التراجيديا اتخذت شكلاً أكثر تحرّراً من الصيغ القديمة لبنية البطل في ضوء الدبيب الناشب بين الذات والموضوع
د. منصور نعمان
هل ماتت التراجيديا حقاً؟ أنودّع أبطال العالم والتأريخ البشري، أصاروا مجرّد ذكرى تذر في الحياة العاصفة، ذلك ما أعلن عنه، بأن التراجيديا وأبطالها الأفذاذ وأقدارهم المحيقة بهم قد ولّوا دونما رجعة إلى عالم النسيان والغياب.
ما الذي تبقى؟ وما الذي يغترفه البشر من التأريخ الثقافي والنفسي؟ أين هو البطل الصنديد الذي يقف كالطود الشامخ أمام البطل المناوئ له، أو من الآلهة الجبّارة التي وصمت إرادة الأبطال بالهزيمة والخذلان، وإن اشتبكوا مع أقدارهم المصيرية المحتومة والموصومة بالهزيمة، بوصفها إرادة الآلهة وأن البطل حتّم عليه أن يسحق، وعلى رغم ذلك، ظلّ البطل ثابتاً راسخاً متجذّراً مندفعاً بحماسة عالية واستماتة في اتخاذ موقف مغاير لما رُسم له من مصير. فالبطل فتح نافذة شكّلت طريقاً للبشرية للاصطدام مع القدر، وإن نزلت الآلهة من عليائها، فتحوّلت الأقدار البشرية على شكل أطواق لمعتقدات اجتماعية وأفكار تمثل بنية الثقافة، وموقفاً فلسفياً، لقد صيغ القدر، صياغات أكثر عقلانية كالضائقة الاقتصادية، الحروب الطاحنة، بالبلاهة والجمود البشري، بالخذلان والتقاعس والنكوص. لقد تحولت الحياة، وصارت مليئة بالثقوب، فلم تعد الحياة كما كانت، على رغم التقنيات والمستحدثات والفضائيات. لم تعد تلك الحميمية والالتصاق وروح الانتماء إلى الأرض التي يقف عليها بنو البشر.
إن انحسار المشاعر والأفكار والضيق والبرم والكآبة لحبائل حياة شبه رمادية ـ إن لم تكن قاتمة ـ وإذا لم نكن نحيا في عالم تشرئب فيه ناطحات السحاب، إنما زرعت فيه شواهد القبور، وكأننا صرنا نحتفي بالموت أكثر من الحياة. فهل ماتت التراجيديا؟ ذلك السؤال المثير، قد يجيب عنه قائل يقول: لم يعد هناك «برومثيوس»، «أوديب»، «مارس»… ولم يعد هناك أبطال يرتقون للآلهة أو هم أنفسهم آلهة أو أنصافها. ولكن، ألم تنفخ الروح في الإنسان؟ ألم يتبارَ مع القدر؟ أيبقى القدر محيطاً بالإرادة البشرية؟ ألم نرَ الحروب وآثامها؟ ألم نشهد تلك الحروب الباردة؟ ألم نأكل من شجرة الزقوم طعاماً؟ ألم نحلم بقوة نورانية تنبجس ولو للحظة للخلاص من كّل ما يحيط بنا؟ والسؤال يبقى: أماتت التراجيديا؟ أم أنه إعلان مرج فحسب؟ فإذا مات «أوديب» مثلاً، فهل ماتت معه خاصيته المتحدية؟ فكم من «أوديب» في طريقه للهلاك، وكم من «آنتيغون» تموت؟ بحلقات قدرية أو شبه قدرية، ولكنها لم تكن من صنع آلهة أو مجهول، إنما من صنع بني البشر. فما هي أنواع الحصارات المطوقة للعقول والبطون والرغبات، لقد صيغت جهنمية الأطماع والأوضاع، منافذ مستحدثة لسحق الإنسان وتدميره ووصمه بالخذلان والتقهقر وأضحت مسالك الحياة تتسم بالتراجيديا، تلك التي لم يحلم بها سابقاً بطل التراجيديا الذي رسم نهايته المشرفة، وقد يكون الحكم بالموت على البطل، تأليهاً له، أكثر من كونه إذلالاً. فكيف تموت التراجيديا إذاً، وحياة البشر فوق الأرض تحتفي بطقوس الموت، وتعلن عن تراجيديا: الصمت، التكميم، الخوف، الترهيب؟ فأي تراجيديا تموت ونحن نحيا تراجيديا الحياة؟ إن صيغ التراجيديا اختلفت عن السابق، مثلما استجدّت تقنيات البشر. فبدلاً من ركوب صهوة الجواد، ورفع المقاتل سيفه ليقطع به الرقاب، أضحى الصاروخ وسيلة تقنية، ابتكرها العقل البشري، لتزيد من حصاد الرؤوس وتطاير الأشلاء. فهل التراجيديا ماتت حقاً؟ وهل مات البطل الأسطوري، وأسطورية الإنسان أضحت في حاضره؟ أبحاجة إلى الأساطير والحكايات الخرافية، وحكايات طفل صغير حابي على أربعة يشم وينظر ويلمس: التدمير، الاستلاب، العفن، الجوع، العطش، الخوف.
لقد تسربلت التراجيديا القديمة في الحياة وثناياها ومنحنياتها وطرقها، ولا يرى البرم البشري والضجر والقهر والقلق، ولا تسترعي دموع الثكالى والعاشقات اللائي يذرفن الدمع على عشاقهن الذين غادروا الحياة من دون كلمة وداع إلى مجهول أشبه بالسديم.
اصطبغت الحياة بالحسّ التراجيدي، وارتدت أردية الموت، وتحوّلت إلى نتف ممزقة متشظية غير أنها لصقت كولاجياً وكأنها حياة، سوية، وهي شكل من أشكال التعبير عن دندنة الضمير الإنساني وصراخه المكتوم. لم يمت البطل التراجيدي إذاً، ولم تمت التراجيديا، إنما توسعت رقعتها، وتغيّر سياقها، فبدلاً من بطل أسطوري، ننظر إلى الحياة لنجد أنفسنا أبطالاً تراجيديين، لما يلفّنا من حزن، وما ندركه بعين العقل من اللامنطق الذي صار منطقاً، ومن الصمت الذي تحوّل إلى حوار.
لم يمت أبطال التراجيديا، إنما مات من لا يرى في الحياة تلك الشبكية الهائلة والعجيبة من التزاحم والتطاحن والاقتتال. وعلى رغم ذلك، يبقى الأمل بترقب قدوم لحظة توهج كما هو حال «غودوت» في مسرحية «في انتظار غودوت» لمؤلفها بيكيت. أو الذين يلتقون في الأماكن العامة مبتعدين عن زحمة الطرقات والضجيج، للحظة تأمل بعيدة عن هوس العالم واصطخابه كما حدث ذلك لـ«بيتر» و«جيري»، في مسرحية «قصة حديقة الحيوان» لمؤلفها إدوارد أولبي. أو لمن يدّعي المعرفة، وهو فيها مفلس، كما في مسرحية «الأستاذ» لمؤلفها يونسكو، إذ ظهر الأستاذ من دون رأس. أو ممن عانوا الفراغ في حياة باعدت بين بني البشر ولم تتبق بينهم وسيلة للتواصل الاجتماعي ـ الإنساني، غير الوهم وتخيل قدوم الزائرين للعجوزين في مسرحية «الكراسي» ليونسكو أيضاً.
إن سطوة تراجيديا الحياة، بصورتها الخانقة الجاثمة على أنفاس البشرية، لهي أقوى من سطوة البطل التراجيدي الأسطوري، وهي أعنف وأكثر حدة من «كريون» في مسرحية «آنتيغون» لمؤلفها سوفوكليس، بوصف البشر ظلّوا في تحدّيهم كل ما يحيطهم لمحاولة تثبيط همتهم وكسر أرادتهم.
ويتجلى ـ وعلى وفق ما تقدّم، أنّ الحنكة البشرية وما أصابها ويصيبها، ظلّت متماسكة، وذلك وحده يبث طاقة كبيرة تفوق طاقة التراجيديا القديمة.
لقد تحوّل الأبطال الأسطوريون إلى أبطال نحيا معهم أو بظلهم، كما حال البطلة «نورا» في مسرحية «بيت الدمية» لمؤلفها أبسن، التي كانت ترى صورة زوجها أكبر من صورته الحقيقية، وسرعان ما انكشف زيف منظورها المضبّب للزوج المخادع، ولوضعها بوصفه الدمية الجميلة وكأنها جزء من أثاث البيت التي يمتلكها الرجل. إلا أنّ «نورا» تقف متحدّية ذلك الزوع الأبوي في شخص زوجها، وتلك السيطرة التي بسطها عليها، بعدما اتضحت معالم الصورة المريعة للزوج ـ الرجل ـ الإنسان ـ بوصفه شكلاً من أشكال الامتداد الأسطوري ـ غير المنظور، ويعدّ من وجهة نظري جهنمية القدر الذي ساق «نورا» لأن تكون زوجة لهذا الرجل، مثلما كانت الآلهة تختار الأقدار المحتوية، وقبل أن يطلق الوليد صرخته الأولى وهو يطلّ على الحياة كما في أسطورة «أوديب»، التي كتبها سوفوكلس مسرحية بعنوان «أوديب ملكاً»، البطل الاسطوري لم يختر قدره، بل اختير و«نورا»، تم اختيارها كذلك من قبل زوجها، وعملت على هذا الأساس. إلا أنها تثور ضدّ قدرها، كما فعل «أوديب» ونحاول تغيير مسار حياتها، وتصفق الباب بقوة، وكأنها تبصق على حياتها السابقة، وقدريتها التي زجّت بها. إلا أن مصيرها بعد خروجها عدّ مجهولاً. ويعني ذلك، أن محنتها لم تزل قائمة أسوة بوجودها.
ولم تكن مصادفة عندما مسّ تنسي وليامز في مسرحية «قطة على سطح صفيح ساخن» الوضع المزري لحياة العمال وما يكتنف «اليانكية» من حياة مزدحمة، تشمّ منها رائحة القذارة وقد تسمّمت بخراب أخلاقيات البشر.
إن موت الروح الإنسانية، والإحساس بشهقات «سيزيف» وهو يدفع بصخرته، هي ذاتها شهقات البشرية وإن لم تدفع تلك الصخرة السيزيفية، في العلاقات المقطوعة، المتناحرة أو المخطوءة للأبطال كما في مسرحية «طائر النورس»، لمؤلّفها تشيخوف، فلم يعد المحبّ يعرف حبيبه، وإن عرفه، فإنه يرفض الاتصال والتواصل معه. لهذا يمر الأبطال بمحنة التقاطعات العاطفية، وكلّهم يحبّ، إلا أنه لا ينال ممّن يحبّ شيئاً ولا حتى تقارباً، إنما دائرة متقطعة للعلاقات التي لا تعرف سبيلاً واضحاً للحياة، وبذلك تعكّرت صفوة مشاعرهم وانطمست معالم حياتهم وكبتوا بأنفسهم لوعتها، وبذلك تكسرت مصائرهم، وخبت آمالهم، والتفوا بعباءة تراجيديا الحياة بحزنها وموت عاطفة الوجود فيها.
وتجلّت التراجيديا بحياة خبت فيه ذات البطل المعبّرة عن ذات جمعية أو أنموذج إنساني، وقد تحوّل فيه الإنسان إلى شيء ما، ومعنى ذلك فقد روحه وتعطّلت أفكاره وانزلق في هاوية التجمد والتأسلب، وبذلك فقد شخصيته وانتماءه إلى الأرض. وبذلك فقد هويته الخاصة، إن البطل تحوّل إلى ذات أوسع من كونها ذات البطل، إنما إلى ذات إنسانية كما في مسرحية «مستر صفر» لمؤلفها آلمر رايس، فالبطل مجرّد رقم بارد فقد قيمته بوصفه إنساناً.
إنّ محكّات الصراع ترتدت جلباباً جديداً وصيغاً أخرى، لهذا ظهرت معان لم تكن لتشكّل محوراً واضحاً وجلياً لدى الإغريق على سبيل المثال. وعلى رغم التقسيم لمجتمعهم بين أسياد وعبيد، إلا أن الروح الإغريقية تدفع إلى الالتصاق بالحياة، بينما في حياتنا المعاصرة، لم يعد البطل ملتصقاً ومنتمياً إلى الأرض التي شيّد نسغه فيها وامتدت جذوره في باطنها، إنما عاش محنة وجوده بوصفه بشراً وتكالبت عليه كلّ المستجدات: الصناعة، الزراعة، الاقتصاد، الأزياء، وموضاها، الفضائيات… إلخ لتجعل منه بطلاً تراجيدياً في الحياة وخلقت منه أسطورة من زواية جديدة يمكن أن يطلق عليها «ميتا إنسان» ـ أي ما فوق الإنسان.
وتأسيساً على ما تقدّم، فإن التراجيديا لا تخبو ولا تنطفئ جذوتها بخفوت صورة البطل التراجيدي الأسطوري، إنما اتخذت التراجيديا شكلاً أكثر تحرّراً من الصيغ القديمة لبنية البطل التراجيدي في ضوء الدبيب الناشب بين الذات والموضوع، بين الواقع والمتخيل. لهذا، لم يعد البطل التراجيدي في ظلّ المحنة الإنسانية منتمياً إلى الأمكنة التي انبثق عنها سواء كان: أميركياً أم انكليزياً، فرنسياً أم برازيلياً، روسياً أم ماليزياً.. إلخ. فالبطل انطلق من مكان ما، بيئة ما، إلا أنّ منظوره أوسع، في البحث عن لحظة وئام وانسجام بعد إحساسه بالتشرّد وضيقه من الضجيج والآلية والزحمة والتطاحن والتآكل، والتمزّق والتشظّي. إنه بطل آدمي يمكن أن يطلق عليه «ميتا ـ بطل» فقد يكون هذا البطل أنت أو أنا، أو أي واحد، وقد يظهر في أيّ بقاع العالم، بوصفه يختزل الوجود البشري، وينسّق سياقات دفاعات البشر ضدّ ترسانية العالم وحديديته بفوضاه المنظّمة وتمزّقه الظاهري، وكأن «ميتا ـ بطل» ما هو إلا لحن جماعيّ لبكاء البشرية ونحيبها، لا لأنهم فقدوا سرّ الخلود كما ذهبت «ملحمة جلجامش» إليها، بل لأن الخواء يعمّ الحياة على رغم قصرها، ولأن العويل مستمرّ على رغم ناطحات السحاب، ولأن البشر ظلّوا بميل عدم الاكتراث إلى المصير ذاته الذي سيؤولون إليه.
لهذا، فإن عذابات «ميتا ـ بطل» ليست تلك الزلة التي أشار أرسطو إليها في كتابه «فنّ الشعر»، إنما الزلّة في الوجود ذاته، وبدورها تولد التراجيديا وتولّد بطلها.
فالإنسان كائن من: روح و جسد، حس وعقل، رغبة وواجب، وكل الثنائيات تشكّل تنوّعاً مثلما تشكّل نافذة إلى الصراع بوصفه مبدءاً من مبادئ الحياة. وبذلك، تُستقرَأ التراجيديا من لبّ الحياة ومخاض البشرية، ليولد بشر أصحاء، أقوياء، متماسكين، قادرين على مواجهة العالم بشيء من الصرامة والجَلَد. إلا أنّ الحياة بفوضاها العارمة وأنظمتها الصارمة تجتهد بتمزيق ذات الإنسان، وبذلك تسطع التراجيديا، التعبير الأشدّ وطأة وتغلغلاً في مكنونات الإنسان وأسرار الحياة الخبيئة، وبحثاً متواصلاً لماهية الوجود، ذلك هو السؤال الجوهري الذي تطرحه التراجيديا المعاصرة بصيغة مغزلية، تلفّ خيوط الأبطال وأشباههم لتخلّف معاً «ميتا ـ بطل»، إلا أنه ليس أسطورياً.
باحث عراقي
تنويه: يمكن الرجوع إلى النصوص المسرحية المذكورة في متن الدراسة، لتعميق منظور القارئ في ما ذهبت إليه.