المطلوب أكثر من «فورة» دم وردود فعل عاطفية
راسم عبيدات
جريمة حرق الرضيع علي الدوابشة، لن تكون الأخيرة في مسلسل الجرائم التي ترتكبها سوائب المستوطنين بحق شعبنا الأعزل، وهي عندما ترتكب الجرائم تكون واثقة من أن لا عقوبات رادعة ستتخذ بحقها، بل هناك من يدعمها ويساندها ويوفر لها التغطية والحماية في قمة الهرم السياسي والأمني «الإسرائيلي»، وهو وزير الدفاع «الإسرائيلي» موشيه يعلون الذي حد سقف العقوبة ـ قبل اعتقال أحد ـ لمن ارتكب هذه الجريمة البشعة، وحدّد أقصاها بالاعتقال الإداري. في حين رأينا كيف كانت العقوبات بحق الشهداء من أبناء شعبنا الفلسطيني، عقوبات جماعية، هدم منازل وإغلاقها، طرد وترحيل قسري عن القدس لزوجات الشهداء وأطفالهم…
جماعات «تدفيع الثمن» الإرهابية الصهيونية ارتكبت عشرات إن لم يكن مئات الجرائم بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم وبيوت عبادتهم من مساجد وكنائس، وحتى المقابر لم تسلم من جرائمهم، وفي أغلب الحالات لم يُجرَ اعتقال من قاموا بتلك الجرائم، ومن اعتقل منهم، وفق سياسة الباب الدوار، ما إن يُعتقل ويهدأ الرأي العام حتى يجرى إطلاق سراحه.
وردود فعل شعبنا من سلطة وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ـ على رغم النبرة العالية وتهديدات كل قادة الفصائل والأجنحة العسكرية لها بأنّ الردّ على تلك الجرائم، سيكون قوياً وبحجم تلك الجرائم، وسيلقن المحتل والمستوطنين درساً قاسياً، وسيجعلهم يفكرون ألف مرة قبل الإقدام على ارتكاب جريمة جديدة مرة أخرى بحق أبناء شعبنا ـ نجدها متواضعة وضعيفة، لكون تلك الردود القائمة على الانفعال والعواطف الجياشة و«فورة» الدم، سرعان ما يتلاشى أثرها، لكي تكون في الغالب أو المجمل دون سقف التوقعات، ما يخلق مزيداً من حالة الإحباط واليأس وفقدان الثقة بين جماهير شعبنا من تلك الأحزاب والفصائل.
دائماً رهان الاحتلال ومستوطنيه في كل معاركهم معنا وما يرتكبونه من جرائم بحق شعبنا، على ذاكرتنا القصيرة، وعلى عقدة «الارتعاش» السياسي المستديمة التي تعاني منها قيادتنا، أي عدم الثبات على الموقف والرأي والقرار، بل التراجع عن القرار والموقف في زمن قياسي.
صحيح، تكون هناك هبات شعبية وجماهيرية ضد الفعل أو الجريمة المرتكبة تطول وتقصر ليس استناداً إلى خطة أو برنامج أو استراتيجية منفردة أو موحدة، بل تلك الهبات تعلو وتخبو استناداً إلى إجراءات الاحتلال القمعية والإذلالية وجرائمة، كما حصل في القدس بعد جريمة خطف وتعذيب وحرق الشهيد الفتى أبو خضر حياً في تموز 2014، حيث تواصلت وما زالت الهبات الجماهيرية الشعبية في القدس متواصلة منذ ذلك التاريخ، ودفع خلالها المقدسيون أكثر من عشرة شهداء وحوالى ألفي معتقل، وعلى رغم أن تلك الهبات الشعبية تمكنت من إخراج العدو عن طوره، وخلقت معادلات جديدة في العلاقة مع المحتل، وكسرت حاجز الخوف عند الجماهير المقدسية التي كانت عاقدة العزم على أن تفشل مخططات الاحتلال في فرض وقائع جديدة في قضية المسجد الأقصى التقسيم الزماني والمكاني ، وكذلك أثبتت أن المقدسيين لن يتنازلوا عن حقوقهم وكرامتهم، ولن يسلموا بمشاريع التطهير العرقي التي تُنفّذ بحقهم، ولكن غابت وتغيب عن تلك الهبات الشعبية القيادة والتنظيم والمشاركة الشعبية الواسعة والهدف، وفشلت كل الجهود والمحاولات في نقل تلك الهبات الشعبية إلى طور أعلى انتفاضة شعبية شاملة، ليس فقط بسبب فقدان الإرادة السياسية عند السلطة الفلسطينية، ولكن الحالة الفلسطينية فيها الكثير الكثير من الضعف والشرذمة، وهناك الكثير من الكوابح والمعيقات المرتبطة بالعوامل الذاتية، أكثر من الموضوعية والتي هي ناضجة تماماً، حيث القمع الاحتلالي بلغ ذروته، ولعل جريمة حرق الرضيع دوابشة، وسن القوانين والتشريعات العنصرية، من تشديد العقوبات على راشقي الحجارة لكي تصل إلى عشرين سنة، وسن قوانين «التغذية القسرية» بحق الأسرى المضربين عن الطعام، ومنعهم من الاتصال الهاتفي مع ذويهم، وأيضاً منعهم من استكمال تعليمهم في المؤسسات التعليمية، و«تغوّل» و«توحش» الاستيطان، وغيرها هي عوامل كافية لإشعال انتفاضة شعبية عارمة، ليس في القدس والضفة الغربية، بل في كل فلسطين التاريخية.
لا نريد الحديث مطولاً في التشخيص للحالة الفلسطينية، ما نريده هو القول، بأن الساحة والحالة الفلسطينية من بعد جريمة حرق الرضيع الدوابشة حياً، هل هي مهيأة لانتفاضة شعبية عارمة، وإحداث حالة قطع مع نهج وخيار المفاوضات، والعمل على إعادة صياغة علاقة السلطة مع دولة الاحتلال، وتغير دور ووظيفة ومهمة السلطة الفلسطينية؟ وكذلك هل تكون جريمة الطفل الدوابشة، نقطة تحول في سلوك ونهج ومواقف ورؤية طرفي الانقسام فتح وحماس ، بحيث يكون الدم الفلسطيني وجرائم الاحتلال كافية لهما، لكي يخرجا من شرنقة الانقسام المستديمة؟ أم سيستمران في حالة التحريض والتحريض الداخلي والمناكفات وتحميل المسؤوليات، وتمسك كل منهما برؤيته وبرنامجه وخياراته؟
التوجه الى المؤسسات الدولية وإلى محكمة الجنايات الدولية والاشتباك السياسي والدبلوماسي مع المحتل على الساحة الدولية مهم وضروري، في تعميق عزلة الاحتلال وفضحه وتعريته ومحاصرته دولياً، والتمهيد لجلب قادته وجنوده ومستوطنيه إلى المحاكم الدولية لمحاكمتهم ومعاقبتهم على جرائمهم من خلال إعداد ملف كامل بتلك الجرائم جيد وصائب، ولكن هذا كله ليس بالعامل الحاسم في كسب معركتنا مع الاحتلال، المعركة تحسم في الميدان وفوق أرضنا المحتلة، وهذا الحسم أولاً وقبل شيء بحاجة إلى إرادة سياسية، وإلى إعادة الثقة ما بين الجماهير والسلطة والفصائل، التي تشعر بأن ما يجري ليس أكثر من استثمار لنضالاتها وتضحياتها، خدمة لأهداف وأجندات سياسية لا تعبر عن أهدافها وهمومها وطموحها وتطلعاتها، وهذا أول ما يتطلب موائمة القيادة الفلسطينية لأقوالها مع أفعالها، وخصوصاً بأن الشواهد والحقائق غير مشجعة، خصوصاً أن الجماهير ترى أن القيادة الفلسطينية تفقد هيبتها وحضورها وتأثيرها في الشارع، من حيث عدم التزامها قرارات مؤسساتها من لجنة تنفيذية ومجلس مركزي وغيرها، بحيث أضحت تلك المؤسسات مجرد يافطات وديكورات مجوّفة، فقط وظيفتها التصديق على قرارات يجرى اتخاذها بمعزل عنها.
الجماهير الفلسطينية ضاقت ذرعاً بالسلطة والأحزاب والفصائل، والتي بعد كل جريمة وجريمة تتحدث عن قرارات ذات طابع استراتيجي، لنجد أن الأمور من بعد انتهاء «فورة» الدم والردود العاطفية والانفعالية، نعود لنتحدث عن الخيارات والمواقف والحلول نفسها، الرهان على المبادرات الدبلوماسية والسياسية المستقطعة للوقت تارة فرنسية وأخرى قبرصية وغيرها، وكأننا أدمنا «تجريب المجرب»، كما أدمنا المفاوضات.
فهل بعد جريمة حرق الرضيع دوابشة سنكون أمام قرارات ذات طابع استراتيجي؟ أم سنستمر على نفس المنوال والرتابة و«اجترار» نفس الأسطوانة المشروخة عن المفاوضات وأن لا بديل من المفاوضات.
Quds.45 gmail.com