نحو نظام إقليمي عربي جديد؟
زياد حافظ
العالم ما بعد الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية في إيران ومجموعة الدول الخمس زائداً واحداً لا يختلف كثيراً عمّا كان عليه قبل الاتفاق، وذلك رغم التحليلات المغايرة لذلك. صحيح أنّ الاتفاق إنجاز ديبلوماسي كبير يكرّس مكانة الجمهورية الإسلامية في المنطقة ويفتح لها آفاقاً جديدة وهامة، إلاّ أنّ مدى التغييرات في المنطقة ستكون محدودة إن لم تُقدم الدول العربية في المنطقة على تغيير سلوكها ونهجها في مقاربة المشهد العام القطري والإقليمي والدولي على حدّ سواء. أي نعتقد أنّ مفتاح التغيير الشامل في المنطقة هو في يد العرب، رغم الوضع المزري للمشهد العربي بشكل عام.
يعتقد البعض أنّ المنطقة ستدخل في مرحلة التسويات أو التفاهمات الكبرى التي تعيد الحدّ الأدنى من الاستقرار. لسنا مقتنعين أننا على أبواب تلك المرحلة لأنّ المشهد الدولي لا يشير إلى إمكانية لدولة أو لمجموعة دول من فرض مسارها العام للأمور. نعيش اليوم حقبة توزيع القوّة بين عدّة أقطاب، ما يزيد احتمالات التوتر أكثر من احتمالات التفاهم والاستقرار، وإن كان ذلك التفاهم من مصلحة الجميع. كما أنّ القوة داخل تلك الدول هي أيضاً في مرحلة التوزيع بين عدّة مراكز، ما يعقّد إمكانية اتخاذ قرارات مصيرية. فهذه التحوّلات داخل المنظومات السياسية في دول الغرب وحتى داخل منظومة القوى الصاعدة كمنظومة «بريكس» تشكّل إرهاصات عالم غير مستقر. إنّ القاعدة الأساسية في العلاقات الدولية اليوم هي عدم الاستقرار والاستقرار هو حالة استثنائية. فلا بدّ من مقاربة تعتمد عدم الاستقرار من الثوابت إذا جاز الكلام والاستقرار من المتغيّرات الظرفية.
العالم اليوم يختلف عن العالم بعد الحرب العالمية الثانية حيث تقاسم الحلفاء النفوذ في العالم، وإن لم ينه الصراع بين الكتلتين اللتين تصارعتا على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن. العالم اليوم ليس فيه منتصر واحد وخاسر واحد، بل مجموعات صاعدة ومجموعات في حال تراجع، لذلك فإنّ التفكير في نظام عالمي مستقر هو تفكير غير واقعي في المرحلة الراهنة. فالمجموعات الصاعدة غير معنية بتفاهمات وتسويات بعيدة المدى لأنها تكبلّ صعودها. في المقابل، مجموعة الدول المتراجعة تكابر وفي حالة إنكار لتراجعها وتعتقد أنّ التسويات والتفاهمات تمنعها من تحسين فرصها رغم التحوّلات التي تمنعها من ذلك.
ومن التحوّلات التي نتكلّم عنها تردّي نوعية القيادات بسبب الأزمة البنيوية في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في دول الغرب. فخلافاً لما يشاع عن صلابة النظم الديمقراطية في تلك الدول، بما فيها الولايات المتحدة، أصبحت تلك النظم أسيرة عالم المال وخاصة بيوت المال. وليست الأزمة اليونانية الأخيرة والإملاءات المجحفة في حقّ الشعب اليوناني التي فُرضت على الحكومة اليونانية إلاّ تأكيداً على قصر نظر حكومات الاتحاد الأوروبي وفي مقدّمتها الحكومة الألمانية. وقصر النظر ذلك يعود إلى هيمنة المؤسسات المالية المرتكبة الجرائم المالية في حقّ الحكومات كما في حقّ المواطنين والتي لا ترى إلاّ مصلحتها الآنية وليس المتوسطة أو البعيدة. صحيح أنّ ذلك الأمر يستحق نقاشاً مفصّلاً ولكن لن نخوضه لضيق المساحة المتاحة لغرض هذا العرض.
أما في الولايات المتحدة، فإنّ رداءة النخب الحاكمة تتجلّى في نوعية المرشّحين للرئاسة، سواء في الحزب الجمهوري أو في الحزب الديمقراطي. وليست حلقات الكوميديا الساخرة من كافة المرشحين إلاّ خير دليل على رداءة تلك النخب. لكنّ ما هو أخطر من ذلك هو الجهل السائد بين المرشحين، وإن كان بنسب متفاوتة. فعلى سبيل المثال يتسابق المرشحون في الحزبين على انتقاد الاتفاق النووي مع إيران من دون قراءة بنود الاتفاق، كما صرّحوا تكراراً، من دون أن يخجلوا وذلك لخدمة المنظمات والشخصيات الصهيونية التي تموّل حملاتهم الانتخابية.
وفي المقابل، فإنّ محور دول «بريكس» والمنظمات كمنظمة شانغهاي، ما زالت متماسكة في مواجهة الهيمنة الأميركية ولكنها مختلفة فيما بينها في عديد من الأمور، وخصوصاً الطاقة والغاز. ليست هناك مقاربة في العمق حول تداعيات الاتفاق النووي على مسار النفط والغاز لكلّ من الجمهورية الإسلامية في إيران والاتحاد الروسي. أليست هناك عواملاً للخلاف؟ وكيف يمكن معالجتها من دون المساس بتماسك الجبهة الصاعدة في مواجهة الولايات المتحدة؟
من جهة أخرى، كيف ستتجلّى طموحات الصين المالية في النظام المالي الجديد المرتقب كبديل عن النظام الذي يهيمن عليه الدولار؟ وهل ذلك ضمن قدرات الصين؟ هذا لا يعني أنّ تماسك الجبهة في خطر في الوقت الحاضر، لكنّ بذور الاختلاف الجذري موجودة ولم تتم حسب علمنا مقاربتها حتى الآن.
في الخلاصة، ما نريد أن نقوله هو عدم وجود قوة ضاغطة من مجموعة دول متماسكة تستطيع أن تضبط إيقاع الحراك الدولي بشكل لا يهدّد السلم العالمي، وخصوصاً أنّ نوعية القيادات في الدول التي كانت تقليدياً تقود العالم أصبحت في مستوى من الرداءة غير المسبوقة. وتردّي النوعية في القيادة يعكس الأزمة البنيوية فيها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي. فهل يمكن تجاهل إمكانية ارتكاب الحماقات إقليمياً وأو دولياً في غياب نظام دولي متماسك في الحدّ الأدنى؟
هذه مقدمة لفكرة نطمح إلى التوقف عندها وهي أنّ ما يحصل في الدول العربية لم يعد، كما كان في الماضي، مرتبطاً بقرارات خارجية، وإن كان هناك من يعتقد أنّ الدول العربية فاقدة كلّياً لقراراتها. بل العكس، ما نراه اليوم في عدد من الدول سواء في مصر أو في الجزيرة العربية، يعني أنّ إمكانية السيطرة الخارجية على القرار العربي تتراجع بمنسوب أكبر مما يتصوّره البعض. لا يريد العديد من المحلّلين الإقرار بذلك أي أنّ كثيراً من الحراك السياسي العربي هو قرار ذاتي وإن كان ذلك القرار مخطئاً أو يخدم في كثير من الأحيان مصالح خارجية. لسنا مقتنعين بأنّ قرارات مصر أو السعودية، على سبيل المثال، قرارات تمليها الولايات المتحدة بشكل أحادي. المسألة أكثر تعقيداً وتركيباً ولكنّها واضحة وهي أنّ مجال التماهي بين مصالح النخب الحاكمة لدول كانت تدور في فلك الولايات المتحدة، والولايات المتحدة دخلت مرحلة تحوّلات لا نستطيع تحديد مسارها واتجاهاتها بدقّة وإن كانت تهدف إلى تحقيق استقلالية وحماية لكياناتها.
من هنا نبدأ، أي البحث في العمق في تلك التحوّلات لأنها في آخر المطاف تعني الجميع في المنطقة العربية. فمصر، على سبيل المثال، تبني استقلالها السياسي بشكل متدرّج ولكن بخطوات ثابتة. نشير هنا إلى التفاهمات الاستراتيجية في التسليح مع روسيا وذلك بعد أكثر من أربعة عقود من استثمار الولايات المتحدة في محاولات بائسة لاحتواء وترويض القرار العسكري في مصر. فالعلاقة مع روسيا تتجاوز التفاهم التسليحي وتشمل الحقل الاقتصادي بل الجيوسياسي. نشير أيضاً إلى تحرّك الجيش المصري وإدخال قطاعات من السلاح الثقيل والطيران إلى سيناء مخالفة بنود اتفاقية كامب دايفيد ومن دون الرجوع إلى «موافقة» حكومة الكيان الصهيوني. كما نشير أيضاً إلى ترسيخ قاعدة الاستقلال الاقتصادي بعيداً عن نظريات البناك الدولي وصندوق الدولي الخاطئة والمغرضة في ضرورة فتح الاقتصاد المصري للاستثمار الخارجي المباشر حيث المدّخرات الوطنية غير كافية للنهوض وتمويل المشاريع الإنمائية. وها هي مصر تحقق المعجزة التمويلية لتوسيع قناة السويس في أقلّ من أسبوع من طرح سندات التمويل على الشعب المصري. كما أنّ مصر تزن بالميزان الدقيق العلاقة مع دول مجلس التعاون وضرورات استقلالها. فالحاجة إلى التمويل الخليجي لا يلغي إمكانية الاستقلالية. أما على صعيد العلاقة مع حركة حماس، فالحوار القائم بين السلطات المصرية وقيادة الحركة تخفّف من الاحتقان تجاه الشعب الفلسطيني في غزّة.
أما بالنسبة إلى السعودية، فإنّ قرارها بشنّ حملتها على اليمن لم يكن قراراً أميركياً كما يشاع في عديد من وسائل الإعلام وإن لم تعارضه إدارة البيت الأبيض. فمقتضيات السياسة الداخلية ربما أوعزت إلى الحكم في الرياض بأنّ تثبيت القيادة الجديدة يتطلّب إبراز عناصر القوة والجأش، وإن لم يكن القرار بالحملة على اليمن صائباً. أي لا يمكن إنكار مدى استقلالية القرار السعودي رغم كلّ الدلائل الإعلامية عن وجهة نظر البيت الأبيض. فالأخير يعتبر أنّه في حال نجاح الحملة رابح، وفي حال الفشل فإنّ إمكانية المملكة في معارضة سياسة الولايات المتحدة تتقلّص، وخصوصاً في الملف المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية في إيران. هنا لا بدّ من الانتباه إلى أنّ مدى الثقة بالولايات المتحدة تراجعت بشكل ملموس عند النخب الحاكمة في بلاد الحرمين وأنّ الخروج من الطاعة للولايات المتحدة يتطلّب حكمة وحنكة من جميع الأطراف المعنية في المملكة وفي المنطقة. ولا يجب إغفال أهمية زيارة نجل العاهل السعودي وولي ولي العهد ووزير الدفاع إلى موسكو وما نتج عنها من إمكانية فتح آفاق جديدة في التحرّك السياسي الإقليمي لكلّ من روسيا ومصر في الملف السوري والعراقي واليمني مع عدم معارضة المملكة. كما أنّ كلام الرئيس الروسي حول إقامة حلف يضمّ كلاً من المملكة وقطر والأردن وسورية وتركيا لمواجهة مجموعات الغلو والتوحش يؤكّد أنّ إمكانية خلط الأوراق للخروج من الأزمة الراهنة ممكنة.
هناك من سيسارع إلى القول إنّ سلوك المملكة في الآونة الأخيرة يصبّ في خانة التصعيد بعد تحقيق بعض الإنجازات الميدانية في اليمن، وخصوصاً في منطقة المرفأ في عدن. هذا صحيح ولكن لا يغيّر في المعادلات القائمة، بل يمكن قراءته بشكل مختلف أي كاستعداد لدخول في مفاوضات مع بعض الأوراق. نعتقد أنّ حشر المملكة في الزاوية غير مفيد ولا بدّ من العمل لإعادة المملكة إلى بيت التوافق العربي. فلن يحم المملكة إلاّ التوافق العربي وليس الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. فكلام الرئيس الأميركي لملوك وأمراء مجلس التعاون واضح. الخطر عليكم من الداخل وليس من الخارج! هنا دور مصر لتأسيس ذلك التوافق في غاية الأهمية ولا بدّ من العمل على هذا الخط.
من جهة أخرى، نعتقد أنّ عدداً من دول مجلس التعاون في الخليج يستطيع العمل على احتضان سورية وتقريب وجهات النظر مع المملكة بمؤازرة مصر. فلا بدّ من إنهاء الصراع في سورية على أسس واضحة تضمن وحدة سورية أرضاً وشعباً ومؤسسات وعروبة سورية وحقّ السوريين في معالجة ملفّاتهم الداخلية وليس عبر التدخلات الخارجية أو الإقليمية. كما أنّ الملف السوري لا ينفصل عن الملف العراقي. فالفتنة المذهبية بدأت في العراق ولا بدّ أن تكون بداية الحلّ في العراق مع التأكيد أيضاً على وحدة العراق وعروبته.
إنّ جوهر تفكيرنا يتلخّص بالنقاط التالية: أولاً، بات واضحاً أنّ الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص لا يستطيعون أو لا يرغبون في تأمين الحماية لنظم الحكم في المنطقة. إنّ الحماية الوحيدة لمختلف الأنظمة هي في المصالحة مع شعوبها ومع ترسيخ قواعد التضامن العربي. في آخر المطاف لن يحم العرب إلاّ العرب!
ثانياً، ندعو إلى إقامة نظام إقليمي عربي قلبه بأربعة ضلوع: مصر، وسورية، والعراق، والسعودية تُضاف إليها دول مركزية من أطراف الوطن العربي كالجزائر والسودان. هذا النظام لا يشكل حتى الحدّ الأدنى من طموحاتنا في إقامة دولة الوحدة ولكن لا بدّ من مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر وفقاً لسلوك الدول المعنية. النظام الإقليمي العربي عندما يحقق الحدّ الأدنى من التضامن يصنع ما يشبه المعجزات. لا ننسى حقبة الرئيس الخالد الذكر جمال عبد الناصر عندما كان للعرب شأن على الصعيد الدولي. كما لا ننسى التضامن العربي خلال حرب تشرين 1973. ولا ننسى دور مصر في إفشال مختلف طروحات المتوسطية في عهد مبارك ولا ننسى غضّ النظر عن الأنفاق ودورها في غزة في مواجهة الكيان الصهيوني. لم يكن النظام الإقليمي مثالياً ولكن لم يكن كلّه سيئاً، وخصوصاً إذا ما قارنّاه باليوم!
ثالثاً، هذا النظام الإقليمي العربي ليس موجهاً ضدّ أحد، بمقدار ما هو لحماية واستقرار المنطقة قدر الإمكان. الدول الإقليمية المجاورة ليست مستهدفة باستثناء الكيان الصهيوني بل العكس. ننظر إلى الجمهورية الإسلامية في إيران وإلى تركيا كعمق استراتيجي للأمة العربية من الناحية الجيوسياسية كما من الناحية التاريخية والثقافية. فإنجازات إيران ونجاحات تركيا تعنينا كعرب وكمسلمين في هذه المنطقة الحريصة على تنوّع مكوّناتها. فلا يجب الاستخفاف بعروبة بلاد الشام وبلاد الرافدين ولا يجب إهمال الروابط التاريخية مع الدول المجاورة. إنّ الاحترام المتبادل والحرص على هوية دول المنطقة هما قاعدتا الاستقرار والسلم في المنطقة. ليس هناك من قوة إقليمية أو غير إقليمية تستطيع أن تنفرد في صوغ الأمن الإقليمي كما ليس هناك من قوة يُسمح لها بتهديد أمن واستقرار المنطقة. لذلك فإنّ تشكيل الكتلة التاريخية من عرب وإيرانيين وأتراك على قاعدة أنّ العرب عرب والإيرانيين إيرانيون والأتراك أتراك كفيل بتأمين حماية المنطقة من المطامع التي قد تأتي من الغرب أو من الشرق أو من أي بقعة في العالم.
وأخيراً، إنّ النظام الإقليمي العربي المتماسك والمتضامن في قضاياه المصيرية كافة، بما فيها القضية المركزية فلسطين، وفقاً لمصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه الكاملة بما فيها حقّ العودة على كافة التراب الفلسطيني هو المدخل الصحيح إلى مقاربة الملفّات الساخنة سواء على الصعيد القطري أو الإقليمي أو الدولي.
أمين عام المؤتمر القومي العربي