من كتاب د. عادل سماره «ظلال يهو/صهيو/تروتسكية في المحافظية الجديدة» / تحالف ماديتان ــ اليهودية والتروتسكية (1)
تنشر «البناء» على حلقات أجزاء من كتاب د. عادل سماره «ظلال يهو/صهيو/تروتسكية في المحافظية الجديدة». والكتاب يتناول عناوين عدّة، أولاً: «نشوء المحافظية الجديدة ـ تواشج ليبرالي يهودي تروتسكي»، ثانياً: «التروتسكية وتفكّك الاتحاد السوفييتي»، ثالثاً: «نتنياهو نموذج لسياسة محافظة جديدة»، رابعاً: «التروتسكيون والربيع العربي»، خامساً: «التروتسكية وأميركا الجنوبية»، وسادساً: «الهند بين الغوارية الماوية، تواطؤ التروتسكية والإقرار الأوروبي بفساد سلطتها»، إضافةً إلى تمهيد ومقدمة.
وإذ تقوم «البناء» بنشر أجزاء من الكتاب، فلأنها تريد أن تساهم في تعميم حقيقة الارتباط القائم بين اليهودية العالمية وبين الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. إضافةً إلى إظهار ناحية أساسية في هذا الارتباط وهو قيامه على قاعدة الرأسمال المعولم الذي وضع أسسه أمشيل ماير روتشيلد في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، والذي جرى تأسيسه في العالم الجديد، أميركا، عبر مجمعات مالية ضخمة مثل مجموعة كوهين لوب ومجموعة م.م. واربورغ ومجموعات مورغان وسواها، وقبل ذلك بالسيطرة الروتشلدية التامة على مصارف أوروبا واستطراداً أميركا. يظهر الكاتب حقيقة الثالوث الجهنمي اليهودية ـ الصهيونية ـ التروتسكية، الثالوث الذي يتحكم بكثير من مفاصل السياسة الدولية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذا العدد، سنتطرّق إلى فصل «نشوء المحافظية الجديدة – تواشج ليبرالي يهودي تروتسكي»، والذي يفصل فيه الكاتب أصول نشأة هذه المحافظية الجديدة على يد «ايفرينغ كريستول» 1920 2009، وقبله ليفي شتراوس الذي يُعتبر الأب الروحي للمحافظية الجديدة، إضافةً إلى الإشارة إلى تلامذة ليفي شتراوس والذين عُيّنوا في ما بعد في أكبر المناصب الرسمية في الولايات المتحدة الأميركية.
يعرض الكاتب في هذا الفصل إلى الفلسفة التي تتحكّم بسلوك المحافظين الجدد والقائمة على احتقار الديمقراطية، واعتبار الإنسان شريراً بطبعه. والكاتب في هذا الفصل يعرض أيضاً أفكار بعض الكتّاب حول المحافظية الجديدة، وقد أطلق عليهم اسم «مفكرو نيويورك» وعلى رأسهم الفيلسوف الماركسي سيدني هوك.
لقد أشار الكاتب في هذا الفصل إلى البدايات العملية لتكوّن المحافظية الجديدة في أواخر الستينيات من القرن الماضي. وكانت البدايات قد قامت على يد اليهود والتروتسكيين، إضافةً إلى العديد من الأنشطة التي مارسها هؤلاء المحافظون داخل الولايات المتحدة وخارجها.
نشوء المحافظية الجديدة… تواشج ليبرالي ـ يهودي ـ تروتسكي
لعل المقتطف التالي يوضح نشوء وطبيعة المحافظية الجديدة، ربما بأبعد مما قصد كاتبه:
«يعود الفضل في ذلك إلى شيخ شيوخ المحافظين الجدد إيفرينغ كريستول، 1920ــ 2009 الذي أسّس في باريس عام 1950 «المؤتمر من أجل حرية الثقافة» بتمويل من المخابرات الأميركية، بحسب تحقيقات المخابرات الفرنسية عام 1967 وقرار شارل ديغول بإقفال المؤتمر. غيّر اسمه إلى «الجمعية العالمية من أجل حريّة الثقافة» . جمع المؤتمر معظم ما يخطر على البال وما لا يخطر من مثقفين يساريين مهتدين «إلى الحرّية وحقوق الإنسان» واشتراكيين ـ ديموقراطيين و«إنسانيين» ويمينيّ الوسط في 53 بلداً أليوت كوهين، سيدني هوك، ليو شتراوس، ريمون آرون، دانيال بييل، جان بول سارتر، آلان تورين، كارل جاسبير… ، وتبوّأ تلاميذهم أعلى المناصب الحكومية جيسكار ديستان، هنري كيسنجر، ريمون بار… وأعلى المناصب في «المؤسسات الدولية» والجامعات ومراكز الأبحاث وإدارة الدول والشركات الكبرى، وأنجبوا أولاداً وأحفاداً ملأوا الأرض بالخبراء والمفكرين. لكن التحوّلات النيوليبرالية لم تقتصر على الثقافة و«التبشير»، إنما سرعان ما تحوّلت إلى إجراءات مادية ملموسة في القضاء على دور الدولة وتحويل صلاحياتها إلى سلطات «الشرعية الدولية» التي تنظّم وتشرف على «نمو» حرية السوق الدولية. منظمة التجارة العالمية، الشراكات الحرّة، البنك الدولي، «الفاو»، المجلس العالمي للمياه… . في موازاة ذلك أُنيط بالسلطة المحلّية تنظيم «الأمن والاستقرار» ومشاركة «مكوّناتها» في الحكم، لإدارة كل منها شؤون جماعته وتوزيع الحصص من عائدات سوق «الاستقرار والازدهار».
يحتوي ما تقدم على توضيح 4 مسائل رئيسية تهم هذا البحث بما هي ذات تأثير كبير على العالم وهي:
التاريخ المبكر للنيوليبرالية وهو السابق بثلاثة عقود على إطلاقها في حضن العولمة.
التوجه المعولم لفكرة النيوليبرالية بما يتجاوز الدولة نحو سلطة عالمية ولكن للدولة الأميركية وتجهيز فريق لأجل ذلك.
المكونات التروتسكية في هذا التوجه والفريق نفسه.
تطويع الأممية الشيوعية لمصلحة أممية السوق.
كما يمكن ملاحظة أن قرار الرئيس الفرنسي شارل ديغول إغلاق المؤتمر هو ضمن سياسته باستقلال فرنسا عن التبعية للولايات المتحدة حيث فكّ علاقة بلاده مع حلف الناتو العدواني الرأسمالي الغربي مقللاً من خطر السوفيات ومتوقعاً تفككه باكراً بسبب، بحسب رأيه، تورطه في سباق التسلح مع الولايات المتحدة. وكما لاحظنا، فقد أُعيدت فرنسا إلى الناتو بعد ديغول وخصوصاً في عهدي ساركوزي وأولاند وأصبحت مشاركة قوية في عدواناته ولا سيما في فترة تحكم المحافظين الجدد بالسلطة في الولايات المتحدة بدءاً من قصف يوغسلافيا 1998 وصولاً إلى تدمير ليبيا 2011 ومحاولات تدمير سورية الجارية حتى اللحظة.
تتطابق بدايات ومن ثم إطلاق المحافظية الجديدة والنيوليبرالية مع بدايات مبكرة للتيار التنقيحي في الصهيونية قبل وصوله إلى السلطة في الكيان الصهيوني الأشكينازي، حيث يعود التيار التنقيحي في الحركة الصهيونية إلى بدايات هذه الحركة إذ بقي التيار المنافس، للتيار «اليساري» العمالي، هذا من دون أن نجهل المنطلق الموحّد جوهرياً بين التيارين. لكن صعوده إلى السلطة عام 1977 مثل نقلة نوعية في النخبة الأشكينازية الحاكمة في الكيان الصهيوني.
طبعاً ليس من معنى حقيقي لما يسميه الكاتب بالتيار اليساري العمالي سوى بمفاهيم الإيديولوجيا الصهيونية التي يفترق يسارها ويمينها عن بعضهما في الدرجة لا النوع! وربما كان هذا الاقتراب حتى التطابق بين «اليسار» واليمين في الكيان الصهيوني الأشكينازي هو أبكر اقتراب حصل في معسكر الغرب الرأسمالي بين يسار ويمين الإمبريالية.
نمت في الستينات حركة سياسية أميركية محلية عُرفت عموماً باسم المحافظية الجديدة. واللافت أنها بدأت بشكلٍ كبير في دوائر ثقافية يهودية امتدت بعد ذلك إلى النقاش السياسي على مستوى قومي ولا سيما في ظلّ إدارتي المحافظين ريغان وبوش الأب.
وأيضاً بشأن الارتباط بين المحافظية الجديدة وبعض اليهود نورد ما يلي، ويمكن تتبع جذورها في مواقف عناصر يائسة تتضمن التروتسكية، والاشتراكية الأميركية والليبرالية الأميركية، لذا، لا غرابة أن كثيرين من المحافظين الجدد كانوا داعمين لـ»إسرائيل» وليس شرطاً جميعهم.
«…يعتبر ليفي شتراوس، 1899-1973 وهو يهودي ألماني هاجر إلى أميركا عام 1938، بمثابة الأب الروحي للمحافظية الجديدة في المستوى الفلسفي. كما يعتبر الاقتصاديان ملتون فريدمان وفريدريك هايك من جامعة شيكاغو الأب الروحي اقتصادياً للمدرسة النقودية والنيوليبرالية. ولد ليو شتراوس Leo Strauss في مدينة كرشن هايمن بألمانيا 20/9/1899 وتوفي في مدينة آنا بوليس الأميركية في 18/10/1973. وقد تتلمذ شتراوس على أيدي أساتذة كبار أمثال Heidegger ، Gassiererو Hassere حيث بدأ حياته العلمية باحثاً في أكاديمية العلوم السياسية والديانة اليهودية ببرلين خلال السنوات 1925 – 1932 ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1938. كما أنه مارس التدريس بالمدرسة العليا للبحوث الاجتماعية في نيويورك عام 1949، وتقلّد منصب بروفيسور الفلسفة السياسية في جامعة شيكاغو، وأسس فلسفة سياسية باسم «الشتراوسية».
المرتكزات الرئيسية للشتراوسية
الكتب القديمة كمصدر للمعرفة والينبوع الأوحد للحقيقة.
رفض نظريات الحداثة وما بعد الحداثة بما فيها الوجودية والتاريخية والهيغلية وبشكل أشد الماركسية.
النفور الكامل من مبادئ الديمقراطية والليبرالية الكلاسيكيتين.
القوة أداة إنجاز الأهداف.
لا أسس موضوعية للمبادئ والأخلاق.
الاعتقاد بوجود تفاوتات للسمو والوضاعة.
تقسيم المجتمع إلى فئات من العامة والسادة والحكماء والمبتذلين.
بالنسبة إليه، ليست الديمقراطية مسألة منسجمة لذا يجب استخدامها لتضليل الجماهير ذات القوة الكامنة لتعبئة هذه الجماهير وتحريف إرادتها لأجل تطويعها والتحكم بخياراتها الذاتية حتى لو تضمن ذلك حجز حريتها وهذا ضروري لإنجاز أهداف فئة الحكماء والسادة. الديمقراطية لديه هي حصر السلطة في يد القلّة الغنية لقيادة المجتمع.
ينحاز إلى الاستبداد الذي دافع عنه الحكماء القدامى لمواجهة الفلاسفة الحداثيين كسوقيين ومبتذلين. كما أخذ من كتب الأديان القديمة تمجيد القوة كوسيلة وحيدة لتحقيق الأهداف والغايات المطلوبة. العدالة هي مجرد مصلحة القوي وهنا يتفق مع أفلاطون. كما يلتقي مع نيتشه في أن الحضارة ستقود إلى انتصار الفئات المنحطة في المجتمع.
تشي هذه المرتكزات عن نفسها، فهي بوضوح الإيديولوجيا الأفضل للسيطرة الرأسمالية على العالم بتمجيد القوة واستخدامها من جهة وتطويع الديمقراطية لتكون أداة للقوة لا أكثر أي في خدمة توسع السيطرة الرأسمالية على العالم الذي هو برأيها متخلف وعليه أن يُطيع من جهة ثانية.
التلاقي والتلاقح
استند المحافظون الجدد الذين ظهروا في الستينات والسبعينات فترة أوج أميركا إلى تنظير شتراوس واليمين الديني القائم على الاندماج المسيحي ـ اليهودي الجديد اليهوسيحية التي ركزت على السياسة الأميركية في الوطن العربي والشرق الأوسط. وهنا تدخل السياسة المباشرة بل ويدخل تركيز أهداف المحافظية الجديدة ضد الوطن العربي وذلك لمصلحة الكيان الصهيوني.
ومن حيث اليمين، ركز المحافظون الجدد على المثلية والإجهاض واللواط، إلخ…
تجلّى تأثير ليفي شتراوس على المحافظية الجديدة مع حلول تسعينات القرن الماضي، حيث جرى رفد المحافظية الجديدة بالعديد من الروافد الثقافية الأخرى. جاء أحد هذه الروافد من تلامذة المنظّر السياسي اليهودي الألماني، ليفي شتراوس الذي وإن لم يتخذ موقفاً مباشراً من السياسات المعاصرة أو القضايا السياسية إلا أنه كان شديد الاهتمام بأزمة الحداثة التي طرحتها نسبية نيتشه وهايدغر.
فأزمة الحداثة من جهة، ورسوخ الديانات والآراء المعبرة بعمق عن الحياة كما يزعم كانتا عماد فلسفته. وهذا كما يبدو ما التقطه منه المحافظون الجدد بحيث ركَّبوا ذلك المزيج المسمى «اليهو-سيحية» والتي بالضرورة تعادي الإسلام فما بالك بالشيوعية.
«أتى رافد آخر من آلبرت والستتر، وهو استراتيجي من مؤسسة «راند» كان أستاذاً لريتشارد بيرل وزلماي خليل زاد السفير الأميركي الأسبق في العراق وهو الذي أرسى تقسيم العراق طائفياً سنة وشيعة وعرباً وأكراداً بعد احتلاله عام 2003 ع.س وبول وولفوفيتز النائب السابق لوزير الدفاع ، وآخرين. كان والستتر شديد الاهتمام بمشكلة الانتشار النووي وبواقعة أن اتفاق حظر انتشار الأسلحة النووية لعام 1968 ترك منافذ، في دعمه للطاقة النووية «السلمية»، واسعة بما يكفي لبلدان، مثل العراق وإيران، لتمرّ عبرها. لديه ارتباطات عديدة بتيارات مختلفة تابعة لحركة المحافظين الجدد. يقول: كنت تلميذاً لآلان بلوم، الذي كان يرعاه شتراوس، والذي كتب سلسلة «ذي كلوزينغ أوف أميركيان مايند» انغلاق العقل الأميركي وعملت في «راند» مع والستتر حول قضايا الخليج الفارسي وعملت أيضاً في مناسبتين مع وولفوفيتز».
وللانتقال من المستوى الفلسفي والديني إلى المستوى القومي السياسي التطبيقي، والطبقي تحديداً: «فإن النقطة الأساسية في فكر ليو شتراس الفلسفيّ، والتي بني عليها المحافظون الجدد غالب تجسيداتهم الفكرية للسياسة الأميركية، هي المهمة التاريخية للولايات المتحدة، وهي أشبه بفكرة الحقيقة المُتخيَّلة التي تقول بأن الناس في المجتمعات المعاصرة يعيشون في عالم مُصطَنع تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والخيال ويندمجان، أو يفترض أن يتم ذلك بوقع الهيمنة الأميركية». ولعل هذا يوضح اهتمام شتراوس بالسياسة أكثر مما يعتقد البعض. والمهم في الأمر أن حديث شتراوس المعمم عن الولايات المتحدة يغطي حقيقة قناعاته التي هي دور الرأسمالية في الولايات المتحدة في السيطرة على العالم. فلا شك أن شتراوس لا يقصد بالولايات المتحدة أكثر من 40 مليون فقير من الأفارقة الأميركيين ولا قرابة نصف الولايات المتحدة من الأصول المكسيكية ولا حتى الطبقة العاملة البيضاء. فهو يقصد سيطرة الطبقة الرأسمالية تحت غطاء القومية الأميركية ومن هنا تأثره بالنازية ولا سيما أستاذه مارتن هيدغر. ومن هنا أيضاً نفهم أن تجاوز الدولة لم يقصد به شتراوس مطلق دولة، بل هو ينسب إلى الدولة الرأسمالية في الولايات المتحدة دوراً لتقود العالم نحو إمبراطورية، تورّط في الحديث عنها والتنظير لها لاحقاً هاردت ونيجري. ويبدو أن هذا التأثير الشتراوسي أغرى قيادات تروتسكية لتضع نفسها في خدمة إمبراطورية المحافظية الجديدة وبالطبع لامس هذا التنظير للإمبراطورية هواهم «الأممي» وأكثر من ذلك موقفهم الصهيوني وهو ما تجلى في أن أول وأهم تطبيقات المحافظية الجديدة كان تدمير العراق ولاحقاً ليبيا وسورية وكل ذلك في خدمة الكيان الصهيوني.
من ناحية عملية، فإن غالبية تلامذة شتراوس أضحت في محيط صناعة القرار في الولايات المتحدة كما هو الشأن بالنسبة لديك تشيني وولفويتز ورتشارد بيرل وجون أشكروفت وروبرت كاغان ودوغلاس فيت وأبراهام شولسكس وجيمس وولسلي ناهيك عن أباطرة الإعلام من أمثال روبيرت ميردوخ وبيل كريسطول ومايكل ليدين وستيفن براين ودانييل بايبس وما سواهم. ويعمل هؤلاء جميعاً في تناسق كامل وعميق وما نظّر له فلاسفتهم ومفكروهم لا سيما مرجعهم الأعلى: ليو شتراوس. ومعلوم أن من بين أهم وصايا هذا الأخير، ما يوصف بـ»الكذبة النبيلة». ومفادها أن الكذبة إياها إنما هي «أداة من أدوات السياسة الحكيمة… المهمة والضرورية ما دامت في خدمة المصلحة الوطنية». ولعل أنبل كذبة هي زعم وزير الخارجية الأميركي كولن باول بأن لدى العراق أسلحة دمار شامل لتبرير تدميره عام 2003 ليعود الرجل نفسه ويؤكد أنه كاذباً. أو تمرير مزاعم ابنة السفير الكويتي ضد العراق عام 1990 زاعمة أن الجنود العراقيين قطعوا الأوكسجين عن مولودة خداج وهو مرتبط بتنفس اصطناعي في حاضنة أو الكذب في الحرب الإعلامية ضد سورية وأخيراً، تزوير محطتي فوكس نيوز وABC الأميركية حيث عرضت صور الضحايا والدمار ضد غزة في تموز 2014 على أنهم ضحايا ودمار في الكيان الصهيوني.
والإدارة الحالية تحتقر الديموقراطية عندما تمرّر لفكرة شتراوس بأن «الإنسان شرير جداً، لذا يجب أن يحكم». وبالتالي، وجب استباق سلوكه قبل أن يلجأ إلى اعتماده « فيصيب به الآخرين».
قد يضع التفكير الأولي «الكذبة النبيلة مبررة ما دامت في خدمة المصلحة الوطنية» التي طرحها ليفي شتراوس قد يضعها في خانة النصائح الفلسفية أو نصائح الحكماء. فقد قرأها البعض كما تُقرأ نصائح الحكماء القدامى. لكن طرح تعميمات كهذه هو في خطورة استخدام أسلحة الدمار الشامل. فما هي المصلحة الوطنية التي يتحدث عنها شتراوس في القرن العشرين؟ ما هو الوطن؟ هل الوطن الأميركي أم هو وطن العالم بأسره؟ هل العالم وطن واحد وشعب واحد وسلطة واحدة؟ ألا تتناقض مصالح وطن مع أوطان أخرى؟ بل تتناقض حتى بالسلاح كما هي الحربان العالميتان وسلسلة الحروب بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ألم يتم تبرير احتلال العراق بحجة خطورته على الأمن القومي الأميركي وإقامة نظام ديمقراطي فيه باعتبار هذه الديمقراطية «واجب» المحافظين الجدد؟ واحتلال أفغانستان وشنّ حروب كثيرة. هذا من دون أن ندخل في مسألة أن المصلحة الوطنية لا تعني ولا تشمل ولا تخدم حتى جميع الأميركيين، فالسود الأميركيون لا حصة لهم من اغتصاب نفط العراق، ولا حصة للطبقة العاملة السوداء هناك ولا حتى البيضاء. احتلال العراق هو بتحريض ولمصلحة الشركات الأميركية، رأس المال ولإضعاف قطر عربي لمصلحة الصهيونية.
ألان بلوم
كان ألان بلوم وطالبه فرنسيس فوكوياما من أعضاء حلقة شتراوس وامتداد تام لأطروحاته. سنرى لاحقاً كيف زعم فوكوياما بأنه لم يكن مع المحافظين الجدد .
ربما يتضح جوهر المحافظية الجديدة من اعتمادها موقف ألان بلوم الذي حوَّل الخداع الفلسفي لشتراوس إلى سياسة مكيافيلية مرفوعة إلى درجة الوقاحة على صعيد عالمي: …»الحقيقة السرمدية التي أوردها منظّر نخبة المحافظين الجدد ألان بلوم، يبدو أنها طبقت من قبل الشلة في أروقة البيت الأبيض، التي جاءت على لسان أحد كبار المستشارين بالبيت الأبيض، وبرزت من خلال لقاء معه… نشرته مجلة «نيويورك تايمز»، يقول: «أن يعيش المعلقون أو المراسلون في الصحافة والإعلام في مجتمع واقعي صادق، أو يعتقدون بإمكان الوصول إلى حلول عقلانية مناسبة، لا بد أنهم غرباء عن عالمنا المعاصر… حيث توقف هذا العالم منذ زمن بعيد. نحن الآن امبراطورية تصنع حقيقتها بذاتها والخاصة بها… إن شئتم تحليلها عقلانياً… سنظل نكرر الحقائق الملفقة من قبلنا. نحن قوة فاعلة، بل صناع تاريخ… بلا شك تستطيعون الاستمرار في نقد ما نعمله».
من المدهش حقاً أن هذا الحديث شديد الفجاجة لم يتهمه أحد بالشمولية، بل ظلت التسمية حتى اليوم ملصقة بالدول الاشتراكية التي إذا كانت شمولية فشموليتها محصورة في هذه الدولة أو المجتمع أو ذاك. أما هذه المحافظية الجديدة فهي شمولية معولمة تخترق القوميات والجغرافيا بالقوة العارية ومن دون أن تناور لإخفاء أهدافها، ومع ذلك بقي الكثيرون يسمونها أي الولايات المتحدة موئل الديمقراطية. أن يكون مخطط أو أطماع قيادة دولة السيطرة على العالم بالحديد والنار، ذلك ممكنا وطالما حصل في التاريخ، أما أن تقول دولة بوضوح بأنها سوف تستعبد العالم وتبقى منارة الحريات، فهذا أمر يثير الشك الوطني والقومي والطبقي والإنساني في كل من يتبع هذه الدولة/المتوحشة أو يدافع عنها أو حتى لا يقاتلها.
آليات الاحتواء الرسمي: التروتسكيون في المقدمة
ما يلي مقتطفات مما كتبه دونيس بونو تحت عنوان: «مفكرو نيويورك واختراع المحافظين الجدد»: «…انطلاقاً من عام 1945، جندت مصالح الدعاية الأميركية والبريطانية مفكرين منحدرين عادة من الأوساط التروتسكوية لأجل اختراع وترقية «إيديولوجية قادرة على منافسة الشيوعية». مفكرو نيويورك، على رأسهم سيدني هوك، أدوا بحماس وفاعلية العديد من المهمات التي عهدها إليهم مكتب الاستعلامات المركزية الأميركية، بسرعة أصبحوا ضباط المخطط الأول من الحرب الفكرية الباردة. منظرون قياديون من هذا التيار، مثل جامس برنهام وأرفين كريستول، صاغوا فصاحة المحافظين الجدد التي يتكئ عليها صقور واشنطن اليوم».
في الولايات الأميركية، كان الظرف أكثر من مناسب. محاكمات موسكو، نفي تروتسكي، الذراع الأيمن الأسبق لـ»لينين»، والاتفاق الألماني السوفياتي أساءوا كثيراً إلى الحزب الشيوعي. في هذا الإطار، التحق الماركسيون بالجناح التروتسكي اليساري الراديكالي، تحالف جانب منهم مع مكتب الاستعلامات المركزية الأميركية. بعد سلسلة من الإخفاقات الرهيبة، تراجعت المصالح السوفياتية عن أية هيمنة إيديولوجية في الولايات الأميركية واختارت منح الامتياز لدول أوروبا الغربية، بالخصوص فرنسا وإيطاليا.
مصالح الاستخبارات البريطانية والأميركية صنعت فكرة ذات صدقية معينة وعالمية لأجل منافسة الماركسية ـ اللينينية. في هذا الإطار، ولَّد مفكرو نيويورك ـ سيدني هوك، جامس برنهام، ارفنينغ كريستول، دانيال بيل… ـ مقاتلين ثقافيين على درجة عالية من الكفاءة.
«الضربات الملوية» الأولى
مفكرو نيويورك ليسوا بحاجة إلى التسلل إلى الأوساط الشيوعية: «إنهم يوجدون فيها ويُعرفون بكونهم مناضلين تروتسكيين. بتوظيف مكتب الاستعلامات المركزية لشخص مثل الفيلسوف الماركسي سيدني هوك حصلت على المعلومات الضرورية عن اليسار الراديكالي الأميركي، وحاولت تخريب التجمعات الدولية التي كانت ترعاها موسكو.
ثم أخذا بدروس «ضربة والدورف»، رتب مكتب الاستعلامات المركزية الأميركية والبريطانية معاً عملية جمع التروتسكيين في الحرب السرية ضد موسكو، إلى درجة جعلها حالة دائمة من «الحرب البسيكولوجية» التي خاضوها ضد الاتحاد السوفياتي.
«في هذا المنطق من المكيدة، كانت مبادرة السيناتور ماكارثي، مدعومة بحذر من قبل هوك الذي نشر مقالين، «مخالفة المألوف نعم!» و»مخاطر اليقظة الثقافية» تظاهر عبرهما بأنه ينتقد ماكارثي. شجع على الوشاية ضد الموظفين، المفكرين والسياسيين المقربين من الشيوعيين. ادعى هوك دائماً في ما بعد أنه لم يساند قط السيناتور ويسكونسن، وهو ما تستنكره الفيلسوفة حنا أريندت، التي كانت حليفة طبيعية لهوك. عندما موّل مكتب الاستعلامات المركزية المفكرين «الأوروبيين». للتذكير فقط، فإن الكثير من المثقفين العرب لا يعرفون عن علاقة حنا اريندت بسيدني هوك.
سيدني هوك في عبارة «مخالفة المألوف نعم!» يصف الوضع الإيديولوجي «للمتحررين الواقعيين» ومفهوم «الذنب عن مخالطة». استنتج أنه على الدولة أن تمارس «مطاردة السحرة» بإبقائها على مظهر النظام الليبرالي. لأجل هذا، على الإدارة، بدل أن تجرم الموظفين الشيوعيين، عليها أن تجبر الأشخاص المشكوك في أمرهم على الاستقالة. في ما يخص الأساتذة، ذكر هوك أن الأستاذ الشيوعي «يمارس احتيالاً مهنياً حقيقياً».
في عام 1972، غادر سيدني هوك نيويورك وأصبح إلى غاية موته واحداً من أهم المنظرين المحافظين الذين تجمعوا في خضم مؤسسة هوفر… بارتياده دوائر الدبلوماسية السرية، أصبح سيدني هوك محافظاً محترماً من قبل الحكام. في عام 1985، منحه رونالد ريغان أعلى امتياز مدني أميركي، ميدالية الحرية في اليوم نفسه مُنح وساماً إلى فرانك سيناترا وجيمي ستيوارت. توفي عام 1989.
دعم المجلات
في تكتيك من مكتبي الاستعلامات المركزية الأميركية والاستخبارات البريطانية ركز دانيال بيل الوقت، على «تحويل» المناصرين التروتسكيين وضمان طاعتهم. لأجل هذا، استثمرت المكاتب جانباً من الأموال السرية التي كانت بحوزتها لأجل «إنقاذ» المجلات الراديكالية من الإفلاس التام. بهذا الشكل تلقت مجلة «Partisan review» المقتطعة من مفكري نيويورك، المنبر القديم للشيوعيين الأرثوذكس، ثم التروتسكيين.
تلقت العديد من المساعدات المادية. في عام 1952، بفضل دانيال بيل منح «هنري لوس» رئيس إمبراطورية «Time-Life» 10.000دولار حتى لا تحتفي المجلة. في السنة نفسها، نظمت مجلة «Partisan Review» حلقة دراسية كان موضوعها العام: «تحولت أميركا اليوم إلى حامية الحضارة الغربية».
والسؤال هنا: هل يفسر هذا لماذا تتوفر لدى المنظمات التروتسكية إمكانات مالية كبيرة بحيث يتصدرون مختلف قوى اليسار من حيث الإنفاق على المجلات والكتب ولاحقاً مواقع الإنترنت. وهذا ليس في الغرب الرأسمالي بل كذلك في العالم الثالث والوطن العربي وخصوصاً في مصر وإلى حد ما لبنان؟
عرّاب «كويستلير»، هو جامس برنهام، الذي ولد عام 1905 في شيكاغو. أستاذ في جامعة نيويورك، تعاون مع عدد من المجلات الراديكالية و شارك في بناء « Socialist Workers Party». سنوات من بعد، نظم انشقاق مجموعة تروتسكي
عام 1941، نشر « Managerial Revolution»، منشوراً مستقبلياً للمجلس لأجل الحرية والثقافة، تُرجم في فرنسا عام 1947 تحت عنوان «عصر المنظمين». ارتداد «برنهام» في غاية المشهدية. في ظرف سنوات، بعد أن التقى مسؤول شبكة «ستاي بيهاند»،»فرانك وسينر و مساعده كارمن أوفي، صار واحداً من المنتقدين المدافعين عن الولايات المتحدة الأميركية، التي هي حسبه بمثابة المتراس الوحيد في وجه البربرية الشيوعية. أعلن: «أنا ضد القنابل المخزنة حالياً في سيبريا والقوقاز، والتي وضعت لتدمير باريس ولندن و روما … والحضارة الغربية بصفة عامة … لكنني مع القنابل المخزنة في لوس ألاموس … والذي منذ خمسة أعوام سعى إلى الدفاع ـ الدفاع الوحيد ـ عن الحريات في أوروبا الغربية».
شاختمان
«وباحتفاظه لأكبر مدة ممكنة بخطابه اليساري المتطرف، صنع «ماكس شاختمان» من «حزب الديمقراطيين الاجتماعيين الأميركيين» مستودعاً لمكتب الاستعلامات المركزية قادراً على إفقاد صدقية تشكيلات اليسار المتطرف، بينما صار أحد أهم مستشاري المنظمة النقابية المناهضة للشيوعية».
نجد في المكتب السياسي لحزب الديمقراطيين الاجتماعيين الأمريكيين SD/USA شخصيات مثل جان كيركباتريك، والذين صاروا أيقونات عهد ريغان. في إطار غموض تام للأنماط، و بول وولفويتز المُنظر من اليمين المتطرف تدخل كخطيب في مجلس حزب اليسار المتطرف. صار كارل غيرشامن رئيساً لحزب الديمقراطيين الاجتماعيين الأمريكيين SD/USA ، هو اليوم المدير التنفيذي لـ « National Endowment for Democracy «..
بصفة عامة، أعضاء ذلك الحزب بمن فيهم كبار المتناوبين من مجلة « Commentary « و « Committee for the Free World «، تم تكريمهم على مراوغاتهم انطلاقاً منذ بدء انتخابات رونالد ريغان. مفكرو نيويورك لم يطوّروا من النقد ضد اليسار الشيوعي فحسب، بل اخترعوا غطاء «من اليسار» للأفكار اليسارية المتطرفة، حيث المصدر النهائي هو المحافظية الجديدة. هكذا، هل يستطيع، آلن كريستول وأصحابه تقديم جورج بوش بثقة على أنه «مثالي» يعمل على «دمقرطة» العالم؟