الأمة بين ثقافة الإقصاء وثقافة التكامل
معن بشور
أمام هذا الكمّ الهائل من المحن والدمار الذي حلّ بمعظم أقطارنا وانعكس تمزقاً في مجتمعاتها، واهتزازاً في دولها، وحرباً على جيوشها، وفتناً بين شعوبها، يبقى السؤال الملح: كيف المواجهة، وما هو السبيل للخروج من هذه المحن التدميرية؟
طبعاً الإجابة مركبة لأن المواجهة معقدة مربكة، فيها السياسي والأمني، كما فيها الاجتماعي والاقتصادي، فيها الداخلي وفيها الخارجي، لكن أحداً لا يستطيع استبعاد الجانب الثقافي والفكري من إستراتيجية المواجهة، فالحرب، كما يقولون، أولها كلام، بالتالي فالسلم الأهلي أوله كلام أيضاً.
لقد عاشت أمتنا على مدى عقود مضت بين ثقافتين متناقضتين هما «ثقافة الإقصاء» التي وقعنا في أسرها
جميعاً، حكومات ومجتمعات، أحزابا وتنظيمات، أفراداً وجماعات، وثقافة التكامل التي ما أعتمدها قائد أو جماعة أو حزب أو حتى فرد إلا وكتب لهم النجاح والانتصار على كل التحديات. تاريخنا القريب والبعيد مليء بالشواهد التي تؤكد على هذه المعادلة، كما هو مليء بالشواهد التي تثبت انه ما من مرة جرى التخلي عن هذه المعادلة إلا ودفع الجميع الثمن باهظاً.
ثقافة الإقصاء مصدرها الإحساس بفائض القوة الذي يقود إلى الإحساس بإمكانية الاستغناء عن الآخر، رأياً كان أم فكراً أم حزباً أم جماعة، بل إلى الإحساس بإمكانية إلغائه أو تصفيته إذا ظهرت منه بوادر اعتراض على إقصائه أو امتناع عن الاستسلام لمشيئته.
بل إن ثقافة الإقصاء تجد سنداً لها في بعض العقائد والأفكار، فيلجأ أهلها باسم الدين أو المذهب إلى التكفير، وباسم الوطن أو الطبقة إلى التخوين، بل كثيراً ما يستمدّ التكفير من التخوين مبرراً لسلوكه، فيما يلجأ أهل التخوين إلى فظاعات جماعات التكفير لتبرير تخوينهم لهم أو لغيرهم، فيبدأ الصدام عقائدياً ليصبح سياسياً بل ودموياً في نهاية الأمر.
ثقافة الإقصاء هذه لا تنطلق بالضرورة من نوايا سيئة أو مصالح ضيقة، بل إنها تنطلق بالدرجة الأولى من ضيق في الفكر، وقصر في النظر، ونقص في الخبرة، وقصور في الفهم، كثيراً ما يستغله أعداء الأمة لتحريض بعض أبنائها على بعضهم الآخر.
فأهل الإقصاء يعتقدون أن توازن القوى القائم في لحظة معينة، والذي قد يكون لصالحهم، هو توازن دائم يسمح لهم بالاستغناء عن الآخرين بل العمل على إقصائهم.
ثقافة الإقصاء ليست بنت الحاضر فحسب، بل أنها في تلك القراءة الانتقائية المبتسرة للماضي أيضاً، فيرى بعض أهلها في التاريخ ما يعزز منطقهم الإقصائي الإلغائي ويزوده بالأسانيد الشرعية، تماماً كما يرى البعض الآخر من أهلها في التجارب التي تمر بها شعوب أو أحزاب أو قادة معاصرون ما يزيّن لهم هذا الخيار الاجتثاثي والاحتكاري، ولعلّ نظرة تقويمية منصفة إلى تجاربنا جميعاً تجعلنا ندرك أن جميعنا قد عانى من نهج الإقصاء سواء حين تبناه أو حين كان ضحيته.
كذلك فثقافة الإقصاء تعاقب جماعة بأسرها بذريعة ما ارتكبه فرد أو أفراد منها وهي بذلك تجافي المنطق الإنساني، والشرع الرباني الذي أكد بأن لا نحمل وازرة وزر أخرى.
أما ثقافة التكامل، فعلى العكس من ثقافة الإقصاء، تنطلق من أن ما ينتظر الأمة كلها، وأقطارها قطراً قطراً، من تحديات لا يمكن لأي تيار أو نظام أو فئة أو جماعة أن تواجهه وحدها، بل إن هذه المواجهة تتطلب تكاملاً في الجهود والطاقات، في الرؤى والإمكانات، تكاملاً بين الأجيال والأقطار، بين العقائد والأفكار، بين الأنظمة والتنظيمات، ذلك أن كل من هذه المكونات أو الرؤى يمتلك عنصر قوة لا يمتلكه الآخرون وبالتالي فالتلاقي بينها إضافة نوعية لكل منها. بل لمشروع المواجهة كله.
ثقافة التكامل هي بالضرورة ثقافة وحدوية لأنها تقرّب الجميع من الجميع، وتركزّ على ما يجمع وتستبعد ما يفرّق، تقرأ الماضي بعين موضوعية، فلا تتعامل معه كسجن فتبقى أسيرة له، بل كمدرسة يتعلم منها الجميع ويستفيد من تجارب الأمس وخبرات الأولين.
فالوحدة العربية مثلاً، أيّاً كان شكلها الدستوري، تبدأ بالتكامل الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي بين دول الأمة وأبنائها. والجهات السياسية تقوم على برامج مشتركة فتتكامل في نضالها وترتقي بهذا التكامل إلى أعلى مستوى ممكن.
وثقافة التكامل هي بالضرورة ثقافة ديمقراطية لأنها تنطلق من فكرة الاعتراف بالآخر، والقبول به، والتعايش معه وصولاً إلى التكامل، وهذه الفكرة هي أساس الديمقراطية التي تتفرع منه كل آلياتها.
وثقافة التكامل هي ثقافة العدل التنموي، لأن التنمية بمفهومها الحديث أي التنمية البشرية هي تنمية تقوم على التشاركية في الإنتاج بين الناس وعلى المشاركة العادلة في حصد ثمار هذا الإنتاج، بل بحسب علم الاقتصاد لا تقوم عملية إنتاجية من دون تكامل عناصر الإنتاج المعروفة في علم الاقتصاد.
وثقافة التكامل هي ثقافة استقلالية، لأن الأمم لا تعرف الاستقلال الحقيقي وتصونه إلا حين تنجح في إقامة جبهات تحرير تتكامل داخلها كل الشرائح والتيارات والقوى الوطنية، وحين تنجح بعد الاستقلال في إقامة منظومة تتكامل فيها المكونات السياسية والاجتماعية، وقد علمتنا تجاربنا أن ما من استقلال قام إلا على تكامل نضال أبناء الوطن وفئاته، وما من استقلال اهتز وتعثر وسقط إلا حين غاب هذا التكامل.
وثقافة التكامل هي ثقافة التنوع الحضاري بكل محطاته التاريخية، لأن تكوين الأمة الراهن هو حصيلة تراكم حضارات وأعراق وثقافات وتكاملها، وكل قراءة أحادية لتاريخ الأمة يستبعد مرحلة هامة من مراحله ستؤدي إلى قصور في قراءة الواقع وتحدياته، بالتالي إلى تقصير في مواجهة تحديات الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.
من هنا، فإذا كان لمواجهة جماعات الغلو والتطرف والتوحش في الداخل، كما لأعداء الأمة من صهاينة ومستعمرين في الخارج، متطلبات أمنية وعسكرية وسياسية واجتماعية وإعلامية فإن لها أيضاً متطلباتها الثقافية والتاريخية، وفي مقدمها اعتماد ثقافة التكامل وإبعاد ثقافة الإقصاء… التي إذا أبعدناها من أفكارنا وممارساتنا إنما نسحب من أعدائنا أمضى أسلحتهم.
قد لا يُعجب أهل الإقصاء، على أنواعهم، هذا الكلام، ولكنهم لو فكروا جيداً في التجارب التي مروا بها لأدركوا باليقين أن هذا النهج قد كلف الجميع ولم ينج من كارثيته أحد.