ماذا في تشرين الأول؟
– استغرب المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن فيتالي تشوركين الجواب الذي سمعه من المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا عندما كان يقول إنّ سبب قراره بعدم التقدّم بمبادرة واضحة أمام مجلس الأمن الدولي هو انتظار ما بعد تشرين الأول، فسأله تشوركين عما سيحدث بعد تشرين الأول ظناً منه أنّ ثمة شأناً إدارياً في الأمانة العامة للأمم المتحدة سيُحسم في تشرين الأول، وأنّ دي ميستورا ينتظر حدوثه لينطلق في مهمته، فزادت دهشته عندما كان جواب دي ميستورا أنّ الوضعين الدولي والإقليمي لن تتضح صورتهما قبل ذلك التاريخ، مضيفاً أن التفاهم النووي الذي تمّ بين الغرب وإيران والذي يشكل مفتاحاً للمتغيّرات التي يجب أن ينطلق منها في مهمته بتقدّم مناخ التسويات سيبقى حبراً على ورق حتى ذلك التاريخ، حيث يتقرّر مصيره الفعلي مع ما سيقوله الأميركيون عن درجة التقيّد الإيرانية بالتعهّدات الخاصة بمفاعلي آراك وفوردو وتعديل وجهتيهما بما يعني إخراجهما كلياً من العمل كمفاعلات.
– الكلام الذي قاله دي ميستورا تفسيراً لتأخير إطلاق مهمته كان سبب مسارعة موسكو للدعوة إلى جولة جديدة من الحوار الذي سبق لها ورعت جولتين سابقتين من جولاته بين الحكومة السورية وأطراف من المعارضة، لكن هذا المنطق التشكيكي ليس حكراً على دي ميستورا وحده، فثمة دوائر عدة ديبلوماسية وسياسية وإعلامية تروّج لهذه المعادلة، وتكتب وسائل إعلام غربية مرموقة أنّ التصعيد في النبرة التركية حول شكل التدخل في سورية، ومثلها الحرص السعودي على عدم تسريع مناخات الانفراج، ينطلقان من هذه الحسابات، ومن جهتها «إسرائيل» تضيف إلى هذا الحساب عاملاً إضافياً هو فرضية عدم نجاح الرئيس باراك أوباما في ضمان ثلث النواب اللازم تأييدهم للاتفاق كي يتمكن الرئيس من ممارسة النقض على رفض الكونغرس بغالبية أعضائه.
– يستطيع أي متفحّص للتفاهم النووي في إطاره الأوسع والأشمل كتفاهم عمر التفاوض حوله اثنتي عشر سنة، وعمر الخصومة بين أطرافه خمساً وثلاثين سنة، أن يكتشف بسهولة أن هذا التفاهم حُسم كخيار منذ تشرين الثاني العام الماضي عندما مدّد التفاوض لسبعة شهور، كانت وظيفتها كما بات معلوماً صياغة القواعد الرئيسية لتعلن في آذار لتتمّ تهيئة المناخات على مستوى الرأي العام والشروع في صياغة النصوص النهائية التي وقّعت وأعلنت في مطلع تموز كما هو متفق عليه، وبين التأجيل والتوقيع وما تلاه اشتغال على التسويق، لتتأقلم القوى المتضرّرة أو تلك التي راهنت على فشل المفاوضات وتنخرط في السياقات التي أطلقها التفاهم.
– الأكيد أنّ الطريق الذي افتتحه التفاهم للطرفين الأميركي والإيراني هو طريق بلا خط عودة، وبلا مستديرات انعطاف للمغادرة ولا مسارب جانبية، فهو طريق مغلق الجوانب أحادي الاتجاه، قدر من سلكه معروف سلفاً وهو بلوغ نقطة النهاية، فالطرف الإيراني بداية يعلم أنه حاز تكريساً لشرعية امتلاكه لكلّ تقنيات مراحل العملية النووية، وردّ اعتبار في قلب المعادلة الدولية السياسية والاقتصادية، وهي عائدات لا تستمرّ مع أيّ انتكاسة بالتطبيق من طرفه، ويخسر فوق هذه المكاسب تغطية وثقة حليفيه الروسي والصيني، ويعيد إلى خصوم التفاهم من السعودية وتركيا و«إسرائيل» مكانة مرموقة في صناعة القرار الغربي باعتبارهم منذ البداية من قاد حرب التشكيك بصدقية إيران ووفائها بتعهّداتها، وكلّ ما ستكون إيران قد نالته مالياً هو بضعة مليارات من أرصدتها المجمّدة التي تعادل نسبة أقلّ من خمس هذه الأرصدة حتى تشرين الأول، وهو رقم يساوي عائد الإنتاج الإضافي من النفط الإيراني بسبب العودة الشرعية إلى الأسواق العالمية لمدة عشرين يوماً فقط، فهل من عاقل يتوقع أنّ إيران سترتكب هذه الحماقة؟
– على الضفة الأميركية وصل الأميركيون إلى التفاهم تحت سقف الحدّ الذي لا يمكن لإيران رفضه وهو تقديم كلّ الضمانات اللازمة لعدم امتلاكها سلاحاً نووياً، ولو لم يوقّعوا هم يعلمون أنّ إيران عشية التفاوض العام 2013 عندما وافقت على وقف التخصيب المرتفع في مهلة العام التفاوضي، ثم ارتضت تمديد هذا الامتناع لسبعة شهور، لا تحتاج أكثر من شهر من العودة إلى التخصيب لامتلاك مخزون يكفي لصناعة القنبلة وبضعة رؤوس نووية لصواريخها الباليستية العابرة للقارات، وأنّ فشل المفاوضات بعد تمديد أول وثان وثالث سيعني مواجهة هذه الحقيقية وبعدها حكماً في مناخ التوتر والتصعيد والحديث عن الخيار العسكري، ستكون إيران قد أجرت أولى تجاربها النووية العسكرية وفقاً لفتوى تقول إنّ الغرب الشيطاني لا يفهم إلا لغة القوة، وإنّ تصنيع السلاح النووي غير استخدامه، وإنّ الامتلاك ضرورة لمنع الحرب، وتصدر فتوى تحصر التحريم في استخدام السلاح النووي بينما تبيح تصنيعه وامتلاكه، وعندها إذا ذهبت واشنطن إلى الحرب كانت مواجهة بعيار حرب عالمية تدميرية، وإنْ عادت إلى التفاوض كان عليها المفاوضة على مطلب إيراني بالانضمام إلى الدول صاحبة حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي أسوة بفرنسا وبريطانيا، فمن هو الغبي الذي يظنّ أنّ واشنطن ستنقلب على التفاهم؟
– يعرف الفريقان الأميركي والإيراني أنّ الطريق مسدود أمام خطر الفشل، بالتالي لا مناورات ولا مماطلة في تنفيذ التعهّدات والالتزامات، لكنهما يعرفان أنّ تسويق الاتفاق في ظلّ عدم شموله تفاهمات على الملفات الإقليمية، يستدعي مراعاة أوضاع الفريق المتضرّر أو الخاسر، ليس من تفاهم نووي يضمن عدم امتلاك إيران قنبلة نووية أو يطبّع علاقاتها بالغرب ويفكّ أسر أموالها، بل من تفاهم إيراني أميركي تمّ من دونهم ومن وراء ظهرهم ولم يفرض على إيران لحسابهم أي تنازلات، ومعلوم أنّ هؤلاء هم حلفاء أميركا في المنطقة، ومعلوم أنهم سيسعون للنيل من مكانة التفاهم مرة بتصويره شيئاً بلا قيمة، ومرة بالتشكيك بتطبيقه، ومرة بالرهان على ما لن يحدث من تعقيدات تشبه الحديث عن عدد النواب الذين سيصوّتون لمصلحة التفاهم وهم قد تخطوا النسبة اللازمة لتمكين الرئيس من ردّ أيّ اعتراض للكونغرس وممارسة حق النقض، والمنطقي أيضاً أن تشنّ حرب إعلامية ونفسية تشكيكية بجدية تطبيق الاتفاق لضمان معنويات الأطراف التي تخوض معاركها ضدّ حلفاء إيران في سورية ولبنان واليمن، حرصاً على تحقيق أفضل المكاسب ووضعها على طاولة التفاوض الإقليمية المقبلة، لكن هذا كله لن يغيّر من حقيقة أن لا بديل عن تطبيق الاتفاق إلا تطبيق الاتفاق.
– الواضح أنّ رهان تشرين الأول هو رهان وخطاب وتسويق سعودي «إسرائيلي» أكثر مما هو أميركي، واللافت هو مشاركة ستيفان دي ميستورا في هذا التسويق، ما يكشف حقيقة تموضعه على أيّ ضفة، فبعدما كان الظنّ أنه أميركي الخيار يتبيّن أنه من عدة الشغل السعودية «الإسرائيلية»، ما يطرح أسئلة حول قدرته على مواصلة المهمة؟