هي تدمر… كوجهٍ في مرآة
د. منير سعيد مهنا
لم أكن أعلم أنّ في كثافة الحبّ من البوح ما يجعل الأسرار تشّعُ. وكنت أمامها كوجهٍ أمسكه الحلم الذي أذابه النهار، فسَالَ في الريح وأشتعل في الضياء المشلوح على الرمل هناك. وكنت أنتظر أن أصبح مرئياً، أنا المفتون بوجهها المنفيّ خلف الأصداء، المنسيّ كرائحة التراب قبل المطر.
وكانت تدمر تتغطّى بصدى الأيام التي عبرت وفي المدى حنين يتصادمُ على أعمدة الهياكل، صلاةٌ ترتفع من معبد «بل» كبير الآلهة، وترانيم ترتحل بلا نهايةٍ في كلّ الجهات، لتعودَ في نشيدٍ أبديّ يردّده الكهنة في صلاتهم بصوتٍ جهوريّ يقول: «هبْ نفسكَ للحياة ترتفع، كُلُّ ذاتٍ لا ترى إلّاها عمياء. لا تَكْسل في النومِ تموت ارتفعْ، فوق أسمالِ الظلال يراكَ الحقّ، دع الحقيقةَ تنظرُ إليك فتعبُر إليها الجسدُ أرضٌ جدباء بلا ماءٍ ومحراث، اصغِ إلى صمتك قبل أن تتكلم، من يتكاثَرْ يتناثَر، كنْ واحداً في الواحد الأحد».
وأمام معبد آخر، كان أسد «اللآت» منتصباً، وبين يديه يحتمي غزال برّي، وعلى مسافة منهما معبد الربّ «نبو» ابن الربّ «بل»، وأمين سرّ مجمّع الأرباب الذي كان مولجاً بمصائر البشر. وفي قلب المعبد الذي تمتدّ أمامه وعلى جانبيه الأروقة، باحة غير مبلطةٍ بل مفترشة بالتربة القاسية على طول المسافة التي توصل إلى ماء البركة المقدّسة، حيث كان الكهنة يتطهرون قبل دخولهم إلى الحرم المحمول باثنين وثلاثين عموداً من الطراز الكورنثي. وعلى الدرج المؤدّي إلى داخل الحرم، هناك كان الكهنة يردّدون أيضاً: «المجد للذي بورك اسمه إلى الأبد الرحمن الرحيم الطيّب» 1 .
هناك وقفتُ معهم، ردّدتُ الدعاء نفسه، بينما الشمس كانت تحتجب بين الظلال لتصيرَ مثل ثقب يطلُّ من السماء، كان الدربُ يفتح باب الأشياء في بياض النهار الذي يغيب. وحدها الأيدي المرتفعة بالصلاة كانت تلامسني وتدعوني إليها.
الرملُ يتمتم في فم الريح التي هبَّت فجأةًَ من عاصفة تتثاءب، ومع حرارة لطيفة سمعتها تقول: «أسرع قبل أن تنطفئ في كثافة التراب». لم أكن أجهل الدرب، لكنني لم أستطع أن أنفصل عن الحجارة المستلقية في ثبات، كنت ملتصقاً بالمكان كوجه في مرآة، كنت أكتشف انبثاق النور من النار قبل أن تصير النار رماداً.
النارُ التي توقظ اللامرئيّ من رحم الذاكرة قبل أن تولد الأحلام. النار التي تمنح الظلمة عينين، وتُكسي الليل البارد بوشاح الدفءِ بعد الهجير. النار التي تغمر أطياف العابرين في صلاتهم إلى حرارة العشق والأمنيات.
كانت النار باباً يتلألأ بالتوهّج، وكنتُ فراشةًَ يغويها حنين القيامة. كنتُ في زمنٍ يخبّئ الضوء بين حرفين، «كاف» الكمال و«نون» النهاية، وبين الحرفين أصبحت «واو» الوجود الذي صار كوناً.
ولم أتردّد في السير خلف رحيق الضباب، قادتني رائحة الألوان إلى معبد «بعلشمين»، سيد السماوات وإله المطر والخصب في تدمر، أقواسُ قزحٌ تتراءى فوق أطلال المعبد الذي تحوّل إلى كنيسة، ومكثتُ أراقبُ الصوت الذي يدّب في عُري التحوّلات، الكلام المبحوح ما برح ينطقُ بأسماءٍ لا تنتهي في الموت. من هنا مرَّ الإمبراطور «هادريان»، وفي الرواق أهلُ تدمر يمدحون مليكهم «أذينة» على زينة المعبد من فضة وذهب بينما تقف ببهائها وإلى جانبه «زنوبيا» العظيمة، والكلُّ يهلّلُ للسيد الكريم «مالئ بن يرحاي» على تبرّعه السخيّ لبناء أعمدة الرواق الشمالي الكبير. ليتصاعد مع التهليل صوت الأسقف «ماران» أمام مذبح الكنيسة المقدّس معلناً: «المجدُ للآتي، المجدُ للآتي».
هكذا كانت أناشيد الروح تسطع في ألوان الجهات، تؤنس تعب المكان الذي استراحَ بين التلال، وحدها الأعمدة التذكارية ما زالت واقفةً بلا تعب، أحدها يقول 2 : «هذا تمثال سلام اللآت بن يرحبولا بن نوربل الملقّب بدعبل التدمري من قبيلة بني معزين، وقد أقامته له هذه القبيلة لأنه قام بأعمال كثيرة لفائدتها، وكان صالحاً تقيّاً، بنى كثيراً من الأبنية، وقدّم عدداً من التقديمات، وأنفق مالاً كثيراً، لذا أقيم العمود والتمثال على شرفه في شهر شباط سنة 64 ميلاديّاً».
وحدها تدمر تملك أسرار الومض بين الحياة والموت، تمنح عشّاقها فضاء النبض في خدر الزمن. في تدمر يرى المرء غبطةَ التلاقي بين الصحو والمحو. تناديه رقّة الرمل الجامح في التواه فيهفو إلى سكينة الظنّ أنه في اليقين.
1ـ ترجمة لكتابة آراميّة تدمرية مؤرّخة عام 131 ميلادياً، موجودة على أحد أعمدة المعبد.
2 ـ ترجمة لكتابة آراميّة تدمرية موجودة على أحد الأعمدة التذكارية مقابل معبد «اللآت».
mounir064 hotmail.com