قضماني: المبالغة كارثة حقيقية وصلت إليها الدراما وخصوصاً أعمال البيئة الشامية
آمنة ملحم
شفاه مدجّجة بأحدث ألوان الماكياج، ورموش اصطناعية غزت عيون الشابات، مع ألوان شعر عصرية تواكب الموضة الحالية بإتقان، و«تاتو» الحواجب الذي أضحى أمراً بديهياً لا بدّ منه على الشاشات. هذه الصورة العامة المبدئية التي على المشاهد رسمها في ذهنه لأيّ فنانة قد يراها، فور اتخاذه قراراً بمشاهدة أحد الأعمال الدرامية، أيّاً كان نوعه أو غايته.
هذا الأمر استفز ذاكرتي، وجعلني أعود بالزمن إلى الوراء لسنوات خلت، عندما كنت لا أزال أخطّ ألف باء الصحافة على مقاعد الدراسة. حينذاك، وخلال محاضرة دراسية عن السيناريو، وفي بحر الكلام عن الدراما، تطرق أستاذي الجامعيّ إلى حديث الماكياج ومدى تأثيره على مصداقية الشخوص التي يرسمها، ونقلها بالصورة الصحيحة إلى المُشاهد. فحدّثنا عن تبحّر صنّاع الدراما سابقاً في أدقّ التفاصيل. ففي أعمال البيئة الشامية ذات مرة، امتنع «الماكيير» عن وضع «كونتور» الشفاه للفنانات، كونه لم يكن هذا الـ«كونتور» مكتشَفاً كمادة تجميلية في الزمن الذي يتطرّق إليه العمل. فأين أنت يا أستاذي اليوم من تلك الوجوه ذات الحداثة فوق العادية، والبهرجة «الفاقعة»، والتصنّع الشكلي المحتّم على الشاشات، والمستهجن غالباً في تلك الأعمال ذات صبغة البيئة الشامية التي تأبى بطلاتها إلا بالظهور بأبهى حلة، من دون أيّ اكتراث بمصداقية الدور المؤدّى، فتضيع وجوههن في «ماكياجهن»، وتضيع معه وجوه الشخصيات الدرامية التي قرّرن تجسديها في تلك الأعمال.
الماكياج الذي دخل عالم الدراما لصنع «كراكترات» للشخصيات المجسّدة مميّزة بعضها عن غيرها في كل عمل على حدة التكبير والتصغير، الشيخوخة والشباب، الشخصية الشرّيرة والشخصية الطيّبة، الشخصية المريضة والأخرى الحزينة أو السعيدة»، وأحياناً لتجسيد التشوّه الطارئ عليها بفعل أحداث العمل، نراه اليوم ـ نتيجة المبالغة في تجميل الوجوه ـ خارجاً في بعض الأعمال، وبشكل كلّي عن الغاية الأساسية التي وُجد من أجلها.
وهذا ما تؤكّده «الماكيير» السورية عبير قضماني، متخصّصة الماكياج في الدراما والسينما السوريتين، إذ تجد في تلك المبالغة كارثة حقيقية وصلت إليها الدراما، خصوصاً في أعمال البيئة الشامية.
وتنوّه قضماني بمهمة «الماكيير» الأساسية التي تبدأ من قراءة النصّ وفهم الشخصيات، ثمّ تصميمها ومناقشة المخرج حولها، لتتكوّن رؤية واضحة لدى الطرفين حول ماهية الشخصية. وبعد النقاش، يتّفق الطرفان على الشكل النهائي التي ستظهر به هذه الشخصيات في العمل.
ومن هنا، لا بدّ من القول إنّ «الماكيير» والمخرج يتحملان معاً مسؤولية الصورة التي تقدّم شخصيات أيّ عمل درامي على الشاشة. وبالتالي، إعطاء روح خاصة للمسلسل تميّزه عن المسلسلات الأخرى، إذ تزداد الحالة سوءاً مع تكرار الوجوه الدرامية ذاتها في عددٍ من الأعمال المقدّمة خلال الموسم الدرامي الواحد، فيكاد المشاهد يخلط بين عمل وآخر بفعل الماكياج المكرّر. إذ تأبى كثيرات من الفنانات الظهور إلا بأبهى حلة من خلاله، أيّاً كان نوع الشخصية التي تؤدّيها.
وبنظرة سريعة على مسلسلات البيئة الشامية المقدّمة حالياً، وعلى سبيل المثال لا الحصر «باب الحارة»، الذي صار سلسلة لا مبرّر لها سوى القاعدة الجماهيرية التي يستمرّ صنّاعه بالخوض فيه تحت ذريعتها، وكثرة الوجوه الأنثوية التي ترضي المال الخليجيّ. ههنا، نجد نساء الحارة الشعبية أيام الاحتلال الفرنسي جميعهن باستثناء قليلات، طغت عمليات التجميل على وجوههن، وغزت الألوان الفاقعة ملامحهن، و«السيليكون» محى ابتساماتهن عن الشفاه، من دون اكتراث المخرج إزاء صور تلك الشخصيات على الشاشة، ومبرّر بهرجتها في خدمة العمل.
وفي الأعمال التي تعتمد الجسد سِمةً أساسية لحكاياها، كـ«صرخة روح»، نجد الاستعراض والماكياج الفاقع يزيدان الطين بلّة، عبر زجّ الإيحاءات الجنسية وزيادة الإسفاف بالشخصيات عبر الماكياج.
وعلى الطرف الآخر، عندما تجد مخرجاً يحمل رسالة عمل دراميّ على أكتافه، ستجد الماكياج البسيط الصادق الذي تُمحى معه حتى آثار عمليات التجميل التي اقترفنها الفنانات بوجوههن في حياتهن الطبيعية. وهنا لا بدّ من التطرق إلى مسلسل «غداً نلتقي» الذي تكاد تخلو وجوه بطلاته من أيّ ألوان سوى ما قلّ منها، بما يتناسب مع الإضاءة بشكل عام.
كما نجح مسلسل «دنيا ـ 2» باستعادة «كاركترات» شخصياته بالتركيز على ماكياجات وملابس حافظت الشخصيات على ذكراها منذ 15 سنة، لتبقى استعادة الشخوص في الذاكرة حقيقية لا زيف فيها.
وأبدع «ماكيير» مسلسل «بانتظار الياسمين» في استخدام الماكياج لتصوير ملامح التشوّه التي غطّت وجه الفنانة شكران مرتجى على إثر حادثة احتراق تعرضت لها في حديقة النزوح التي تعيش فيها وفق ظروف الدور الذي تؤدّيه. بينما تنوّع استخدام الألوان بين فاقعها وبسيطها تبعاً للظروف التي تمرّ بها الشخصيات والمستوى الاجتماعي الذي تعيشه.
وإن كان الاستثناء يشمل عملاً أو اثنين سنوياً من قائمة الأعمال الدرامية السورية التي تواجه تحدّيات قد تجعلها قاب قوسين أو أدنى من السقوط سقوطاً مدوّياً، لا يسعنا سوى القول إنّ لكل مقام مقال. فتنبهوا يا صنّاع الدراما إلى خبز صناعتكم قبل أن يضيع قمحها، وتجهض عجينتها على أيديكم.