الغدر بالإنسان وتشويه الثقافات…
عصام نعمان
يرى كثيرون على امتداد عالم العرب أنّ الأقليات، ولا سيما المسيحية منها، عرضة لحملة اضطهاد وتنكيل وتقتيل وتهجير. هذه، للأسف، حقيقة راهنة. لكن ثمة حقيقة أخرى لا تقل راهنية عنها هي أن الأكثريات، بمختلف تلاوينها، تتعرض أيضاً للاضطهاد والتنكيل والتقتيل والتهجير، وأخطرها جميعاً الغدر بالإنسان وتشويه الثقافات ومحاولة إلغائها.
في كتابه الأخير، «أغصان الكرمة: المسيحيون العرب»، يتصدّى الدكتور عبد الحسين شعبان بعقل وعلم ومعرفة وجسارة لكشف أخطاء شائعة واستكمال معلومات مبتورة والتنبيه إلى تحدّيات خطيرة ماثلة. ذلك كله يفعله شعبان إيماناً منه بالإنسان بما هو «مقياس كل شيء»، على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، والتزاماً بحقوق الإنسان بما هي شرعة الأمم ودستورها المعاصر.
لا يرتاح شعبان إلى مصطلح «الأقليات» رغم انه مستخدم من جانب الأمم المتحدة، خصوصاً بـِ «إعلان حقوق الأقليات» الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18/12/1992، أو «إعلان حقوق الشعوب الأصلية» الصادر عن المرجعية نفسها في 13/9/2002. يفضّل عليه مصطلح «المجموعات الثقافية» الذي ينطوي على تعددية دينية أو اثنية أو لغوية، ويجده أقرب إلى مبادئ المساواة والتكافؤ وعدم التمييز وذلك في إطار الحقوق المتساوية، ولا سيما حقوق المواطنة. فمفهوم «الأقلية» و«الأكثرية» يحمل، في رأيه، معنى التسيّد من جهة والخضوع والاستتباع من جهة أخرى، أي اللامساواة، وذلك سيكون انتقاصاً من دين أو قومية أو لغة أو غيرها من المكوّنات بزعم كونها أقلية».
الأقليات هي، إذاً، ثقافات. والثقافات تنطوي على عناصر ومكوّنات متعدّدة، منها الدين واللغة والاثنية والتقاليد. وقد يكون أحد هذه العناصر فاعلاً في بعض المجتمعات أكثر من غيره فيصبح موضوعاً جاذباً للانتماء والتماهي، أي يصبح هوية، ومع ذلك يبقى جزءاً من كيان معنوي أكبر وأعم هو الثقافة.
لعلني، في هذا المجال، أذهب إلى أبعد من مقولة شعبان بأن الأقلية هي في الواقع ثقافة. أقول إن الثقافة، ثقافة الإنسان الفرد كما ثقافة الجماعة، هي عامل رئيس في الحياة، بالتالي في تحديد مصلحة الفرد والجماعة. كارل ماركس يجزم بأن المصلحة، المصلحة المادية خصوصاً، هي العامل الأول المقرر في حياة الإنسان. لكن، كيف يحدد الإنسان مصلحته ويتخذ قرارات في ضوئها؟ أَلا يفعل ذلك من خلال ثقافته، أي من خلال مكوّنات ثقافته المتعددة، ومن ضمنها بالتأكيد العامل المادي أو الاقتصادي؟
إلى ذلك، فإن المسيحيين العرب، وربما غيرهم من الأقليات» أو الثقافات، ليسوا أقلية. إذا كانوا وما زالوا عرباً فهم، إذاً، جزء من الأكثرية الساحقة التي تعتبر نفسها عربية في عالمنا. إذا كانوا وما زالوا جزءاً من الثقافة العربية السائدة، فهم إذاً جزء من الأكثرية الساحقة التي تحملها وتمارس معاييرها في عالمنا. وإذا كانوا وما زالوا ينتمون كلياً أو جزئياً إلى جماعة سياسية تشكّل في زمان ومكان الأكثرية في المجتمع أو في البلاد، فهم إذاً ليسوا أقلية بالمعنى العددي المتعارف عليه.
يذكّر شعبان الجاهلين والمتجاهلين بأن «المسيحية هي بنت المنطقة العربية وأن الثقافة المسيحية، منذ ألف عام ونيّف، كُتبت بالعربية، والأمر لا يقتصر على فرقة أو مذهب، أو طائفة، بل إن المسيحية بجميع توجهاتها وألوانها اختارت ذلك».
ولأن الحضور بشتى أشكاله وتعبيراته أوزن في ميزان الفعالية من العدد، فقد حرص شعبان على تذكيرنا جميعاً بأن كثرةً وازنة من رموزنا وكبارنا وقادتنا وقدواتنا كانت، قديماً، مسيحية. ألم يكن حاتم الطائي، رمز الكرم، مسيحياً؟ ألم يكن كذلك امرؤ القيس والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد، وهم أشهر الشعراء القدامى، من المسيحيين؟ ألم يكن كذلك عنترة بن شداد، وهو رمز الشجاعة والفروسية؟ أما في التاريخ المعاصر فإن قائمة الرّواد والقادة والمجددين والمبدعين في شتى ميادين الحياة تفيض بأسماء مسيحية ساطعة: البساتنة واليازجيون والشدياق في اللغة، وفرح أنطون وشبلي شميّل وأديب اسحق في التجديد والتحديث، وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وخليل مطران والأخطل الصغير في الأدب والشعر، والبابا شنوده والمطران جورج خضر في الفكر والممارسة الدينيين التوحيديين، وأمين الريحاني وأنطون سعاده وميشال عفلق وفهد يوسف سلمان يوسف وسلامه موسى وجورج حبش ونايف حواتمه وسمير أمين في الدعوة القومية واليسارية والتنظيم الحزبي، والعشرات غيرهم في ميادين العمل العام.
يلاحظ شعبان تعاظم التمييز والاضطهاد والتنكيل والتهجير بحق المسيحيين، وهم أكبر المجموعات الثقافية غير الإسلامية في عالم العرب. فقد أضحوا، بعد موجة ما يسمى الربيع العربي «هدفاً سهلاً للإرهاب وضحايا جاهزين لفرض نمط سياسي وديني واجتماعي معين، في إطار صراع أصولي وطائفي ومذهبي واثني، وغالباً ما يتم التشكيك بأصولهم ووطنيتهم وولائهم». لماذا؟
يردّ شعبان حملة التمييز والترهيب والتهجير ضد المسيحيين ونتائجها إلى دوافع سبعة:
الأول، دفع المسيحيين إلى الهجرة ما سيؤدي إلى ترسيخ الاعتقاد السائد بتعصب المسلمين وتطرفهم ورفضهم للآخر.
الثاني، تمزيق النسيج الاجتماعي لمجتمعات وشعوب ظلّت متعايشة على رغم نواقص وثغرات وسلبيات تتعلق بالحقوق وبمبدأ المساواة والمواطنة الكاملة.
الثالث، تعزيز الاتجاه القائل بعدم رغبة المسلمين في التعايش مع الغرب المسيحي الأمر الذي سيضع المسلمين الذين يعيشون في الغرب في دائرة الشك والارتياب.
الرابع، الإيحاء بأن استهداف مسيحيي الشرق دليل آخر على أن المسلمين يعملون على استئصال الأديان الأخرى ما يخدم ادعاء «إسرائيل» بأن صراعها مع العرب والمسلمين هو صراع ديني تناحري، إقصائي، لأنهم يريدون القضاء على اليهود.
الخامس، استهداف المسيحيين يؤدي إلى انحسار مساحة الديمقراطية وتدني مستوى الحريات العامة والشخصية الأمر الذي يرسّخ الاعتقاد بأن بيئة كهذه تشجّع على الإرهاب والعنف والاستبداد والإلغاء.
السادس، استهداف المسيحيين في الشرق ودفعهم إلى الهجرة يشكّل استنزافاً لطاقات علمية وفكرية وفنية وأدبية وكفاءات اقتصادية واجتماعية يمتلكها المسيحيون، وفي ذلك خسارة كبرى لشعوب المنطقة وطاقاتها البشرية.
السابع، استهداف المسيحيين في الشرق يؤدي إلى خسارة دعم كبير يقدّمه المسيحيون في الغرب والعالم للعالم العربي والإسلامي ولاسيما من قبل الفاتيكان والأوساط الكاثوليكية التي تعتبر أرض فلسطين كلها مقدّسة بالنسبة للمسيحية.
إن نظرة مدققة إلى الدوافع السبعة المار ذكرها تشير بوضوح إلى أن «إسرائيل» ودوائر صهيونية أو متصهينة في دول الغرب الأطلسي هي التي تقف وراء الحملة الظالمة على المسيحيين العرب. غير أن شعبان يضيف إلى هؤلاء جميعاً عاملين إضافيين. الأول هو الاحتلال الأميركي للعراق وتأجيجه «الصراع» السني الشيعي الذي غذّاه أمراء الطوائف بعد القسمة الضيزى لمجلس الحكم الانتقالي التي قررها الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. العامل الثاني صعود قوى الإسلام السلفي المتطرف، وفي مقدمها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش» وجماعات «القاعدة» وقوى التكفير مهما اختلفت تسمياتها التي تقول «إن على المسيحيين الانصياع إلى قدرهم وعدم المطالبة بالحقوق المتساوية والمواطنة المتكافئة لأنهم «ذمّيون» و«لا ولاية لذمّي»، وإذا أرادوا البقاء في «دار الإسلام» وتأمين حمايتهم، فعليهم إما الأسلمة أو دفع الجزية». ويستنتج شعبان بحق أن هذا «ما تريده «إسرائيل» التي تسعى لتصوير الصراع في المنطقة بوصفه صراعاً دينياً بين المسلمين واليهود وصراعاً طائفياً بين الشيعة والسنّة وليس صراعاً بين الصهاينة من جهة والشعب العربي الفلسطيني المهضوم الحقوق من جهة ثانية».
لا يتوانى شعبان في دحض مقولات ومدعيات الإسلاميين التكفيريين والتأكيد على احترام الإسلام للتنوع والتعددية والخصوصية الثقافية والدينية وتبنّيه لمفهـوم «حلف الفضول» الذي كان أبرم في زمن الجاهلية وتعاهد بموجبه فضلاء مكة على ألاّ يدعوا مظلوماً من أهلها أو ممن دخلها من سائر الناس إلاّ ونصـروه على ظالمه، وصولاً إلى «الصحيفة» أو «دستور المدينة» في المدينة يثرب ، وصلح الحديبة الذي كان ضمن حقوق نصارى نجران، إلى «العهدة العمرية» التي ضمن بموجبها الخليفة عمر بن الخطاب حقوق نصارى وطوائف القدس على حياتهم وأمنهم وكنائسهم وأموالهم.
كيف يمكن مواجهة هذه الحملة المغرضة على المسيحيين العرب؟ وكيف يمكن تأمين حاجتيهما الأساسيتين في مفهوم شعبان وهما التمتع بالمواطنـة الكاملة، والمساواة في الحقوق والواجبات؟
يدعو عبد الحسين شعبان، كما غيره من العروبيين الديمقراطيين التقدميين العرب، إلى معالجة الاختلالات الجسيمة في الحياة السياسية العربية التي تمسّ المحكومين جميعاً، مسلمين ومسيحيين، ببناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تكفل الحرية، والمساواة، والمواطنة، وحكم القانون، وممارسة الخصوصيات الثقافية، والتنمية. وقد ختم أبحاثه باستتناج لافت وهو «أن الهوية العربية، المتعددة والجامعة، ستكون أشمل وأعم وأكثر انسجاماً وثقة كلما كانت حقوق المجموعات الثقافية، الدينية والاثنية واللغوية والسلالية مؤمّنة ومحترمة، وأغنى بالحقوق والحريات والمساواة».
هكذا يتبّدى عبد الحسين شعبان في كتابه داعيةً ملتزماً بالحريات وحقوق الإنسان، ومحامياً عنيداً عنها في جميع الظروف والبلدان، ولا سيما في عالم العرب والمسلمين.