقنيات وأسلحة مناسبة ذات مرونة تُسهم في تصفية عشرات المسلحين المرتبطين بشكل وثيق مع «إسرائيل»وتركيا على الضفاف القلمونية والتي سيشكل حسمها محواً استراتيجياً واضح المعالم والملامح لتأمين قوة ضخمة من الجيش العربي السوري المقاتل والمدعوم من المقاومة الذي سينتقل إلى باقي الأجنحة في حمص وحماه وإدلب والجنوب، والذي يفرض تعزيز الأوراق السياسية خارج حدود الدولة، والتي تبلور صيغ الاتفاقات المقبلة التي تضع الدفة بيد الجيش السوري الذي سيكون المطرقة التي تكسر معادلات الحلف السعودي التركي «الإسرائيلي»وتغلّب بدائل تضع سيناريوات تحسم كلّ اشكال المواجهة الممتدّة من المقاومة إلى سورية وطهران ومنها إلى موسكو في تغيير جوهري لموازين القوى الإقليمية والعالمية.