أي جامعة عربية!… تأسيسٌ بريطاني وهوى صهيوني
جمال رابعة
كما جرت العادة، فإنّ ما صدر عما يُسمّى الجامعة العربية من قرارات، لم يثلج الصدور الليبية، الغارقة في كلّ شبر من أراضيها في بحور الإرهاب والانفلات الأمني الكبير، إذ لطالما كانت هذه الجامعة الأساس والمولّد لكلّ ذلك الخراب والدمار في ليبيا، عندما شرعنت تدخل حلف الناتو وقدّمته كمخلص ومدافع عن حقوق الليبيين، واللافت أنّ مؤسسة الجيش الليبي كانت قد أعلنت بالتزامن مع جلسة الجامعة مخططاً تركياً ـ خليجياً، لإذكاء النار في ليبيا وسفك مزيد من دماء أبنائها، لتغدو الدعوة إلى عقد جلسة طارئة للجامعة وحتى ما صدرعنها، بمثابة القشة التي يتعلق بها الغريق، وبالتأكيد هي لن تكون غير مؤهَّلة للإنقاذ فقط، بل ستكون دافعاً أسود لمزيد من الغرق والتيه وتنامي الحالة المسلحة الهوجاء التي تحصد الأخضر واليابس، إذ لطالما أصبحت أدوار هذه الجامعة معرّاة بالكامل أمام أبناء المنطقة، وكيف كانت من العوامل الرئيسة لتمرير الأجندات الغربية والأهداف الصهيونية، التي لم تقتصر على الفترة التي روّج فيها لما سُمّي بالربيع العربي فحسب، إنما منذ تأسيس هذه الجامعة وصولاً إلى حالتها السياسية المتردية كما هي عليه اليوم، وكذلك فإنّ نيران تآمرها وحقدها لم تلفح الجغرافيا الليبية وحدها بل تعدّتها لتعميم المشروع الصهيو- أميركي في المنطقة، كلّ المنطقة.
المدقق والمتابع والباحث في جوهر الفكرة التأسيسية لما سُمّي جامعة الدول العربية في أربعينات القرن الماضي، يدرك الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي صاغها الغرب الاستعماري وتحديداً البريطاني، لجهة النيل من وحدة القرار السياسي العربي، والعمل الحثيث على شرذمته وإضعافه، وتهميش دوره القومي، لما كان يُحضّر حينها لفلسطين العربية شعباً وأرضاً، وهذا ما يمكن استقراؤه بصورة جلية عندما ألقى وزير الخارجية البريطانية آنذاك أنتوني إيدن كلمة، وتحديداً في 29 أيار عام 1941 إذ مضى يقول: «إنّ العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تمّت عقب الحرب العالمية الماضية، ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من درجات الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن، وإن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا في مساعيهم نحو هذا الهدف ولا ينبغي أن نغفل الردّ على هذا الطلب من جانب أصدقائنا ويبدو أنه من الطبيعي ومن الحق تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية وكذلك الروابط السياسية أيضاً، والحكومة البريطانية سوف تبذل تأييدها التام لأيّ خطة تلقى موافقة عامة».
وفي 24 شباط 1943 صرّح ايدن في مجلس العموم البريطاني بأنّ «الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كلّ حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية».
في البداية، ما يدحض المزاعم والأهداف البريطانية التي قدّمها ايدن لجهة الحرص على وحدة العرب بكل المستويات، أن بريطانيا لم تقدّم أيّ نوع من الثناء والتقدير للعرب لجهة وقوفهم مع بريطانيا في الحرب العالمية الأولى التي أفضت إلى الإطاحة بالإمبراطورية العثمانية، بل شرعت قدماً وعلى العكس تماماً لتنفيذ وعودها التي قطعها بلفور لحاييم وايزمان الأستاذ الجامعي الصهيوني الذي أصبح في ما بعد أول رئيس للكيان الصهيوني، والذي لعب دوراً مهماً في استصدار وعد بلفور عام 1917 الذي منح فلسطين كـ»وطن قومي لليهود»، من جهة أخرى ما شكله اتفاق سايكس ـ بيكو عام 1916 من طعنة غادرة في الصدر العربي لجهة تقسيم المنطقة إلى دويلات ضعيفة تأسيساً لإكمال مشروع دولة «إسرائيل» والحفاظ على أمنها واستمراريتها.
وخلال المسيرة السياسية للجامعة العربية، كانت محاولات مصر عبد الناصر مستمرة في ضبط الإيقاعات السياسية لهذه الجامعة، وتأطيرها في الأطر العروبية والقومية، لجهة منع أي انحرافات أو تحركات تضرّ بالمصلحة العربية، وكذلك كان دور الجمهورية العربية السورية متلازماً مع التوجهات المصرية لإذكاء الدور القومي للجامعة، وتفعيله بالصورة المثلى وتحديداً في سبعينات القرن الماضي، بما يعزز زخم القضية الفلسطينية سياسياً وعسكرياً في مواجهة الاحتلال «الإسرائيلي»، هذا النهج الذي دأبت ولا تزال عليه الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد الذي شكل علامة فارقة قولاً وفعلاً وحضوراً مميّزاً في مؤتمرات القمة العربية كافة، لجهة الاستراتيجيات المطروحة، وبرامج العمل الفاعلة التي تؤسّس لعمل عربي مشترك يستطيع أن يقف بقوة في وجه الغطرسة الصهيونية المتنامية، إضافة إلى السلوك السياسي الذي انتهجته سورية في ما بعد لجهة دعم المقاومة اللبنانية والذي شكل الأرضية الصلبة لصمودها وانتصارها عام 2006، وهذا ما شكل جوهر الحقد الخليجي على الدولة السورية ومن ينهج نهجها، إذ بات الأمراء والملوك الأعراب هم من يسيطرون على قرارات الجامعة العربية، ويجيّرونها لمصلحة المشروع الصهيو – أميركي، وهذا ما ظهر جلياً في الأداء السياسي للجامعة خلال الفترة التي سُمّيت زوراً «ربيعاً عربياً»، إذ فشلت فشلاً ذريعاً في حلّ الكثير من القضايا العربية، وفي مقدّمها الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، ودورها السلبي في ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا، وتقديم كلّ الدعم والتغطية السياسية لقوى العدوان على ليبيا، أما في ما يتعلق بالملف السوري فحدث ولا حرج وما نتج من مواقف تبنتها الجامعة العربية مصدرها الأساس أمراء قطر وآل سعود، ضاربين بعرض الحائط ميثاق الجامعة العربية انتقاماً من الدور القومي الذي كانت تضطلع به الدولة السورية وتعرّي من خلاله هؤلاء الملوك والأمراء أمام شعبنا العربي، وتفضح أدوارهم في العمالة والخيانة والخذلان والعار وتبعيتهم للعدو الصهيوني تنفيذاً للمخططات والمؤامرات، هذا العدو الذي لم يكن يوماً عاملاً محرّضاً للإسراع في صياغة قوة عربية مشتركة لمواجهته ومواجهة إرهابه، كما الإسراع والهرولة الحاصلة داخل أروقة الجامعة لاستخدام هذه القوة في غير موضعها ولتساهم بشكل مباشر في تأجيج الحريق وخراب الأمة، ولعلّ ما شهده اليمن الشقيق من حمية هؤلاء الأعراب، والخنوع لسطوة المال السعودي ينتصرون فيها للجلاد ويذبحون الأبرياء من أبناء الشعب اليمني، فقط لأنهم أرادوا استقلالية قرارهم السياسي وإنهاء التبعية لمشيخات البترودولار، يشكل خير دليل على الغايات الصهيونية لتلك القوة.
إنّ الجامعة العربية في حيثيات تأسيسها والأيدي البريطانية التي تغلغلت في صلبها السياسي وما أسّس من ارتهانات للغرب وما أفضى إليه من صمت مقيت تجاه القضية المركزية، وربطاً مع سلوكها وأدائها اليوم الذي يتغلغل فيه المال السعودي لتنفيذ الأجندات الغربية وما نتج منها من قرارات، في مقدّمها ما سُمّي بالقوة العربية المشتركة، إنما تشكل صورة مطابقة وترجمة عملية للغايات الغربية لجهة تقزيم هذه الجامعة وإخراجها على سياقها العروبي لتصبح لا جامعة ولا عربية، لذلك ولتحقيق هذا الهدف كان لا بدّ من تحييد الدولة السورية عنها واستهدافها بجحافل الإرهاب، وعلى عين تلك الجامعة نفسها.
عضو مجلس الشعب السوري