الولايات المتحدة: قلق وانقسام وتصعيد في استهداف المسلمين

انصبّ اهتمام النخب الثقافية والسياسية والاعلامية الأميركية على حادث اعتداء مسلح جرى في مدينة سان برناندينو بولاية كاليفورنيا، مما اعاد الى الواجهة احتدام الجدل حول فرض قيود على اقتناء الأسلحة الفردية، ومعارضة شديدة من الحزب الجمهوري والمصالح الاقتصادية الكبرى.

سيتناول قسم التحليل مسألتين بالتزامن لما لهما من انعكاسات قوية على الداخل الأميركي:

أولاً، حادثة الهجوم سالفة الذكر وما ينطوي عليها من تجدّد موجة التهديد والإقصاء للمسلمين في الولايات المتحدة، والسعي الحثيث للقوى العنصرية تعميم الاستهداف ليشمل كلّ ما تستشعره مسلماً حتى وان لم يدن بالديانة الاسلامية، كسيخ الهند مثلا.

المرشح لمنصب الرئاسة عن الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، سارع بالتصريح واعلان خطته مطالبا الحكومة الأميركية بالوقف الفوري لهجرة وحضور المسلمين للولايات المتحدة، فضلا عن مطالبته بإعداد قوائم خاصة بالمسلمين تهيئة لترحيلهم عن البلاد.

اللافت ان ردود افعال المسؤولين الرسميين ومعظم الاجهزة الاعلامية ادانت تصريحات ترامب بشدة ووصفته بأبشع الاوصاف، بيد ان استطلاعات الرأي التي لا تكلّ عن توجيه النبض الشعبي لزوايا محدّدة اوضحت دعم عدد كبير من المواطنين الأميركيين البيض لتصريحات ترامب المعادية.

عدد لا بأس به من المسؤولين الأمنيين المحليين، في اجهزة الشرطة الداخلية، حثوا مواطنيهم على التشبّث بحمل السلاح، بل المجاهرة به في الاماكن العامة «للحدّ من وقوع هجمات إرهابية في المستقبل».

ثانياً، سيستعرض قسم التحليل الغزو التركي للعراق وتزامنه مع جهود أطراف حلف الناتو توتير المناخات الاقليمية، لا سيما بعد حاثة اسقاط القاذفة الروسية.

تحوّلات التدخل الروسي المباشر

رصد معهد الدراسات الحربية تعزيز روسيا لقواتها العسكرية بالقرب من الحدود التركية المشتركة مع أرمينيا، ارفقته «بحملة ضدّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالإشارة الى تورّطه في الاتجار بالنفط مع تنظيم داعش»، موضحاً انّ الحملة الروسية المتجدّدة ترمي الى «تصوير خصومها في حلف الناتو بأنهم عقبة امام جهود الحاق الهزيمة بداعش». واضاف انّ موسكو ردّت على تصريحات حلف الناتو بمزيد من الدعم العسكري لتركيا بأنّ تلك الاجراءات «من شأنها تقويض الجهود لانشاء تحالف معادي لداعش مع الغرب… في سياق سعيها لاظهار دورها كشريك ضروري ضدّ داعش»، وترمي بذلك «تحديد معالم عمليات الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو في المنطقة».

اعادت مؤسسة هاريتاج تصويب الانظار على ما اسمته «الأمن الاقليمي في محيط بحر قزوين، الذي عادة ما يتم القفز عنه في سياق عدد من التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة عبر العالم». واوضحت المؤسسة ان «الثروات الطبيعية المخزونة في داخل وبالقرب من البحر ترفع من شأن أهمية المنطقة للقوى المحلية والخارجية على السواء». واضاف ان ثروات الطاقة الضخمة «قد تلعب دوراً هاماً في مساعدة القارة الاوروبية فك اعتمادها على النفط والغاز الروسي… لا سيما ان إيران وروسيا سويا من كبار اللاعبين الاقليميين». وحثت المؤسسة صناع القرار في واشنطن على عدم تجاهل منطقة بحر قزوين «في اطار الاستراتيجية الشاملة للتصدي لنهوض روسيا وتجرّؤ إيران»…

سورية

خصّص معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى جهوده لاضفاء «قراءة اسرائيلية» على الحرب في سورية، باستضافته مدير التخطيط الاستراتيجي السابق في «الجيش الاسرائيلي» ميخائيل هيرزوغ، الذي اوضح عدم استساغته وما يمثله اي بريق أمل ينبثق عن المفاوضات الجارية. واوضح انّ «اي تقدّم ديبلوماسي سيكون محكوما بدرجة عالية للتطورات الميدانية، والتي لا تبشر بالخير في التوصل الى حل». واردف انّ «القوى الخارجية المعنية بالتفاوض على حلّ ديبلوماسي تتميّز بتعارض عميق بين رؤاها واهدافها.. خاصة للدور المحتمل للرئيس الاسد واعتباره كجزء من المعضلة او الحل». واعرب عن قلقه من تطور الاشتباك بين روسيا والحلف الأميركي فوق الاجواء السورية «كما جرى بقوة بإسقاط تركيا الطائرة الروسية، وما شكلته من تعقيدات اضافية تواجه توحيد الجهود لمواجهة داعش».

تركيا

اعتبر معهد كارنيغي ان الاكراد وطموحاتهم تشكل «حجر الاساس في الاستراتيجية الأميركية ضد داعش.. على ضوء فشل جهود البنتاغون المتتالية لانشاء ميليشيا تقاوم داعش قوامها قوى المعارضة المسلحة السنية المتواجدة في المناطق العربية من سورية». وتحدث المعهد بشيء من السخرية عن جهود وكالة الاستخبارات المركزية الجارية للتعامل مع «مجموعات عربية في الشمال الغربي وجنوب سورية»، مما دفع البنتاغون إلى «المراهنة على الاكرد نظرا لغياب بدائل افضل.. والحاق مجموعات مقاتلة عربية بالقوة الكردية «.. واعرب المعهد عن شكوكه من نجاح تلك الجهود لا سيما انّ «تلك المجموعات لن تصل للقوة المطلوبة لإزاحة داعش بإنشاء مناطق حكم ذاتي مستدام».

رصد معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى تطورات الازمة بين روسيا وتركيا من زاوية انعكاسها على حلف الناتو، معتبرا ًانقره بانها «اتخذت قراراً طائشاً لاسقاط الطائرة، بيد انّ دلالته تكمن في امكانية استدراج الرئيس بوتين ان توفرت عزيمة الدولة للقيام بمغامرة». وناشد واشنطن «العمل مع الجانبين لتفادي ايّ تصعيد، وما ينطوي عليه من تشديد المطالبة في التوصل لحلّ سياسي تفاوضي للحرب السورية توفر لكلّ من تركيا وروسيا التعايش معه». واضاف ان واشنطن تضع نصب عينيها هدف «تفادي اي تصعيد جدي من شأنه جر واقحام حلف الناتو.. واستعاضت عنه بتبني قائمة مطالب طويلة من ضمنها موجات اللاجئين التي خرجت عن نطاق السيطرة، وتعاظم اعداد الضحايا من المدنيين، والتهديد الذي تشكله الدولة الاسلامية».

إيران

اثار مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية مسألة تجربة إيران لاختبار صاروخ باليستي، منوّها انّ تحذيرات سابقة سلمت للوفد المفاوض الأميركي خلال المفاوضات النووية لإدراج بند قيود توضع على برنامج إيران الصاروخي «بيد انّ إيران تمسّكت برفضها». واوضح انّ الجانب الإيراني «لم يوافق ابداً على قيود توضع على البرنامج الصاروخي لإيران عبر قرارات سابقة للهيئة الدولية مثل قرار 1929.. بل اوضح في معرض قبوله مشروع الاتفاق المشترك انّ بلاده ستمضي في تطوير برامجها للصواريخ الباليستية والقذائف النووية ودخولها الخدمة بصرف النظر عن تفسيرات الامم المتحدة، واي تفسيرات اخرى لقرار مجلس الأمن 2231». واضاف انه منذئذ «لم توفر إيران فرصة لجهود التطوير الثابتة لقوتها الصاروخية وزيادة مدياتها لتصل الى مسافات بعيدة».

استهان معهد كارنيغي بتصريحات الوكالة الدولية للطاقة النووية الاخيرة حول «ترقب قراراتها الهامة في الايام المقبلة الخاصة بمزاعم تشير الى مضيّ إيران العمل على انتاج اسلحة نووية » محذراً من اصدار مدير الوكالة «تقريرا مسيّسا» حول المسألة «وليس تقريراً يستند الى وقائع مادية». واعرب عن خشيته من ان يقدم مدير الوكالة، يوكيا امانو، على «ابلاغ مجلس الادارة عن رضى وكالة الطاقة لقيام إيران باجراء تجارب على عناصر تشير الى جهود تطوير اسلحة نووية، مما يترتب عليه رفض إيران تنفيذ بنود الاتفاقية جزئياً او كاملة». واوضح ان مدير الوكالة على يقين من «تأييد قوي للدول الاعضاء للاتفاق مع إيران، والذين لا يرغبون بتقرير تقييم سلبي يقدّمه اومانو من شأنه تقويض الاتفاق قبل تنفيذه».

حادث الاعتداء يستنهض الأحقاد العنصرية

لم تتضح بعد ملابسات ودوافع واهداف الهجوم المروّع على مبنى هيئة مدنية للرعاية الاجتماعية في مدينة سان بيرناردينو بولاية كاليفورنيا، استخدمت فيه اسلحة من الطراز العسكري، وفق المعلومات الرسمية. الثابت انها ضخت دماء جديدة في الخطاب العنصري المتجذر اصلا في المجتمع الأميركي، وجدد عدوانيته منذ هجمات نيويورك عام 2001 في الماضي القريب ضدّ السود من اصول افريقية، ومن ثم ضدّ اللاجئين والناجين من الحروب الأميركية في أميركا اللاتينية، والآن ادمج العرب والمسلمون واقرانهم بالإرهاب في احدث واشمل حملة اقصاء وتشويه.

بعض المسؤولين الرسميين، والتشديد على كلمة «بعض»، اعربوا عن استيائهم ورفضهم للتصريحات العنصرية المتسارعة على لسان عدد من المرشحين للانتخابات الرئاسية وحذر الرئيس أوباما ومسؤوليه في الاجهزة القضائية والأمنية المعنيين من التمادي في الخطاب المناهض للمسلمين والديانة الاسلامية ونزعات التعميم الضارة.

في المقابل، تصدّر ابرز مرشحي الحزب الجمهوري، دونالد ترمب، كافة المواقع والوسائل الاعلامية بمطالبته الحكومة الأميركية «فرض حظر فوري على سفر وهجرة المسلمين للاراضي الأميركية»، فور حادث الهجوم، ومكرّرا مطلبه السابق باعداد قوائم وبيانات تخصّ المسلمين المقيمين في أميركا تمهيداً لاحتجازهم وترحيلهم، اسوة بمطالبته الدائمة بالمثل ضدّ المهاجرين واللاجئين القادمين من دول أميركا اللاتينية.

مسؤولو الأمن المحليين، في المدن والارياف الأميركية المتعددة، حثوا مواطنيهم على التسلح وإشهار الاسلحة الفردية في الاماكن العامة، مما ادّى الى ارتفاع حاد في مبيعات الاسلحة الفردية في عموم الولايات الأميركية.

في ما يخص تصريحات ترمب وما ناله من تحقير واشهار احجم منافسوه، في السباق الرئاسي عن الحزب الجمهوري، عن المطالبة بإقصائه عن الحملة الانتخابية، واكتفوا ببضع تصريحات بعضها عالي النبرة والحدة، مثل ليندسي غراهام الذي طالبه بالذهاب الى الجحيم، والمماطلة في اتخاذ مواقف اشدّ وضوحاً ضدّ التعبيرات العنصرية.

لعلّ الظاهرة الأهمّ الناجمة مباشرة عن لغة التحشيد ورفض الآخر انتعاش اعداد المواطنين الأميركيين المؤيدين «بقوة» لخطاب ترمب ومقترحاته بإقصاء المسلمين. اذ اشارت استطلاعات متعدّدة للرأي ثبات نسبة مؤيديه بين صفوف الحزب الجمهوري، بل ارتفعت الى نسبة 37 . في احدث استطلاع أجري في ولاية كاليفورنيا مطلع الاسبوع، اعربت الاغلبية عن تأييدها ترمب بنسبة 52 مقابل 48 يعارضونه. ترمب ينتشي ويزهو بين صفوف الناخبين في طول وعرض الولايات المتحدة، ويستنهض الكامن من مشاعر الحقد والكراهية ويفرضها على الخطاب السياسي العام.

العنصر اللافت والهامّ في الاستطلاع المذكور انّ ولاية كاليفورنيا تعد من ابرز الولايات اعتدالاً وسوية، وعادة تعطي اصواتها لمرشح الحزب الديمقراطي. وربما أسهم مكان الحادثة في إحدى مدنها في تأجيج مشاعر العامة. عند احتساب مشاعر الريبة والخوف بين صفوف الاقليات، ترتفع نسبة تأييد ترمب الى 59 مقابل 43 يعتبرون أنّ الديانة الاسلامية تحرّض على العنف.

اشار استبيان اجرته وكالة أ ب للانباء مؤخراً الى ارتفاع مشاعر الكراهية ضدّ عموم المهاجرين من منطقة الشرق الاوسط، وفق التصنيفات المعتمدة، وذلك قبل تصريحات ترمب. اذ اعرب نحو 54 من الأميركيين المستطلعة آراؤهم عن ضيق ذرعهم من سياسة الحكومة الأميركية «استقبال اعداد متزايدة من مواطني منطقة ساخنة». النسبة ارتفعت الى نحو70 بين صفوف مناصري الحزب الجمهوري ونحو 30 من مؤيدي الحزب الديمقراطي. الأمر الذي استدعى النائب العام الأميركي لوريتا لينش الى التحذير من «ارتفاع مقلق جداً في الخطاب المعادي للمسلمين».

وقصدت لينش تهدئة وطمأنة «الجالية الاسلامية» في حفل عشاء استضاف بعض الوجوه الاسلامية البارزة مشددة على ان «رسالتنا ليست موجهة للجالية الاسلامية فحسب، بل لكافة صفوف الشعب الأميركي بأنه لا ينبغي علينا الاستسلام والاذعان لمشاعر الفزع والذعر» الناجمة عن اعمال العنف. وطمأنت الحضور بثبات التزام الحكومة الأميركية بحقوق الافراد ممارسة شعائرهم ومعتقداتهم الدينية، كما نصت عليه مادة التعديل الاولى من الدستور الأميركي، وان ما يجري من ممارسات وتصريحات اقصائية «لا يمثل القيم الأميركية».

ترمب يحرّض على الفتنة

المفردات في خطاب ترمب تثير الاضطرابات وتمهّد للفتنة والانقسام، وهو ما يجمع عليه معظم المراقبين. اما ما يدور في خلد المرشح ترمب فانّ تصريحاته ربما كانت مبررة لخدمة حملته الانتخابية ووجد احد تعبيراته المؤيدة في بروز اليمين المتشدّد في فرنسا تحديدا تتويجا لمناخ التحشيد ضدّ المهاجرين والاسلاميين.

ترمب دافع بجرأة قاربت الوقاحة عن افكاره الاقصائية بالاستناد الى اجراءات «مماثلة» اقدم عليها عدد من الرؤساء الأميركيين ابان احتدام الصراعات الدولية، وعقد مقارنة بين موقفه وموقف الرئيس فرانكلين روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية والذي فتح معسكرات الاعتقال للمواطنين الأميركيين من اصول يابانية وآخرين من اصول المانية وايطالية.

تجدر الاشارة عند هذا المنعطف الى اجراء مماثل «اضطر» الرئيس الاسبق جيمي كارتر لاتخاذه عقب احتجاز الرهائن من الديبلوماسيين الأميركيين في طهران، منع بموجبه دخول اي فرد من اصول إيرانية للولايات المتحدة الا اذا ثبت معارضته لنظام الإمام الخميني آنذاك او لضرورات انسانية قصوى بهدف العلاج الطبي.

تظاهر ترمب بالتراجع بعض الشيء عن سوء تصريحاته بالقول لشبكة سي ان ان للتلفزة ان سياسته المقترحة هي «لمعالجة اوضاع مؤقتة تستمر لحين توصل ممثلي البلاد لحل على ما نحن عليه من جحيم»، محذرا من انّ اخفاق التوصل لحلول مُرضية سيكون ثمنه «مزيد من الهجمات المماثلة لابراج التجارة العالمية 2001 عدد كبير من الهجمات ربما تتفوّق بشاعتها على هول برج التجارة العالمي».

من الضروري الاشارة الى انّ نسبة شعبية ترمب شهدت تراجعاً بعض الشيء في الآونة الاخيرة، وما قبل حادثة كاليفورنيا، وشهد ارتفاعاً مضطرداً في نسبة مؤيديه منذئذ. واستطاع استقطاب كافة الوسائل الاعلامية، الرئيسة والهامشية على السواء، مجاناً وفرت له فرصة لمخاطبة قطاعات واسعة من مؤيديه ومريديه والذين يميلون بالفطرة لانتهاج وسائل وردود فعل متشدّدة.

انصافاً للحزب الجمهوري، برزت بعض الأصوات المعارضة لتوجهات ترمب، أهمّها جاء في طيات النشرة الاسبوعية «ذي ناشيونال ريفيو»، التي سخرت من فكرة انّ «ترمب هو احد فرسان الدفاع عن الحريات المدنية تستحق الاستهزاء والضحك»، وتذكير قرائها ومؤيديها بتصريحات ترمب التي وعد فيها «بإسدال الستار عن بعض اجزاء شبكة الانترنت«.. وما يشكله من تقويض لحرية الفكر والتعبير.

استطاع ترمب بخطابه ومفرداته المباشرة البعيدة عن الكياسة الديبلوماسية استغلال مخاوف العامة وخشية السياسيين من تفاقم فشل سياسة الرئيس أوباما، بعضهم من الحزب الديمقراطي، والنفخ باتجاه إرسال مزيد من القوات العسكرية الأميركية للقتال مباشرة في سورية. اذ اشار استطلاع حديث لشبكة سي ان ان إلى أن 53 من الأميركيين يؤيدون الانخراط العسكري في سورية، بينما اوضح الاستطلاع ان نحو 68 من الأميركيين يعارضون سياسة الرئيس أوباما في مكافحة الإرهاب واعتبروها «ليست عدوانية بما فيه الكفاية».

ترمب في نظر المعجبين والمؤيدين والصامتين يعبّر عن طموحاتهم ومشاعرهم لسياسة الولايات المتحدة وينفرد بين كافة اقرانه ومنافسيه ببلورة معالم السياسة المرجوة. فضلا عن ذلك، فانه لا يكفّ عن استغلال الأحقاد الدفينة بأنّ القتال والحروب يجب ان تخاض بعيدا عن الاراضي الأميركية. الأميركيون بشكل عام يضعون ثقتهم بالسياسة التي يروّج لها ترمب في هذا الصدد، ولا يضيرهم تكثيف الجهود والموارد العسكرية لخوض القتال في سورية والعراق شريطة ان لا يطال الشارع الأميركي نصيب منها.

تقنين السلاح الفردي مسألة خلافية

استعاد الصراع ذروته للحدّ من انتشار الاسلحة بين القوى الليبرالية والاجتماعية المهمّشة، من جهة، والشركات والمصالح الاقتصادية الكبرى، لا سيما صناعة الاسلحة، من جهة اخرى، متدثرة بعباءة الدستور ومادة تعديله الثانية التي تتيح للافراد اقتناء السلاح الفردي للدفاع عن النفس.

لجأت القوى الاجتماعية الصاعدة والمعادية للحروب الأميركية في فيتنام، ابان عقد الستينيات من القرن المنصرم، الى اقتناء السلاح «المسموح به دستوريا» للدفاع عن النفس وضدّ تغوذل الاجهزة الأمنية والشرطة تحديدا التي لا تزال تضطهد وتقتحم الاحياء الشعبية والمهمّشة اقتصاديا، بحجة الأمن.

استشرى القلق آنذاك في اعماق المؤسسة الأميركية الحاكمة، افقيا وعموديا، لامكانية استخدام السلاح «المرخص» لاجل تعزيز مواقع القوى التقدّمية بشكل اساسي، وخشيتها من تحييد غلوّ وسطوة الاجهزة الأمنية الرسمية، وشنّت حملات قتل واغتيالات منظمة ضدّ الشخصيات والرموز الواعدة، ابرزها مالكولم اكس والقس مارتن لوثر كينغ. من لم تستطع قتله في وضح النهار لفقت له التهم واودعته المعتقلات ليجري اغتياله هناك بعيدا عن انظار الاعلام، كما حدث مع الشاب فرد هامبتون، احد زعماء منظمة «الفهود السود». وفشلت جهودها في الابقاء على الناشطة السوداء وعضو الحزب الشيوعي الأميركي، انجيلا ديفيس، خلف القضبان.

الصراع في اللحظة الراهنة يدور بين صفوف ذات القوى المتنفذة في المؤسسة الحاكمة، والتي تجهد لابعاد مصطلح «الإرهاب» عن اي عمل معاد مصدره عنصر «ابيض». ليس مستساغا في الحقبة الزمنية الراهنة استخدام تعابير اليمين واليسار ضمن تيارات وتوجهات المؤسسة الحاكمة، وهي مسألة بحاجة لدراسة شاملة بمفردها، لكننا نضعها في سياق اصطفافات راهنة بين مصالح متشابهة تتصارع في ما بينها للفوز بحصة الاسد، ماديا وشعبيا.

في ذلك الزمن الواعد من النضال الاجتماعي ابان الحرب الفيتنامية، اعدّت الاجهزة الامنية، لا سيما مكتب التحقيقات الفيدرالي، قوائم بالمعارضين السياسيين وشدّدت الرقابة عليهم وتتبّعت تحركاتهم ونشاطاتهم بدقة وكثافة، ووفرت الفرص لاغتيال البعض منهم مالكولم اكس ومارتن لوثر كينغ. الثابت انّ المؤسسة الحالية لم ترعو من تلك التجارب المؤلمة في التاريخ القريب، وما افرزته من تشققات اجتماعية واقتصادية واسعة، وعمقت الهوة بين شريحة الميسورين والطبقة الوسطى المتحالفة مع شريحة المهمشين.

يبرز راهنا الخطاب الإقصائي وتتعالى المطالب الرسمية «بتحديث» قوائم وبيانات الافراد والشخصيات الخاضعين للمراقبة والمدرجين على لائحة «الممنوعين من السفر» بالطائرة، داخليا وخارجيا.

احدث تجليات عودة الخطاب الاقصائي جاءت على لسان الرئيس أوباما نفسه في خطابه الموجه للأمة مطلع الاسبوع مطالبا السلطة التشريعية، بمجلسيها في الكونغرس، استصدار قرار جديد يحرم كلّ من هو مدرج على لائحة الممنوعين من السفر من شراء الاسلحة الفردية. التدقيق في ما هو متوفر من معلومات بالاسماء المدرجة على القائمة التي تزداد طولا وكثافة، منذ الشروع بها في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، تثير السخرية والغضب في آن واحد. بعض ممّن ادرجت اسماؤهم كانوا اعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي ومن معارضي سياسات الرئيس بوش، مثل السيناتور ادوارد كنيدي. ومن باب السخرية ايضا ضمّت القائمة اطفالا رضع لم يصلب عودها ولا تتعدّى اعمارهم بضعة أشهر.

الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون ايضا احتفظ بقائمة طويلة لخصومه السياسيين والاعلاميين وقام بمعاقبتهم باقصائهم عن نشاطات البيت الابيض ومنها مؤتمراته الصحافية.

مكتب التحقيقات الفيدرالي هو الهيئة الرسمية المعنية باجراءات التحقق من سوية صاحب الطلب واهليته لاقتناء السلاح. وسجل الجهاز ازديادا هائل على طلبات اقتناء السلاح فاقت المليونين لشهر تشرين الثاني الماضي وحده، وسجل في يوم 27 من الشهر نفسه 185،345 طلبا بالتصريح لليوم عينه فقط، بلغ معدل قطعتي سلاح بيعت للأميركيين كل ثانية، والذي اعتبر اعلى مستوى في تاريخ سجلات الجهاز منذ انشائه، تكفي لتجهيز واعداد جيش ضخم القوة.

ازدياد الطلب رافقه ايضا ارتفاع معدلات الانتساب الى دورات تدريبية على السلاح، مما يشير الى انضمام افراد لأول مرة لفئة المسلحين عززته ايضا تصريحات بعض رجالات الأمن المحلي الداعية لحمل المواطنين سلاحهم في العلن «ورجائهم فعل ذلك» في اقرب فرصة.

محصلة الأمر تفيد بأنّ سعي الرئيس أوباما استغلال حادثة هجوم كاليفورنيا للمطالبة بفرض مزيد من الاجراءات والقيود وقع على آذان صماء.

أردوغان محاصر بالمكابرة وبعزيمة بوتين «السلطان» يتمرّن على الرعونة

انقلبت الجمهورية التركية على تراثها «الكمالي» الذي قصد لينين روسياً طالبا قروضاً مالية عاجلة لتعزيز خزينة جمهوريته الفارغة نتيجة محاصرة الدول الغربية لدولته الناشئة، بعد تحجيمها. لينين وفر لكمال اتاتورك ما ينوف عن 100 مليون روبل من الذهب بين 1920-1921 وفق بيانات الاستاذ الجامعي في جامعة كيل البريطانية، بولنت غوكاي، والذي شغل منصبا رسميا رفيعا في وزارة الخارجية قبل بضعة سنوات.

عانت الطبقة السياسة التركية منذ تلك الازمنة أزمة هوية سياسية واجتماعية مما جعلها تركض وراء الغرب والتمثل به دون ان يعترف لها بدور مماثل. وانضمّت لسياسة الاحلاف الغربية في المنطقة وما ترتب عليها من استعداء الدول العربية بشكل اساسي في مرحلة التحرّر والاستقلال الوطني، وابقت على عضويتها في حلف الناتو استكمالا لتوجهاتها بمعاداة الاتحاد السوفياتي، وخليفته روسيا الاتحادية لاحقا.

تركيا واعضاء حلف الناتو الآخرين يتحرّكون ضمن سقف سياسة الطرف الاقوى في الحلف، الولايات المتحدة، ينفذون ما يطلب منهم ولو بعد حين. في هذا السياق ينبغي رؤية حادثة اسقاط تركيا للقاذفة الروسية سو-24 فوق الاراضي السورية، وما نجم عنها من توتر متسارع في علاقة البلدين تقترب من الصدام المباشر دون بلوغه ارفقته تركيا بغزو للعراق بقوة عسكرية متواضعة نسبيا، 150 جندي ونحو 24 مدرّعة، في بلدة بعشيقا شرقي الموصل والقريبة من الحدود المشتركة.

تداعيات الغزو احيت مشاعر العداء لدى شعب العراق وفي الخلفية ما تعرّضت له بلاده من تدمير وحصار على يد الغزو الأميركي وحلفائه الاقليميين ودول الناتو. تركيا اردوغان «استجابت» لطلبات العراق بالانسحاب العاجل على طريقتها بتعزيز قواتها الغازية لتصل الى نحو 300 جندي، ارفقتها بتصريحات متشنّجة ورفضها الامتثال لمطالب العراق.

تصرّفات تركيا ترمي من بين اهدافها الى استمرار استفزازها لروسيا، وفق خطة أميركية اشمل لإشغال موسكو ودفعها إلى دخول مستنقع المغامرات الحربية تمهيداً لمحاصرتها وإنهاكها سياسيا واقتصاديا وعسكريا. روسيا تنظر «بعين العطف» والاستجابة لطلب بغداد دعمها بمعدات عسكرية متطورة، احجمت الولايات المتحدة عن تزويدها مرارا قبل ذلك، واعتبرت قرار تركيا «غير شرعي».

في الشق الآخر من الغزو، تبيّن للشعب العراقي بمختلف قواه هشاشة الامدادات العسكرية الأميركية، والتي دفعت أثمانها سلفا دون ان تستكمل تسلّمها، واعادت المطالب بالتوجه عسكرياً نحو موسكو. تجلت ايضا في تأكيد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على دعم بلاده الثابت لسيادة ووحدة العراق.

وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، في زيارته الاخيرة لبغداد سعى لتسويق سياسة واشنطن بارسال «قوة قتالية استكشافية» متواضعة للعراق مما حدا برئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، رفض العرض وعدم حاجة بلاده «لقوات عسكرية اجنبية على اراضيه».

في هذا السياق ينبغي ايضاً الأخذ بعين الاعتبار الدور الإيراني النافذ في المجتمع العراقي وبعض اركان الحكومة، وما سيترتب عليه من تعزيز الرفض للقوات الأميركية والتركية على السواء.

الانقلاب على سياسة «صفر مشاكل»

تتميّز السياسة التركية بقدرتها الفذة على استيلاد العداوات الاقليمية والدولية، والتي لا ينقصها ملفات مفتوحة مع اليونان، العضو في حلف الناتو، وارمينيا المجاورة، فضلاً عن تجدّد عدائها لإيران المقبلة على انفراد دولي شامل في علاقاتها وانهاء العقوبات الدولية المفروضة عليها، بعد اسابيع قليلة.

موسكو ردّت على الاستفزازات التركية، المدعومة أميركيا كما يرجح، بتعزيز تواجدها العسكري في اراضي ارمينيا وارسالها مروحيات قتالية وطائرات اخرى حديثة للمرابطة في في قاعدة عسكرية قريبة من العاصمة يريفان وتنوي تدعيمها باسلحة ومعدات اضافية قبل نهاية العام الجاري. يشار الى ان موسكو لديها قاعدة عسكرية قريبة من الحدود التركية الارمينية المشتركة، بالقرب من مدينة غيومري.

استفزازات تركيا نالت جارتها في إيران وتهديدها «بتعرض علاقات الصداقة التقليدية المشتركة الى ضرر كبير»، ان هي استمرت في دعمها الدولة السورية وخصوم انقرة الآخرين.

يجمع الاستراتيجيون في الطرف الأميركي على ان حلف الناتو لن يدخل في حرب مباشرة مع الاطراف الاقليمية لاجل تركيا، التي لا تتعرّض لتهديد حقيقي لاراضيها. ويشير هؤلاء ونظرائهم في الجانب العسكري الى سعي واشنطن للضغط على تركيا «تهدئة اجواء التوتر» مع روسيا، في اعقاب اسقاطها القاذفة الروسية.

ويبقى السؤال عائماً ما الذي يدفع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى التمادي في تصريحاته المعادية وتصرفاته العدوانية التي ستستثير ردود فعل حتمية، عاجلا ام آجلا. ان كان رهانه ينحصر على دعم حلف الناتو لتركيا «تحت اي ظرف»، فربما يتعيّن عليه اعادة قراءة الخرائط الدولية، ويتوصّل الى مخرج من الازمة المتجددة الذي وضع نفسه بداخلها، غير آبه ربما بما ستؤول اليه التطورات الاقليمية والتغيرات الجارية على موازين القوى، لا سيما في سورية.

على الطرف المقابل، يصبح مبرراً التساؤل حول الخيارات المتاحة للادارة الأميركية الراهنة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار مطالبة عدد من القوى السياسية في العراق بالغاء الاتفاقية الأمنية «المُذِلّة» مع الولايات المتحدة بعد اخفاقها الالتزام بالدفاع عن أمن وسيادة العراق «والسماح» لتركيا بغزو الاراضي العراقية. دخول موسكو من البوابة العراقية الواسعة أمر لا ينبغي ان يثير ارتياحاً كبيراً في الاوساط الأميركية، وهي المسكونة دوماً بمحاصرة وتهميش روسيا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى