المنطقة الآمنة حلقة جديدة من رهانات تركيا الفاشلة
العميد د. أمين محمد حطيط
عندما انخرطت تركيا في جبهة العدوان على سورية اتخذت موقعاً متقدماً في الجبهة حتى أنها شكلت رأس الحربة فيه، إلى الحد الذي كاد يظهر العدوان برمته وكأنه مشروع تركي بحت تتوخى منه تركيا أنشاء الإمبراطورية العثمانية الجديدة التي تستند إلى تنظيم الإخوان المسلمين الذي له الباع الطويلة في الإجرام والاعتداء على سورية منذ أربعة عقود تقريباً، لكن الصمود السوري والاحتراف في تنظيم وإدارة المعركة الدفاعية الذي أبدته سورية ومعها حلفاؤها في محور المقاومة أجهض الخطة الإخوانية بالقيادة التركية كما أجهض ما تبعها من خطط تلاحقت خلال السنوات الأربع من العدوان.
وعلى رغم الفشل والإخفاق المتلاحق استمر العدوان وتقلبه في المظهر والتسميات حتى انتهى به الأمر إلى الإرهاب المكتمل الأوصاف الذي ترتكبه تنظيمات متخصصة تحدرت من التنظيم الأم «القاعدة» القائمة في عقيدتها على التكفير ورفض الآخر أي آخر، والمستفيدة من المال والدعم المتعدد الوجوه والذي تقدمه مكونات قيادة المشروع الصهيوأميركي والذي بات اليوم مشروعاً صهيوتكفيريأميركي، ومع هذا التحول والتقلب ظلت تركيا في موقعها العدائي من سورية تحتضن الدمية التي تسبغ عليها صفات «القيادة للمعارضة السورية» وتوفر البنى التحتية وطرق الإمداد خدمة للإرهاب ضد سورية والعراق أيضاً، مؤملة في هذا أن تكون على جاهزية لاستثمار النجاح الإرهابي عندما يتحقق في سورية كما تظن وتنتظر. ومرة أخرى يؤدي الصمود الأسطوري السوري إلى خيبة أمل تركيا، فكما ضاع تخطيطها الأول تبعثرت أمالها في المراحل اللاحقة.
واستمرت تركيا في مسيرة انهيار الأحلام، إلى أن كان منتصف العام 2015 حيث سجلت أحداث ووقائع أحدثت من المتغيرات وأرسلت من الإشارات والرسائل ما جعل تركيا تواجه حقيقة مرعبة تناقض وبكل جدية وعمق ما كانت تؤمله من عدوانها على سورية. فبعد أن كانت ترى أن سورية ستكون مدخلها إلى بناء الإمبراطورية الجديدة وأنها ستتربع على عرش منطقة الشرق الأوسط متقدمة على دوله كله، شعرت تركيا للمرة الأولى منذ خمس سنوات بأن الريادة في المنطقة انعقدت لسواها، وتقدمت إيران عنها وعن الآخرين في هذا المجال لتشكل وباعتراف دولي القوة الإقليمية الأولى المعترف بنظامها السياسي الاستقلالي السيادي وبحقها بالتقنية النووية التي يحتكرها أصلاً أقوياء العالم.
وبهذا التطور معطوفاً على الارتباط العضوي الاستراتيجي بين إيران وسورية في إطار محور المقاومة، الارتباط الذي يجعل أي قوة تحققها إيران لنفسها أنما هي قوة تستعمل لمصلحة المحور كله وتستفيد منها سورية في شكل خاص. ما يعني أن سورية التي كانت بالظن التركي قاعدة انطلاق للسيطرة على المنطقة باتت تشكل المانع الحاجز الذي يستعصي على الأحلام التركية، ويشكل الجدار الذي تتكسر عليه ثم ترتد موجات الإرهاب والعدوان المنطلقة من تركيا. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، حيث أن المتغير المفاجئ في الميدان السوري وعلى الحدود التركية وما فيه من دور كردي فيه أقلق تركيا أيضاً، وباتت هواجسها لا تنحصر في ضياع آمال السيطرة وتوسع الفضاء الاستراتيجي، بل انقلبت إلى خوف على وحدة تركيا، خوف تشكله هواجس تحرك 20 مليون تركي من القومية الكردية ومطالبتهم بحقوقهم القومية التي ترى فيها تركيا تعارضاً أو مساً بوحدتها الوطنية.
إضافة إلى ما تقدم شعرت تركيا بأن المنطقة باتت تتهيأ لتشكيل البيئة الملائمة لإنتاج حلول سياسية تتناسب مع موازين القوى المتشكلة بعد المواجهات العسكرية الطاحنة والتي كانت ترجمة ميدانية للصراع بين المشروع الصهيوأميركي الاستعماري الاحتلالي والمنقلب إلى مشروع صهيوتكفيريأميركي تفتيتي تدميري، والمشروع السيادي التحرري الذي يقوده محور المقاومة ـ المحور الذي صمد ثم حقق الزلزال الاستراتيجي الكبير عبر الاتفاق النووي الإيراني مروراً بانتقاله إلى مرحلة الانقضاض وملاحقة تنظيمات الإرهاب التي يستعملها المشروع العدواني في إطار حربه على المنطقة. فتركيا تعرف أو عليها أن تدرك بأن المشروع الذي عادته وحاربته وأملت بأن تقيم مجدها على ركامه، هو مشروع بدأ يسجل الانتصارات التي لا شك فيها.
في ظل هذا المشهد المتشكل من مزيج من الخيبة واليأس والخوف من المستقبل، ومعطوفاً على الصفعة التي وجهها الشعب التركي لأردوغان، صفعة صنعتها صناديق الاقتراع التي أفقدت أردوغان القدرة على تشكيل حكومة للإمساك المنفرد بالسلطة، في ظل هذا المشهد يبدو أن تركيا تجد نفسها ملزمة بالتحرك لقطع الطريق على الانهيار ولحجز مقعد ما في قطار المعنيين بالتسويات ولكن كيف تعمل وإلى أين ستصل؟
في المنطق العملي تواجه تركيا خيارات متعددة منها الصعب حتى المعجزة على حد قول وزير الخارجية السوري ومنها السهل البسيط الذي تراه لها أميركا. حيث يمكن لتركيا أن تتلقف دعوة الرئيس بوتين لإنشاء جبهة إقليمية مع سورية والعراق لمحاربة الإرهاب ودرءاً لمخاطر تهددها، لكن تركيا لا تجد كما يبدو نفسها جاهزة لهذا الأمر لذلك لا نتوقع منها تغيير سياستها نحو الحكومة السورية في المستقبل المنظور، وفي المقابل يمكن لتركيا الانخراط مع أميركا في التحالف الدولي المزعوم ضد «داعش» وتبقي لنفسها حضوراً في الميدان يؤمن مصالحها من الباب الأميركي لاحقاً، لكن هذا الحل لن يحقق لتركيا ما تنشده لذلك يستصعب أردوغان تقييد نفسه به من دون أن يغلق الباب كلياً بوجهه، أما الحل الثالث الذي يبدو أن تركيا تميل إليه وتلوح به، فهو الحل القديم بنسخة جديدة منقحة وهو مشروع المنطقة الآمنة، وهو حل نراه أقرب إلى الخيال السياسي منه إلى الواقع الميداني الممكن.
فتركيا تريد وفقاً لمشروعها هذا أن تضع يدها على مساحة من الأرض السورية تتراوح بين 4000 إلى 5000 كلم2، تنقل إليها اللاجئين السوريين الذين يقيمون حالياً لديها وعددهم يتراوح ما بين المليون كما هي إحصاءات الأمم المتحدة و1.7 مليون كما يزعم أردوغان، وأن تنقل إليها كل ما يتصل أو يتعلق بالائتلاف السوري وحكومته الانتقالية المزعومة بما يحفظ لها ورقة قوة تستعملها في حل سياسي للأزمة السورية. وتتصور تركيا أنها بهذا الأمر ستحقق أهدافاً عدة منها:
قطع الطريق على الخطر الكردي الذي يرعبها مع تنامي القوة الكردية في الشمال السوري وانهيار ما اسمي خطة السلام مع الأكراد.
التخلص من العبء المادي اللوجيستي المباشر للأزمة السورية بعد أن شعرت بأن نهايتها غير قريبة التنصل من مسؤولية خدمات مليون سوري لاجئ على الأقل .
تقليم أظافر «داعش» وإبعاده عن الجسم التركي مع الإبقاء عليه أداة تهديد وأجرام تستعمل ضد سورية.
امتلاك ورقة قوة ميدانية تعطيها فرص التدخل من موقع قوي في أي حل سياسي للأزمة السورية.
اختلاق خطر أو تهديد خارجي يشغل الشارع التركي بما يمكن أردوغان من تجاوز خيبته في الانتخابات الأخيرة.
هذا ما ترمي إليه تركيا، لكن الواقع كما يبدو لا يحاكي الأماني فهذا الحل دونه صعوبات وعقبات لا يمكن لتركيا تذليلها، فهو بحاجة أولاً لقوة عسكرية قادرة على احتلال المنطقة. وهذا لا يمكن تحققه إلا من مصدر وحيد هو الجيش التركي، لكن الموازين الدولية والإنذار الإيراني الروسي قطع الطريق على هذا الأمر ما أجبر تركيا على الإعلان بأنها لا تنوي إرسال جيشها إلى سورية، ما يعني أنه لا يبقى لها سوى استخدام الإرهابيين تحت مسمى المعارضة المعتدلة، وهؤلاء ليس بمقدورهم مواجهة ثلاثة أعداء وخصوم والعمل على 3 اتجاهات في الآن ذاته أي ضد الجيش العربي السوري وضد الأكراد فضلاً عن «داعش» الذي تدعي تركيا أنها ستذهب لمحاربته.
لقد وعى الغرب بالقيادة الأميركية صعوبة تنفيذ الرغبة التركية في ظل الأوضاع الدولية والميدانية القائمة، لذلك نأى بنفسه عنها ولم يمنح تركيا عبر الحلف الأطلسي أكثر من تأييد معنوي للـ»دفاع عن نفسها ضد إرهاب» كانت هي أحد صنّاعه الرئيسيين، ولذا نقول ستكون تركيا في خطتها الجديدة أمام حلقة من الخيبات التي اعتادتها خلال العدوان على سورية. ولن تؤثر خطتها الجديدة في تغيير اتجاه الخط التصاعدي لسورية ومحور المقاومة في حرب الدفاع عن الذات والمنطقة، وهي حرب باتت نتائجها مؤكدة المعاني انتصاراً ضد العدوان على رغم أن نهايتها لم تقترب بعد.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية