خطواتٍ تسبق الألف ميل…

لمياء عاصي

بعد مرور أكثر من عام على البيان الوزاري الذي قُدِّم إلى مجلس الشعب عام 2014 وما احتواه من وعود وردية، فإنّ المتابع للشأن الاقتصادي السوري يعرف أنّ هذه الوعود لم تُنفَّذ، وأنّ الحكومة دخلت موسوعة «غينيس» من حيث عدد الوعود غير القابلة للتنفيذ، ما سبّب ضياع البوصلة حتى أصبحت القرارات الاقتصادية في معظمها كخبط عشواء.

وبالعودة إلى اقتصاديات البلد قبل الأزمة، وتحديداً في السنوات الأولى للحرب على سورية، فقد كان هناك الكثير من القضايا التي لم تُعالج والتي من شأنها المساهمة في تخفيف آثار الحرب القذرة على سورية.

وبالرغم من قساوة الوضع الحالي، فإنه ما زال بالإمكان معالجة الكثير من الملفات الضرورية، إذا أرادت الحكومة متابعة عملها والاضطلاع بدور تدخلي فاعل في الحياة الاقتصادية السورية، بدل لعب دور المشاهد في مباراة قاسية بين التجار والأسعار من جهة، ومحدودي الدخل من جهة أخرى. ولعلّ أهم تلك الملفات هي :

أولاً: رفع الناتج المحلي الإجمالي: والناتج المحلي الإجمالي هو مجموع السلع والخدمات المنتجة ضمن الاقتصاد الوطني خلال سنة معينة، ويُعتبر رفع هذا الناتج من أهم العوامل التي تساهم في تعزيز قيمة الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية. هناك سبل عديدة لتحقيق ذلك، أولها، تيسير المعاملات والإجراءات الحكومية المتعلقة بعمليات الإنتاج، وثانيها: منح التسهيلات المصرفية والقروض الخاصة بعمليات الإنتاج والخدمات. أما ثالث هذه السبل فهو الدعم المدروس لاستيراد مستلزمات الإنتاج من آلات ومواد أولية، ورابعها، ترشيد الاستيراد بالحدود القصوى من خلال وضع العوائق غير الجمركية واستخدام حقّ الدولة في وضع إجراءات استثنائية لأنها في ظروف حرب، وخامسها إعادة النظر بكلّ الاتفاقيات التجارية لسورية مع العالم الخارجي ولعلّ أهمها اتفاقية منطفة التجارة الحرة العربية وأحكام التجارة الخارجية بشكل عام.

هذه الإجراءات ستؤدّي إلى تنمية الصادرات السورية، خصوصاً إذا ما تمّ استخدام طرق أخرى مثل، مساهمة الحكومة في عمليات التسويق والترويج إضافة إلى التعبئة والتغليف وتدريب المنتجين على تحسين المواصفات والالتزام بها، واعتبار الإنتاج الزراعي القطاع الأكثر أهمية لأنه المعني الأساسي بتأمين الغذاء للناس، خصوصاً في الكوارث والأزمات، حيث سيطرت فوضى أسعار السلع الغذائية في الأسواق وتباينت حسب المناطق وما يكتنفها من عمليات عسكرية أو سيطرة للميليشيات المسلحة على طرق النقل فيها .

ثانياً: البطالة. تُسجل للحكومة قدرتها على الاستمرار في صرف رواتب الموظفين للسنة الخامسة على التوالي، رغم أنّ هذه العملية تحتاج، حسب السيد رئيس مجلس الوزراء، إلى ما يفوق 600 مليار ليرة سورية سنوياً، وهو مبلغ ضخم في ظلّ تدني موارد الخزينة العامة للدولة وبرغم تلك الحقيقة، لا بدّ من ذكر نسب البطالة العالية التي اجتاحت المجتمع السوري، وخصوصاً من كان يعمل في القطاع الخاص أو كان على مقاعد الدراسة، وقد يحتاج إلى معجزة حتى يجد عملاً.

من نافل القول، إنّ البطالة هي مسبب مباشر للفقر وأنّ المؤشرات العالية للفقر في أي مجتمع تسبب ارتفاع معدل الجريمة، وفي الحالة السورية، ساهمت البطالة بشكل كبير في تفاقم حالة عدم الاستقرار السياسي حيث انخرط بعض الشباب، من العاطلين عن العمل، في بعض التنظيمات المسلحة بحثاً عن دخل شهري، وليس لاعتبارات سياسية أو أيديولوجية، وذلك بحسب تقرير لمحطة «سي أن أن» الأميركية.

ثالثاً: التضخم الناجم عن ارتفاع أسعار صرف الدولار أمام العملة الوطنية التي انخفضت من 48 ليرة سورية للدولار الأميركي قبل الأزمة مباشرة في العام 2011 إلى حدود 340 ليرة للدولار في الربع الثالث من 2015، انخفاض يبلغ سبع مرات وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تزيد على 50 في المئة. ومن المعروف أنّ معظم الناتج المحلي يأتي من الرواتب التي تدفعها الدولة لموظفيها بشكل رئيسي، وأنّ التضخم هو وثيق الصلة بالانكماش في الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض قيمة العملة الوطنية والقدرة الشرائية للناس، ومعالجته لا تكون إلا بمعالجة الأسباب المؤدية له، كما يُعتبر إحدى النتائج الحتمية للحرب، حيث الدمار في البنى التحتية والمنشآت الصناعية والمشاكل في خطوط النقل وكلّ القطاعات .

رابعاً: خروج السوريين والرساميل الوطنية خارج البلد والتي ابتدأت في العام الأول للأزمة واستمرت حتى الآن، ما أدى إلى تقويض فرص بناء التراكم الرأسمالي في البلد وهو التراكم الذي يحتاجه أي بلد في مراحل التنمية، حيث ذكر تقرير للأمم المتحدة أنّ مجموع الرساميل التي خرجت من سورية وصلت إلى ما يقارب 22 مليار دولار، مضافاً إلى ذلك المعامل التي تمّ تفكيكها ونهبها أو تفجيرها، هذا أيضاً عامل شديد التأثير في انكماش الناتج المحلي الإجمالي.

لمعالجة الملفات السابقة، لا بدّ من البحث عن طرق مختلفة في الإدارة وابتكار حلول جريئة، وهذه لا يمكن استنباطها إلا من خلال التفكير بشكل غير نمطي ومن خارج الصندوق، فهي مواضيع غاية في الصعوبة ولا يمكن أحداً أن يدّعي القدرة على معالجتها من دون تضافر عوامل سياسية ومجتمعية، بالإضافة إلى السياسات الحكومية المناسبة التي يجب أن تركز على:

ـ تحسين الإيرادات العامة للدولة: وهو الموضوع الأهم في سلم الأولويات للدولة، ومن أجل تحقيق ذلك لا بدّ أن تتم إعادة هيكلة كاملة لموارد الدولة، وأن لا تقتصر على الضرائب وزيادة أسعار المشتقات النفطية وحوامل الطاقة، بل تشمل الفوائض الاقتصادية والاستغلال الأمثل والأكفأ لكلّ ممتلكات الدولة وثرواتها، حيث أنّ الحرب تدور رحاها في سورية للعام الخامس على التوالي، فكيف يمكن لاقتصادها أن يتعافى؟ وكيف يمكن لحكومتها أن تكون قادرة على كبح جماح التضخم والبطالة ومعدلات الفقر العالية؟ وكيف يمكن الحفاظ على استمرار الإنتاج الصناعي والزراعي فيها، في ظلّ تدني موارد الدولة، وسيطرة المجموعات المسلحة على مناطق واسعة تتضمن حقول إنتاج النفط والقمح وغيرها وطرق لنقل البضائع؟ إنها فعلاً أشبه بالمهمّة المستحيلة.

لذلك لا بدّ من اعتماد استراتيجية متكاملة لتحسين اقتصاد البلد ولوقف نزيف الهجرة التي ازدادت في السنتين الأخيرتين، خصوصاً أنّ معظم من هاجروا فعلوا ذلك لأسباب اقتصادية بشكل رئيسي .

تتألف هذه الاستراتيجية من ثلاث نقاط أساسية، ويمكن اعتبارها الخطوات اللازمة التي تسبق رحلة الألف ميل لتحقيق تنمية وإحداث تحسن في بيئة النشاطات اقتصادية، وتتلخص بالتوجه أكثر نحو اللامركزية بالنسبة إلى القرارات الاقتصادية وتعزيز دور المجتمع الأهلي، إضافة إلى تطوير نهج اقتصادي واضح يوافق عليه ممثلون عن كافة شرائح المجتمع السوري، وتكون الاستراتيجية وفق ما يلي:

ـ تبني نهج اللامركزية في إدارة المناطق والمحافظات، في المشاريع الاستثمارية خصوصاً تلك التي لا تتطلب استثمارات ضخمة ويمكن تمويلها محلياً.

ـ تشكيل مجلس تنفيذي محلي وتوسيعه ومنحه صلاحيات كبيرة يقوم بالاضطلاع بالمهمّات التنفيذية، على أن يرأس هذا المجلس محافظ من أهل المحافظة، منتخب من ضمن مجلسها، ويمكن لهذا المجلس تولي عملية البحث عن موارد محلية لتلبية النفقات المحلية وعدم الاعتماد على الخزينة المركزية بشكل كامل.

ـ السماح لبلديات المحافظات بتأسيس شركات مساهمة لإدارة مشاريعها صدر مرسوم مشابه .

ـ تعميق وتعزيز دور المجتمع الأهلي في عملية إدارة المرافق العامة:

ـ إشراك المجتمع الأهلي ومنحه القدرة على المراقبة والاطلاع عن كثب على خطط وتقارير تنفيذ المؤسسات المملوكة من الدولة لمشاريعها.

ـ إعادة إحياء الدور القوي للهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بمشاركة المجتمع الأهلي وهذا مُختبر وناجح ومُطبَّق في الكثير من دول العالم.

ـ تطوير منهج اقتصادي وطني: هذا المنهج يتم تطويره على مستوى الدولة ويعتبر ملزماً لكلّ المحافظات والسلطات المحلية، منهج يُحدّد أهم الركائز في الاقتصاد الوطني وصياغة الإجابات عن الأسئلة الاقتصادية الكبرى، خصوصاً ما يتعلق بالحرية الاقتصادية وملكية الدولة للمؤسسات التجارية والصناعية، مستوى وأسلوب التشاركية في إدارة واستثمار أملاك ومؤسسات الدولة أو البنى التحتية والقطاعات الهامة، والدور التدخلي للدولة في الاقتصاد، ومدى انخراط النظام الاقتصادي للدولة بالنظام الاقتصادي العالمي وغير ذلك من الركائز الأساسية للنهج الاقتصادي، ويقوم بتطوير هذا النهج الاقتصادي مجلس اقتصادي وطني .

ـ تشكيل مجلس اقتصادي وطني يضمّ ممثلين عن الأحزاب السياسية والفعاليات والأكاديميين والخبراء والقطاع الخاص وأعضاء مجلس الشعب والوزراء في الفريق الاقتصادي للحكومة ورئيس الحكومة، وهذا يُعتبر من أهم الخطوات لتنفيذ كلّ ما سبق، وتتلخص االمهمّات الرئيسية لهذا المجلس باتخاذ الخطوات الاقتصادية الصعبة والتي تحتاج إلى أن يكون متخذ القرار له تمثيل وطني واسع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى