قهوة الصباح!
نصّار إبراهيم
قال: لأعدّ القهوة… فقد تطلق حيوية الصباح.
وقف هادئاً وأخذ يملأ «الركوة» بالماء. راح يراقب الماء وهو يرتفع. أشعل الموقد. وضع «الركوة» ووقف صامتاً. ألقى نظرة عبر النافذة، كان الشفق يضيء الأفق. عاد إلى «الركوة» ينظر في أعماق الماء. رفعها قليلاً ونظر إلى شعلة اللهب الأزرق.
كل شيء هادئ هذا الصباح. فكّر: «عليّ أن أسقي الزهور قبل خروجي». بدأت فقاقيع المياه في «الركوة» تندفع إلى السطح حيث تنفجر مخلية المكان للفقاقيع القادمة. تابعها. نقل «الركوة» إلى جانب اللهب. فواصلت الفقاقيع الصعود والتلاشي. أمسك علبة البنّ. ملأ الملعقة. ودفع بها في الماء المتراقص، فكاد يفيض خارجاً. أبعد «الركوة» بسرعة وانتظر حتى هدأت. أضاف ثلاث ملاعق من البنّ، ثمّ حرّكها بهدوء، وانتشرت رائحة القهوة في المكان، فصار أكثر ألفة والصباح أكثر جمالاً. خفض شعلة اللهب ووضع «الركوة» عند حدود النار، فأخذت تغلي بهدوء… لماذا للقهوة كل هذا الحضور؟
وفكّر: لأنّ إعداد القهوة تكثيف مباشر لنصّ صباحي بِكْر. نصّ تتقاطع فيه الذاكرة، والواقع، والخيال، والأحلام، والحركة والفعل، والفكر الملموس والمضمر. لهذا، تملك القهوة كلّ هذه السطوة الجمالية. إنها عملية بوح حركيّ وانفعالي تلقائيّ، إذ تتفاعل الحواس جميعها على شكل ماء بارد، ثمّ تزداد حرارته بالتدريج، ثمّ يمتزج برائحة البنّ والذوق والإحساس بالدفء، وكلّ ذلك يعود ليتشابك مع لحظة الصباح وكل حضور مفترض. هي إذن عملية فعل داخليّ في لحظة صفاء وصدق. نص وجدانيّ وغريزيّ كامل وكثيف.
إعداد القهوة في الصباح يأخذ معنى الاستيقاظ والتوقّع والمبادرة والفعل. وفي المساء تأخذ العملية معنى الحنين والانتظار والتأمّل والمراجعة.
ولفنجان القهوة حين يعدّه الإنسان وحده أدوار ممتدّة. فهناك فنجان قهوة تستدعيه لحظة الفرح وآخر تستدعيه لحظة الألم. وهناك فنجان قهوة تستدعيه الخيبة. وآخر يشبه الأمل. فيما يأخذ في لحظة أخرى معنى اللقاء وفي لحظة آخرى معنى الرحيل. أحياناً يكون معادلاً للقبلة وأحياناً له صدى الارتطام. وقد يكون مجرّد فراغ أو صمت، وأحياناً مجرّد كسل وخمول. وقد يكون صاخباً كالغضب أو قلقاً أو متوتراً. وأحياناً هو تعبير عن حالة انسياب وتناغم مطلقين. هي القهوة هكذا لمن يدمنها. تتخطى ذاتها لتصبح نصّاً شديد التفاعل والتعقيد.