بروز تنظيم «داعش»… الروايات تختلف والإرهاب واحد 2/2
إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
الحلقة الماضية من هذا التقرير، سلّطنا في الضوء على مقال نشره الإعلاميون جوبي واريك، ويل مكانتس، وهارون زيلين لمصلحة «معهد واشنطن»، وفيه يتبنّون مقولة إنّ «داعش» ولد من رحم «القاعدة». لا بل أنّ أبا مصعب الزرقاوي ـ القيادي السابق في «القاعدة» ـ هو من أسّس «داعش». كما نشرنا مقاطع من مقال نشرته «دير شبيغل» الألمانية، وفيه نظرية مغايرة تماماً، تذهب إلى القول إنّ العراقيّ سمير عبد محمد الخليفاوي، الملقّب بـ«حجي بكر»، هو من أسّس «داعش» ووضع له خطّة الحياة.
أما الحلقة الثانية والأخيرة من هذا التقرير، فنتابع مع «دير شبيغل» في رحلة الكشف عن مخطّطات «داعش» التي وضعها «حجي بكر».
البدايات في العراق
لوهلة يبدو أن الكاتب البريطاني جورج أورويل كان المثل الأعلى لهذه النسخة من الرقابة المجنونة. كلّ ما عمله «حجي بكر»، تعديل بسيط على ما تعلمه في الماضي. ففي نظام صدام حسين الأمني لم يكن أحد ـ حتى جنرالات أجهزة الاستخبارات ـ على ثقة من عدم تجسّس أحد عليه. وقد وصف الكاتب العراقي كنعان مكية «جهورية الخوف» هذه بأنها دولة يمكن لأيّ كان فيها أن يختفي ببساطة، ويمكن فيها لصدام أن يختتم مناصب تسلمه السلطة في 1979 بأن يكشف عن مؤامرة زائفة.
ثمّة سبب بسيط لغياب أي نبوءات في كتابات «حجي بكر» عن قيام «داعش» الذي يُزعَم أن الله أمر به، فقد كان بكر يؤمن أن المعتقدات الدينية المتطرفة وحدها لا تكفي للوصول إلى النصر. لكنه كان يؤمن أنه يمكن استغلال معتقدات الآخرين لذلك الغرض.
وهكذا، في عام 2010، قام بكر مع مجموعة صغيرة من ضباط الاستخبارات العراقيين السابقين بتنصيب أبو بكر البغدادي أميراً، ثمّ «خليفة» ـ أي القائد الرسمي لـ«داعش». وكانت حجتهم في اختياره أن البغدادي شيخ متعلم ويمكنه أن يعطي طابعاً دينياً للمجموعة.
كان بكر رجلاً «قومياً لا إسلامياً»، كما وصفه الصحافي العراقي هاشم الهاشمي. وكان ضابطاً في قاعدة الحبانية الجوية مع قريب للهاشمي. وأضاف الهاشمي أن «العقيد سمير كان على درجة عالية من الذكاء والصرامة وبارعاً في الأمور اللوجستية». ولكن عندما قام رئيس سلطة الاحتلال الأميركي آنذاك بول بريمر بإصدار مرسوم لحلّ الجيش العراقي في أيار 2003، أضحى بكر عاطلاً عن العمل ولم يعجبه الأمر.
وهكذا، وبجرّة قلم، سُرقت حياة الآلاف من الضباط السنّة المدرّبين جيداً وخلقت أميركا لنفسها بذلك أذكى الأعداء وألدّهم. عمد بكر إلى التخفي حينذاك وقابل أبا مصعب الزرقاوي في إقليم الأنبار غرب العراق. وكان الزرقاوي أردني المولد قد أدار معسكراً لتدريب الحجاج الإرهابيين من أنحاء العالم في أفغانستان. واكتسب عام 2003 شهرة عالمية بكونه العقل المدبر خلف الهجمات التي شُنت على الأمم المتحدة والجيش الأميركي والمسلمين الشيعة. حتى أن قائد «القاعدة» الأسبق أسامة بن لادن كان يعدّه متطرفاً. مات الزرقاوي عام 2006 عقب غارة جوّية أميركية.
وعلى رغم علمانية حزب البعث الذي كان مسيطراً في العراق، اشترك التنظيمان في قناعة مفادها أن السيطرة على الشعوب يجب أن تكون بيد قلة من النخبة تكون فوق الحساب، لأنها تحكم بِاسم الهدف الأكبر، وتكتسب شرعيتها إما من الله أو من عظمة تاريخ العرب. ويكمن سرّ نجاح «داعش» في خليط من المتضادات: المعتقدات المتطرّفة من جهة والحسابات الاستراتيجية من جهة أخرى.
أصبح بكر تدريجياً أحد القادة العسكريين في العراق وسُجن في معسكر «بوكا» الأميركي وفي «أبو غريب» بين عامي 2006 و2008. ونجا من حملات الاعتقالات والقتل التي شنّتها الوحدات الخاصة الأميركية والعراقية والتي كانت تهدّد نواة «داعش» في 2010 وهي «تنظيم داعش في العراق».
وبالنسبة إلى بكر وغيره من الضباط السابقين ذوي الرتب العالية، كانت تلك فرصتهم للقبض على السلطة في دائرة أصغر من الجهاديين. إذ كانوا قد استغلوا وقتم في معسكر «بوكا» بإنشاء شبكة كبيرة من العلاقات. لكن كبار القادة كانوا على معرفة ببعضهم لفترة طويلة. وكان حجي بكر وضابط آخر جزءاً من وحدة صغيرة للاستخبارات تابعة لوحدة مضادات الطائرات. كما كان رجلان آخران من قادة «داعش» ينحدران من بلدة «تلعفر» الصغيرة المأهولة بالتركمان السنّة، أحدهما كان ضابط استخبارات برتبة عالية كذلك.
كانت فكرة محاولة هزيمة قوات الحكومة العراقية عسكرياً تبدو فاشلة عام 2010. لكن ثمة مجموعة سرّية قوية تشكلت بفضل أعمالها الإرهابية وصفقات الحماية التي عقدتها مع التجار. وقد وجد قادتها فرصتهم عند قيام «الثورة» ضدّ آل الأسد في سورية. فمع نهاية عام 2012 لحقت الهزيمة بقوات الحكومة السورية وطُردت من شمال البلاد، فعمت الفوضى وأصبح هناك المئات من المجالس المحلية وكتائب «الثوار»، ولم يكن أحد مدركاً لما يجري، وكانت تلك المرحلة الحرجة هي ما يسعى إلى استغلاله الضباط السابقون في المجموعة.
تختلف التفسيرات حول ظهور «داعش» وصعود نجمه، بناء على اختلاف المفسّرين. فخبراء الإرهاب ينظرون إلى «داعش» على أنه فرع من «القاعدة» ويعزون ضعف ضرباته حتى اليوم إلى ما يعدّونه خللاً في قوة الدولة التنظيمية. أما خبراء الجرائم، فيرون أن «داعش» أشبه بالشركات المافياوية التي ترمي إلى تعظيم مكاسبها. في حين أن ما يلفت نظر خبراء العلوم الإنسانية، إشارات قسم «داعش» الإعلامي إلى علائم القيامة وتعظيمه الموت والاعتقاد أن «داعش» يسعى إلى «هدف مقدّس».
إلا أنّ علائم يوم القيامة وحدها غير كافية للنيل من المدن والاستحواذ على الدول. والإرهابيون لا يقيمون دولاً. وعلى الأغلب لا تبعث المنظمات الإجرامية الحماسة بين داعميها حول العالم لدرجة أن يتخلوا عن دنياهم ويسافروا إلى «دولة الخلافة» مع احتمال أن يلاقوا حتفهم فيها.
ولا يشترك «داعش» مع أسلافه كـ«القاعدة» بالكثير عدا عن الطابع الجهادي. فلا طابع دينياً لأفعاله أو تخطيطه الاستراتيجي أو تغييره حلفاءه على نحو يبدو مجرداً من المبادئ أو حملاته الإعلامية المختارة بدقة. والإيمان فيها ـ حتى بأكثر صوره تطرفاً ـ ليس إلا وسيلة لبلوغ الغاية. والقاعدة الوحيدة التي يطبقها توسيع رقعة نفوذه مهما بلغ الثمن.
تطبيق الخطّة
كان توسّع «داعش» قد تم من دون أي صخب لدرجة أنه استوقف عدداً من السوريين بعد سنة ليراجعوا متى بدأ الجهاديون الظهور في صفوفهم. فمكاتب الدعوة التي افتتحت في عدد من المدن في شمال سورية ربيع عام 2013 كانت تبدو كمكاتب تبشيرية بريئة على شاكلة الجمعيات الخيرية الإسلامية المتوفرة حول العالم.
وعندما افتُتِح مكتب للدعوة في الرقة كان «كل ما قالوه إنهم أخوة، ولم يذكروا شيئاً عن داعش» بحسب كلام طبيب هرب من المدينة. وأقيم مكتب للدعوة كذلك في منبج ـ وهي مدينة ليبرالية في محافظة حلب ـ في ربيع عام 2013. قال عنه ناشط في الحقوق المدنية: «لم ألحظه في البداية. كان متاحاً للجميع افتتاح ما يشاؤون. ولم نكن نشك أبداً بأن أحداً غير النظام يمكن أن يشكل تهديداً لنا. فقط عندما بدأ القتال في كانون الثاني أدركنا أن داعش قد استأجر عدداً من الشقق ليخزّن فيها رجاله وأسلحته».
كان ذلك مشابهاً لما حصل في الباب والأتارب وأعزاز. كما أقيمت مكاتب الدعوة في محافظة إدلب المجاورة في بدايات 2013 في كل من سرمدا وأطمة وكفر تخاريم والدانا وسلقين. وسّع «داعش» وجوده حال تحرّيه عدد كاف من «الطلاب» لتجنيدهم كجواسيس. وقام باستئجار مبانٍ إضافية في الدانا ورفع الأعلام السوداء وأغلق الطرقات. أما في المدن التي لاقى منها مقاومة كبيرة أو التي لم يستطع إيجاد عدد كافٍ من الموالين فيها، فاختار أن ينسحب منها موقتاً. كانت طريقة عمله في البداية تعتمد على التوسّع من دون المخاطرة بمواجهة مفتوحة، وعلى خطف «الأفراد العدائيين» أو قتلهم مع إنكار أيّ دور له في هذه الأعمال المشينة.
كما بقي المقاتلون في الخفاء لفترة في البداية. لم يحضّرهم بكر مع طليعة المقاتلين الذين معه من العراق ما بدا منطقياً. حتى أنهم بكر والطليعة حرصوا على منع المقاتلين العراقيين من القدوم إلى سورية. وعملوا على ألا يجندوا عدداً كبيراً من السوريين، إنما اختاروا أعقد الخيارات بقيامهم بجمع كل المتطرّفين الأجانب الذين قدموا إلى المنطقة منذ صيف عام 2012: طلاب من السعودية، موظفون من تونس، طلاب تركوا الدراسة من أوروبا، جميعهم بلا خبرة عسكرية، ليشكلوا بهم جيشاً إلى جانب المقاتلين الشيشان والأوزباكستانيين الذين مروا بتجارب مشابهة متّخذين من سورية مركزاً لهم تحت قيادة عراقية.
ومع نهاية عام 2012، تم إنشاء معسكرات في أماكن عدّة. في البداية لم يعرف أحد لمن تنتمي تلك المجموعات فيها. كانت المعسكرات منظمة بشكل صارم وكانت تحتوي على جنود جاؤوا من بلدان عدة ـ لم يكن أحد منهم يتحدث للصحافيين. قلة منهم جاؤوا من العراق. وكان القادمون الجدد يخضعون للتدريب لمدة شهرين، ويتم تدريبهم على الطاعة العمياء للقيادة المركزية. كان التنظيم سرياً وكانت له أيضاً ميزة أخرى: على رغم أنه كان فوضوياً بالضرورة في البداية ألا أنه أخرج كان فرقاً عسكرية تدين له بولاء تام. وكان الجنود الأجانب منهم لا يعرفون أحداً غير رفاقهم، ولم يكن لديهم أي سبب لإظهار الرأفة ويمكن إرسالهم لعدة أماكن مختلفة. وكان ذلك يمثل تبايناً صارخاً مع «الثوار السوريين» الذين كان تركيزهم الأكبر ينصب على الدفاع عن مدنهم وكان عليهم رعاية أسرهم والمساعدة في أعمال الزراعة والحصاد. وفي خريف عام 2013 أظهرت سجلات «داعش» 2650 مقاتلاً أجنبياً في حلب وحدها. وبلغت نسبة المحاربين التونسيين ثلث العدد الكلّي يليهم السعوديون فالأتراك فالمصريون ثم المقاتلون الشيشان والأوربيون والإندونيسيون بأعداد أقل.
لاحقاً أيضاً، فاقت أعداد «الثوار السوريين» كوادر الجهاديين بكثير. وعلى رغم انعدام ثقة «الثوار» بـ«الجهاديين»، إلا أنهم لم يتعاونوا معهم لمحاربة «داعش» لأنهم لم يرغبوا في المخاطرة بفتح جبهة ثانية. أما «داعش» فقد عزّز نفوذه عن طريق خدعة بسيطة: كان جنوده دوماً يظهرون متخفّين بأقنعة سوداء، وذلك لكي يظهروا بشكل مرعب وأيضاً كي لا يتمكن أحد من معرفة أعدادهم الفعلية. فعندما يظهر مئتا محارب في خمسة أماكن مختلفة واحداً تلو الآخر، فهل يعني ذلك أن لدى «داعش» ألف محارب؟ أم خمسمئة؟ أم أكثر من مئتين بقليل؟ إضافة إلى أن الجواسيس كانوا دائماً حريصين على أن تكون قيادة «داعش» على اطلاع دائم بمواطن ضعف السكان، أو تفرقهم، أو مواطن وجود صراعات محلية، بحيث يتاح للتنظيم أن يعرض خدماته كقوة حامية من أجل الحصول على موطئ قدم.
الاستيلاء على الرقة
الرقة مدينة صغيرة تقع على نهر الفرات، وقد أضحت نموذجاً لسيطرة «داعش» الكاملة على مدينة. بدأت العملية بمهارة شديدة، ثم أصبحت بالتدريج وحشية، وفي النهاية سيطر «داعش» على الخصوم الأكبر من دون قتال. «لم نكن يوماً ضليعين في السياسة» هذا ما ذكره أحد الأطباء الهاربين من الرقة إلى تركيا. «كما أننا لم نكن متدينين ولم نكن نصلي كثيراً».
عندما سقطت الرقة في أيدي «الثوار» في آذار 2013، تم انتخاب مجلس مدينة على عجل. نظّم المحامون والأطباء والصحافيون أنفسهم وتم إنشاء مجموعات نسوية. كما تم إنشاء ما يسمى بـ«جمعية الشباب الحر»، وكذلك حركة «من أجل حقوقنا» والعشرات من المبادرات الأخرى المشابهة. كان أي شيء يبدو ممكناً في الرقة. ولكن بنظر بعض من فرّوا من المدينة كان ذلك نذيراً ببداية سقوطها.
وبحسب خطة «حجي بكر»، فإن مرحلة التسلل تبعها التخلص من أي شخص يحتمل أن يكون قائداً أو خصماً. وكان أول من استُهدِف، رئيس مجلس المدينة الذي اختُطف في منتصف أيار 2013 من قبل أشخاص مقنعين. تلاه اختفاء شقيق أحد الكتّاب البارزين. وبعد ذلك بيومين اختفى أيضاً الرجل الذي قاد المجموعة التي رسمت «علم الثورة» على جدران المدينة.
وقد شرح أحد أصدقائه قائلاً: «كانت لدينا فكرة عن خاطفه ولكن لم يجرؤ أحد على فعل أي شيء». وبدأ الخوف يسيطر على الأجواء. وبدءاً من تموز اختفى العشرات ثم المئات من الناس. أحياناً كان يُعثَر على جثثهم، ولكنهم كانوا عادة يختفون من دون أثر. وفي آب أرسلت القيادة العسكرية في «داعش» عدة سيارات بقيادة انتحاريين إلى مقر «لواء أحفاد الرسول» التابع لـ«الجيش السوري الحرّ» لتقتل بذلك عشرات المقاتلين وتدفع بمن تبقى منهم على قيد الحياة إلى الهرب. بينما اكتفى «الثوار» الآخرون بالفرجة فقط. فقد عقدت قيادة «داعش» شبكة من الصفقات السرية مع الألوية بحيث اعتقد كل لواء أن «داعش» يستهدف الألوية الأخرى فقط بهجماتها.
وفي 17 تشرين الأول 2013، استدعى «داعش» كافة القادة المدنيين ورجال الدين والمحامين في المدينة إلى الاجتماع. في ذلك الوقت ظنّ البعض أنها قد تكون إشارة للمصالحة. ومن بين الأشخاص الثلاثمئة الذين حضروا الاجتماع، عبّر اثنان منهم فقط عن اعتراضهم على استيلاء «داعش» على المدينة وعمليات الاختطاف والقتل التي نفّذها. أحد هؤلاء كان يدعى مهند حبايبنا، وهو ناشط في مجال الحقوق المدنية وصحافي معروف في المدينة. وبعد خمسة أيام من الاجتماع عثر عليه مكبلاً ومقتولاً برصاصة في رأسه. وقد استلم أصدقاؤه رسالة بالبريد الالكتروني من مصدر مجهول تحتوي على صورة جثته، وفيها عبارة واحدة: «هل أنت حزين على صديقك الآن؟». وخلال بضع ساعات فرّ حوالى 20 عضواً قيادياً من «المعارضة» إلى تركيا. وهكذا انتهت «الثورة» في الرقة.
وبعد مضي وقت قصير، تعهّد 14 من زعماء أكبر القبائل بالولاء لـ«الأمير أبو بكر البغدادي». كان هناك فيلم مصوّر عن تلك الاحتفالية يظهر شيوخ تلك القبائل الذين تعهّدوا بالولاء للرئيس السوري بشار الأسد قبل سنتين اثنتين فقط.
مقتل «حجي بكر»
حتى نهاية عام 2013، كانت كل الأمور تسير بحسب خطّة «داعش» ـ أو على الأقل بحسب خطّة «حجي بكر». وسّعت «الخلافة» رقعتها قرية تلو القرية من دون أيّ مقاومة موحّدة من قبل «الثوار السوريين». لقد بدا الثوار مشلولين أمام قوة الشر لدى «داعش».
ولكن عندما قام أتباع «داعش» بتعذيب «قائد ثوري» محبوب وطبيب بوحشية حتى الموت في كانون الأول من 2013، حدث ما هو غير متوقع. اتّحدت «الألوية السورية العلمانية» منها مع أجزاء من «جبهة النصرة» المتطرّفة لمحاربة «داعش». وعبر هجومهم على «داعش» في التوقيت نفسه، تمكنوا من سلب الإسلاميين من تفوقهم التكتيكي، وهو قدرتهم على تحريك الوحدات بسرعة حيثما كان هناك حاجة طارئة لها.
خلال أسابيع، طُرِد «داعش» من مناطق واسعة في شمال سورية. حتى مدينة الرقة عاصمة «داعش» كادت أن تسقط إبان وصول ألف وثلاثمئة مقاتل من «داعش» من العراق. ولكنهم لم يسيروا إلى المعركة ببساطة، إنما اتخذوا أسلوباً مخادعاً كما يذكر الطبيب الفار قائلاً: «في الرقة كان هناك عدد من الألوية المتحركة بحيث لم يعرف أحد من هم الآخرون. وفجأة بدأت مجموعة ترتدي ملابس الثوار بفتح النار على الثوار الآخرين، وهكذا فروا جميعهم ببساطة».
تنكر بسيط، ساعد مقاتلي «داعش» في النصر: «فقط خلعوا اللباس الأسود وبدلوه بالسراويل الجينز والسترات. وقد فعلوا الأمر نفسه في جرابلس البلدة الحدودية. وفي مرات عدة عندما احتجز الثوار في مواقع أخرى سائقين انتحاريين من «داعش» سأل السائقون بدهشة: هل أنتم سُنة أيضاً؟ لقد أخبرنا أميرنا أنكم كفار من جيش الأسد».
حالما اكتملت الصورة أصبحت تبدو منافية للعقل: من يدّعون أنهم مطبقو إرادة الله على الأرض يتوجهون لقهر امبرطورية عالمية مستقبلية، ولكن كيف؟ بملابس النينجا والحيل الرخيصة وخلايا جاسوسية مموّهة لتبدو كأنها مكاتب تبشيرية. إلا أن الحيلة نجحت، فقد حافظ «داعش» على نصره في الرقة وتمكّن من إعادة السيطرة على بعض المناطق التي خسرها. لكن ذلك النصر جاء متأخراً بالنسبة إلى «المخطّط العظيم حجي بكر».
بقي «حجي بكر» في مدينة «تل رفعت» الصغيرة حيث كان «داعش» مسيطراً لفترة طويلة. ولكن عندما هاجمها الثوار في نهاية شهر كانون الثاني 2014 انقسمت المدينة خلال بضعة ساعات فقط، إذ بقي نصفها تحت سيطرة «داعش» بينما انتزع النصف الآخر أحد الألوية المحلية. وقد علق «حجي بكر» في النصف الخطأ. ولكي يبقى متخفياً، امتنع عن الانتقال إلى أحد المقرات العسكرية المحمية التابعة لـ«داعش». وهكذا أصبح الأب الروحي للوشاية ضحية لها على يد أحد جيرانه الذي قال: «شيخ داعشي يسكن في الجوار». معلومة توجّه على إثرها قائد محليّ يدعى عبد الملك حدبة ورجاله إلى منزل بكر. فتحت امرأة الباب وقالت بفظاظة: «زوجي ليس هنا».
فردّ «الثوار»: «ولكن سيارته مركونة هنا».
في تلك اللحظة ظهر «حجي بكر» أمام الباب بملابس النوم فأمره حدبة بمرافقتهم، بينما طلب بكر بأن يسمح له بارتداء ملابسه، فرفض طلبه حدبة قائلاً: «تعال معنا حالاً».
وبرشاقة مفاجئة بالنسبة إلى سنّه، قفز بكر إلى الخلف وركل الباب فأغلقه، وذلك بحسب رواية اثنين من شهود العيان. ثم اختبأ تحت الدرج وصرخ قائلاً: «أرتدي حزاماً ناسفاً وسأنسف الجميع»، ثم خرج حاملا رشاش كلاشينكوف وأخذ يطلق النار. حينذاك أطلق حدبة النار عليه وأرداه قتيلاً.
وحينما عرف الرجال لاحقاً هوية من قتلوه، قاموا بتفتيش المنزل وجمعوا كل الحواسيب الآلية وجوازات السفر والهواتف الخلوية وشرائح الاتصال وجهاز تتبع المواقع، والأهم من كل ما سبق، كلّ ما وجدوه من وثائق. ولم يعثروا على أيّ نسخ من القرآن في أي مكان من المنزل.
مات «حجي بكر» واعتقل «الثوار» زوجته. وفي ما بعد قام «الثوار» بمبادلتها برهائن «داعش» الأتراك بطلب من أنقرة. كانت وثائق بكر الثمينة مخبّأة في غرفة بقيت فيها أشهراً عدّة.
مخبأ ثانٍ
استمرت «دولة حجي بكر» في العمل من دون مؤسّسها. وأتى اكتشاف ملفّ آخر ليؤكد دقة تنفيذ خططه نقطة بنقطة. عندما أجبر «داعش» على التخلي سريعاً عن مقراته في حلب في كانون الثاني 2014، حاول مقاتلوه حرق الأرشيف الخاص بهم، ولكنهم واجهوا مشكلة شبيهة بتلك التي واجهت البوليس السري في ألمانيا الشرقية قبل 25 سنة خلت: كان لديهم الكثير من الملفات.
بعض الملفات بقيت سليمة وسقطت بأيدي «لواء التوحيد» الذي كان أضخم «مجموعة ثورية» في ذلك الوقت. وبعد مفاوضات مطوّلة، وافقت المجموعة على تسليم الوثائق لـ«دير شبيغل» من أجل حقوق النشر الحصرية ـ كل الوثائق ما عدا قائمة بأسماء جواسيس «داعش» داخل «لواء التوحيد».
وأظهر فحص مئات الصفحات من الوثائق نظاماً بالغ التعقيد يتضمن التسلل ومراقبة كل المجموعات بما فيها أفراد «داعش». واحتفظ المسؤولون عن أرشيف الجهاد بقوائم طويلة تبين أسماء المخبرين الذين زُرِعوا في «ألوية الثوار» والميليشيات الحكومية. كما دوّنوا أسماء جواسيس استخبارات الأسد بين «الثوار».
«كانوا يعلمون أكثر مما نعلم، أكثر بكثير»، هذا ما ذكره أمين «عهدة الوثائق». كان بين تلك الوثائق الملفات الشخصية للمقاتلين، وتشمل رسائل مفصلة وطلبات التحاق من مقاتلين أجانب مثل الأردني نضال أبو عياش الذي أرسل كافة مراجعه الإرهابية وأرقام هواتفهم ورقم ملف قضية جنائية مرفوعة ضده. كما تضمن طلبه أيضا هواياته وهي: الصيد والملاكمة وصنع القنابل.
أراد «داعش» معرفة كل شيء. ولكنه في الوقت نفسه كان يريد خداع الجميع في ما يتعلق بأهدافه الحقيقية. فعلى سبيل المثال، أحد التقارير المكوّن من صفحات عدة يحتوي على قوائم دقيقة بجميع الذرائع التي قد يستخدمها «داعش» لتبرير استيلائه على مطحنة الدقيق شمال سورية. ويتضمن تبريرات مثل اختلاس مزعوم وأيضاًَ التصرفات الشاذة عن الدين للعاملين فيه. أما الواقع ـ أن كافة المرافق المهمة استراتيجياً مثل المخابز الصناعية وصوامع الحبوب والمولّدات، سيتم الاستيلاء عليها وإرسال معدّاتها إلى «عاصمة الخلافة» غير الرسمية في الرقة ـ يجب أن يبقى سرّاً.
مرة بعد مرة، كشفت الوثائق عن النتائج المباشرة لخطط «حجي بكر» بالنسبة إلى إنشاء «داعش». مثلاً، يجب السعى إلى الزواج من الأسَر ذات النفوذ. كما تضمّنت الملفات الموجودة في حلب قوائم لأربعة وثلاثين مقاتلاً يرغبون بالزواج، إضافة إلى احتياجات منزلية أخرى. فأبو لقمان وأبو يحيى التونسي يلزمهما شقق، وأبو صهيب وأبو أحمد أسامة طلبا أثاث غرفة نوم. أما أبو البراء الدمشقي فطلب مساعدة مالية، إضافة إلى أثاث كامل، بينما طلب أبو عزمي غسالة أوتوماتيكية.
ماذا يحمل المستقبل؟
الانتكاسات التي عاناها «داعش» خلال الشهور القليلة الماضية، كالهزيمة في عين العرب الكردية، وخسارة مدينة تكريت العراقية، أعطت الانطباع بقرب نهاية التنظيم. وكأنه خلال جنون العظمة تمدّد لأكثر من طاقتها وفقد بريقه وهو الآن يتراجع وسيختفي قريباً. ولكن تفاؤلاً كهذا هو على الأغلب سابق لأوانه. إذ قد يكون «داعش» قد فقد عدداً من مقاتليه إلا أنه واظب على التوسّع في سورية.
وصحيح أن تجارب «الجهاديين» في حكم منطقة جغرافية معينة باءت بالفشل في الماضي، إلا أن ذلك كان في معظمه يعود إلى قلة خبرتهم في إدارة منطقة أو حتى دولة. وهذه بالضبط نقطة الضعف التي أدركها استراتيجيو «داعش» منذ فترة طويلة وتخلصوا منها. ففي «دولة الخلافة» بنى القادة نظاماً أكثر ثباتاً ومرونة عمّا يبدو عليه من الخارج.
قد يكون «أبو بكر البغدادي» القائد الرسمي، إلا أنه من غير الواضح مدى النفوذ الذي يتمتع به. وعلى كلّ، عندما أراد مبعوث أيمن الظواهري الاتصال بـ«داعش»، اتصل بـ«حجي بكر» وضباط استخبارات آخرين لا بالبغدادي. وقد تذمّر المبعوث لاحقاً من «تلك الأفاعي المزيفة التي تخون الجهاد الحقيقي».
وعلى صعيد آخر، داخل «داعش» هياكل دولة وبيروقراطية وسلطات. وهناك أيضاً هيكل قيادة موازٍ: وحدات النخبة إلى جانب القوات العادية، قادة آخرون إلى جانب قائد الجيش الصوري عمر الشيشاني، سماسرة السلطة الذين بمقدورهم نقل «الأمراء الإقليميين» و«أمراء البلدات» أو تخفيض رتبهم أو حتى التخلّص منهم بحسب الرغبة.
إضافة إلى ذلك، عادة، لا تُتّخذ القرارات في «مجالس الشورى» التي تعدّ أعلى السلطات التشريعية. إنما تتخذ القرارات من قبل «أهل الحلّ والعقد»، وهي مجموعة سرّية اتخذت اسمها من إسلام العصور الوسطى.
وبإمكان «داعش» التعرّف إلى جميع أشكال التمرّد الداخلي وقمعها. وفي الوقت نفسه يفيد نظام الرقابة المحكم في الابتزاز المالي لتابعيه.
ربما نجحت الغارات الجوّية بقيادة الولايات المتحدة في تدمير حقول النفط ومصافيه. ولكن لا أحد يحول دون استنزاف السلطات المالية في «داعش» أموال الملايين من الأشخاص الذين يعيشون تحت سيطرة التنظيم بوساطة الضرائب والرسوم الجديدة، أو ببساطة عبر مصادرة الممتلكات. فـ«داعش» يحيط علماً بكلّ شيء من خلال جواسيسه ومن البيانات التي اختلسها من البنوك ومكاتب تسجيل العقارات ومكاتب صرف الأموال. وهو على علم بمن يملك أيّ بيوت وأيّ حقول، ويعرف من يمتلك الخِراف أو الكثير من المال. قد لا يسرّ ذلك الناس، لكن لا مساحة كافية لتنظيم صفوفهم وحمل السلاح والتمرّد.
وبينما يركّز الغرب أنظاره على احتمالات الهجمات الإرهابية، لم يعطِ سيناريو آخر حقه من الاهتمام: والمتمثل بالحرب الداخلية بين مسلمي السنّة والشيعة. إذ قد يسمح هذا النزاع لـ«داعش» بأن يتحوّل من منظمة إرهابية مكروهة إلى قوة مركزية.
وقد وقعت الجبهات في كل من سورية والعراق واليمن في هذا الشرخ الطائفي، إذ يقاتل الشيعة الأفغان ضدّ الأفغان السنّة في سورية، ويستفيد «داعش» في العراق من همجية الميليشيات الشيعية. وفيما لو استمر هذا النزاع الإسلامي الضارب في القدم في تصعيده، فإنه قد ينتقل إلى دول متعدّدة الطوائف مثل المملكة العربية السعودية والكويت والبحرين ولبنان.
في هذه الحالة، هناك احتمال أن تتحوّل دعاية «داعش» عن قرب القيامة إلى حقيقة قد تجرّ معها «دكتاتورية مطلقة بِاسم الله».